البحث عن سر الحياة١
ولادة العذراء
بعد تمهيد متردد أعلنت الصحف التي تنطق بلسان الفاتيكان أن قداسة البابا «بيوس الثاني عشر» رأى السيد المسيح في يقظته، أيام مرضه الأخير الذي عرض له منذ عام وشفي منه بعد أسابيع.
لا نريد أن نُفسر هذه الظاهرة، ولكننا نعتقد أن نظرة صاحب القداسة حجة وثيقة في مسألة يهتم بها الكثيرون في هذه الأيام.
تُرى أية صورة للسيد المسيح كانت أقرب إلى الصورة التي نظرها صاحب القداسة وعرف أنها صورة السيد المسيح؟
إن قداسة البابا قد رأى من هذه الصور، التي تخيلها كبار الأقطاب في مختلف الأمم والأزمنة، عددًا لم يره غير القليل، وليس فيهم من يضارع قداسته في الحكم على جودتها وإتقانها من الوجهة النفسية والفنية.
رآها قداسته في متاحف الفاتيكان، ورآها في المعابد التي زارها والمراجع التي اطلع عليها، وقداسته معروف باطلاعه الواسع على موضوعات الفن والثقافة، وعنده مع هذا الاطلاع إجلال لمقام السيد المسيح لا يسمو عليه إجلال.
فإذا كانت الملامح التي نظر إليها قداسته تقارب صورة من الصور التي اجتهد أقطاب التصوير في تخيلها، فنظرته ولا شك حجة قوية لترجيح هذه الملامح على غيرها، وتغليب الصورة المختارة عن مئات من الصور التي تُخالفها.
وهذه الظاهرة — ظاهرة الرؤيا البابوية — تأتي في أوانها على الأقل ليستفيد منها المشتغلون بعرض التواريخ المقدسة على اللوحة البيضاء، أو المتسائلون عن إمكان عرضها على المسرح في الروايات التمثيلية، فإننا منذ شهرين نسمع الأسئلة الكثيرة في هذا المعنى، يسألها الخبراء الفنيون ورواد معاهد الفن والتمثيل.
سمعناهم يسألون: هل يجوز تمثيل «الشخصيات المقدسة» على اللوحة البيضاء، أو على مسارح التمثيل؟
وقبل الإجابة عن هذه الأسئلة كنا نقول إن السؤال يحتاج إلى سؤال يسبقه، ونتفق فيه على رأي راجح.
فقبل سؤالنا: هل يجوز؟ ينبغي أن نسأل: هل يمكن؟ ثم ننتظر الجواب من شهود العيان وخبراء الفنون.
وعلى ذكر صورة السيد المسيح نقول إن المجموعة التي لدينا من صوره تشتمل على نحو مائة صورة، عمل في تصويرها كبار الفنانين سنوات طويلة، واختلفت نظراتهم وبيئاتهم على حسب الأمم التي نشَئوا فيها، والمذاهب التي يدينون بها، والعصور التي عاشوا خلالها؛ فمنهم مجريون وروسيون، ومنهم نمسويون وألمان، ومنهم إيطاليون وإسبان، ومنهم هولنديون وفرنسيون، ومنهم إنجليز وأمريكيون معاصرون.
وإذا سئلنا أية صورة من هذه الصور تقارب النظرة التي ننظرها والشعور الذي نشعر به، فلا نستطيع أن نقول إننا نرتضي منها أكثر من صور ثلاث أو أربع بين عشرات وعشرات.
بعض المصورين يخيل إليه أنه يأخذ بالنظرة الواقعية، فيصور السيد المسيح كأنه عبراني من العبرانيين، لا يتميز من الألوف الذين ينطبع في الذهن أنهم يمثلون الملامح العبرانية.
وبعض المصورين يخيل إليه أن الصورة التي تدل على السيد المسيح لا تكون إلا مجموعة من الأشعة، تتخلق بينها الملامح الآدمية.
وبعضهم يملؤه بالحيوية الجسدية، وبعضهم يحيطه بالظلال الروحية، وكلهم لا يعطيك الصورة التي تُطابق في نفسك ما توقعت وتأملت، فنقول على الأثر: نعم هكذا ينبغي أن يلوح لنا هذا الروح العظيم.
إنني لا أتخيل أن السيد المسيح كانت له ملامح العبرانيين النموذجية؛ لأنه لو كان كذلك لما أنكر أحوال العبرانيين في زمانه، وعلى الوجوه لا بد أن تظهر عوارض النفوس.
ولا أتخيل أنه كان طغاوة من الأشعة؛ لأن من كان كذلك لا يقلب موائد الصيارفة في الهيكل، ولا يقول إنه يلقي السيف كما يلقي السلام.
ولا أتخيل أنه حيوية جسدية ولا أنه ظلال روحية، ولكنني أتخيل أنه «حماسة في وداعة»، تلفت النظر بالطيبة والقوة بعد نظرات طويلة، ولا أقول بعد نظرة واحدة.
أما الصور القلائل التي أقول إنني ارتضيتها بين نحو مائة صورