دهشة أخرى١
الآن أدهشنا الدكتور «إمام إبراهيم أحمد» بعد أن أراد أن يدهشنا في المرة الأولى فأخطأه الهدف.
أراد أن يدهشنا بخبر عن «إراتستين» وهو لا يعلم أن العلامة الفلكي القديم «بلدينا» على وجه من الوجوه، وأننا جلسنا حيث كان يجلس ونظرنا على التحقيق إلى مساقط الأشعة الشمسية حيث كان ينظر إليها، وسمعنا بقصته قبل أربعين سنة، وكتبنا عنه قبل ثلاثين سنة، وتتبعنا ما يُقال عنه وعن نظريته؛ فليس فيها ما يدهشنا في هذا الزمن الذي لا ندري هل تقلُّ فيه المدهشات أو تكثر، وهل تنقص أو تزيد.
أما الآن فالدكتور الفاضل يعوض ما فاته ويدهشنا على غير قصد منه، دهشة تستحق تعب السطور التي كتبها والتي نكتبها في الإشادة بها والإشارة إليها.
قلنا في تعقيبنا على كلام الدكتور: «وإنما يرصد اللون الأحمر في المريخ وفي غيره ليعلم منه مقدار المسافات التي تبتعد بها كواكب المجرة، إذا اختلف لونها وضربت قليلًا إلى الاحمرار.»
وكله مدهش
وكل ما قاله الدكتور في هذا التعليق مدهش حقًّا؛ لأنه ينفي أمورًا مقررة في كتب الثقات من الرياضيين والفلكيين، وعليهم نعول فيما نذكره عن هذه الملاحظات.
وترجمتها الحرفية: «نحن في الواقع بقياس درجة الاحمرار نستطيع أن نستخرج السرعة التي يتراجع بها الجرم عنا.»
وقد وضح الأستاذ هويل ما يعنيه فقال: «ولعلك لاحظت أن الصفارة في القطار المقبل لها حدة صوتية أعلى من الصفارة في القطار المدبر؛ فالنور الذي يصدر من مصدر متحرك له هذه الخاصة بعينها، فحدة النور تهبط، أو كما نقول عادة تحمر، كلما كان المصدر يتحرك مبتعدًا عنا، ونحن نلاحظ أن النور من المجرة يحمر، وأن درجة الاحمرار تزداد على نسبة ابتعاد المسافة عنا.»
فإذا لم يكن معنى هذا أن الكوكب يضرب إلى اللون الأحمر، فماذا يكون معناه؟
ولقد كررنا أن الكتب التي نقرؤها في مسائل الفلك هي الكتب الموضوعة لغير المختصين، ولكن لا يفهم من ذلك أن الذين كتبوها غير مختصين بعلومها؛ لأن الواقع أنهم جميعًا من أكثر المختصين اختصاصًا بما يكتبون فيه.
والملاحظة التي ينفيها الدكتور إمام منشورة في كتاب بلغ من ذيوعه أنه صدر في ثلاث طبعات، وأنه كان موضوع التعليقات الإذاعية والصحيفة والتقريظات من كبار العلماء.
أما احمرار لون النجم بتأثير المواد المنبثة في أجواز الفضاء، فلم يكن مما قصدناه في مقالنا السابق، ولكننا ندهش لقول الأستاذ: «إن هذه الدراسة لا تصل بنا إلى استنتاج السرعة التي يبتعد بها النجم.»
وبعدُ، فالذي نود أن يعلمه الدكتور الفاضل أننا لا نقرأ هذه الدراسات لنكون فلكيين أو رياضيين، ولكنه يستطيع أن يوقن كل اليقين أننا لا نبيح لأنفسنا أن نخط كلمة فيها، ما لم نكن معتمدين فيها على مراجعها، والتبعة بعد ذلك على المراجع إن كانت هناك تبعة، ولكنها إذن تبعة لا يسلم منها إنسان.
قزل باش
ومن قزل نجم ننتقل إلى قزل باش.
أما «قزل نجم» فهو المريخ.
وأما «قزل باش» فهو الرأس الأحمر باللغة التركية، وهو انتقال إلى قصة الطربوش؛ لأن هذا الغطاء الأحمر للرءوس لا يريد أن يحتجب عن الأعين بسلام.
قلنا في مقال لنا: إن الترك العثمانيين أخذوا الطربوش من اليونان، وإنه الآن يفارق الرءوس بعد أن تركه اليونان والعثمانيون، وأوشكنا أن نتركه نحن المصريين.
فكتب إلينا السيد «حسن نصرت» يقول: إن الترك عرفوا غطاء الرأس الأحمر من غير اليونان، وإن طائفة منهم في آسيا الصغرى تلبسه وتسمى من أجل ذلك «قزل باش»، وإن الطربوش باق إلى اليوم بين المسلمين في بلاد البلقان وما جاورها.
والسيد «نصرت» لم يخطئ حين قال إن الترك اتخذوا غطاء أحمر للرأس غير الطربوش.
ولكن الفرق بعيد جدًّا بين «القزل باش» والطربوش اليوناني على أنواعه؛ لأن «القزل باش» يطلق على أصحاب طريقة دينية تلبس العمامة الحمراء ذات العذبات الاثني عشر، وتعتقد أنها عمامة الإمام علي بن أبي طالب — عليه السلام — وأن العذبات فيها إشارة إلى الأئمة الاثني عشر من ذريته، ولم يلبس هذه العمامة أحد من سلاطين الترك العثمانيين، بل لبسها على نقيض ذلك شاهات الفرس الصفويون؛ لأنهم من الشيعة، على خلاف الترك العثمانيين فإنهم سنيون، وبينهم وبين القائلين بالإمامة الاثني عشرية أو الإمامة على إطلاقها خلاف شديد.
وهذه الطريقة الدينية تنطوي على أسرار تكتمها ولا توافق السنة ولا الشيعة في عقائدها وشعائرها، ومنهم من يصوم الأيام الأولى من المحرم — أول السنة الهجرية — ولا يصوم شهر رمضان، ودعواتهم التي يرتلونها في الأناشيد تتردد فيها أسماء علي وعيسى وموسى وداود، وكأنهم يميلون إلى التوحيد بين الأديان، وإن كانوا لا يعلنون ذلك لغير «الواصلين».
وفي أفريقيا الوسطى
على أننا نذكر الآن أن الطربوش لا يزال معدودًا في الطليعة بين أغطية الرأس التي يحتفل بها أبناء أوغندة وأفريقيا الوسطى، وقد ذكرنا ذلك يوم مرور «الكاباكا»؛ أي ملك بوغاندة بمطار ألماظة، فإنه يلبس الطربوش أحيانًا كما يلبسه جنوده الوطنيون، وقد تختلف ألوانه بعض الاختلاف، فلا تنحصر في اللون الأحمر كطرابيشنا المصرية، ولكنه في قالبه وشكله طربوش مصري لا تختلف فيه عينان.
هل لا بد من غطاء رأس؟
والحق أنه سؤال لا بد أن نوجهه إلى أنفسنا بعد ما رأيناه من خاتمة عهد الطربوش.
فهل نترك الطربوش ولا نخلفه «بغطاء رأس» على الإطلاق؟ وهل يبقى فريق منا بالعمامة وفريق منا عراة الرءوس بغير شارة قومية لغير المعممين؟
لقد كان الباحثون في توحيد الزي يتجهون في بحثهم وجهة غير صحيحة؛ إذ يظنون أن الأوربيين موحدون في غطاء الرأس، وأننا نحن المصريين خاصة غير موحدين.
فتسمية الغطاء على الرأس بين الأوربيين باسم واحد — وهو القبعة — لا يعني أنهم متفقون في زى واحد، فإن الفرق ما بين قبعة وقبعة أبعد من الفرق بين غطاء الرأس في الهند وغطاء الرأس في قطر من الأقطار الأوربية، وإذا نظرنا إلى القبعة بأشكالها وألوانها والأنسجة، أو الجلود التي تُصنع منها؛ فقد يجتمع منها مائة شكل أو تزيد، ولكننا إذا حصرنا أغطية الرأس المصرية لم تختلف هذا الاختلاف، ولم يكن منها — عدا العمامة والطاقية — إلا طربوش واحد بلونه وشكله ونسيجه متشابهًا على جميع الرءوس.
فمسألة التوحيد في غطاء الرأس عندنا ليست بالمشكلة التي نبالغ فيها بالقياس إلى أغطية الرأس عند غيرنا.
ولكن الأوربيين يخلعون القبعة في الطريق وفي محل العمل وفي البيوت، ويحسبونها مع ذلك «غطاء للرأس» لا يزال على هذا الاعتبار كما كان قبل القرن العشرين.
أما نحن فنخلع الطربوش ولا نتخذ لنا غطاء قوميًّا للرأس يحل في محله، أو نتمثل به قوميين بغطائنا الخاص كما يتمثل الأوربيون «مقبعين»، سواء لبسوا القبعات أو حملوها في اليد أو تركوها في البيوت.
ولا اعتراض لنا على زي من الأزياء يقع عليه الاختيار بلا تفرقة بين الطربوش والطاقية واللبدة والعمامة، ولكن كيف يا تُرى يقع هذا الاختيار؟
إننا نغتبط بحرية الفرد في ملابسه أمام قيود المجتمع التي لم يكن لها معنى في العصور الماضية.
ولكن الانتقال من تلك القيود إلى الفوضى التي تلغي وحدة المجتمع، لا تؤمن عقباه على الحياة الاجتماعية في الشئون الجدية التي تتماسك عليها بنية الأمة.
والشعائر والرموز حقيقة لا ننساها ولا نستطيع أن ننساها، فإن المجتمع الذي لا يذكرنا بوجوده وحقوقه بشيء يواجه النظر والخيال، يسهل نسيانه في غير هذه الظواهر التي نظن لأول وهلة أنها ليست ذات بال.
وقبل أن نقول ذهب الطربوش، يجب أن نتحسس جوانب رءوسنا لنعلم ماذا نضع عليها في مكان الطربوش.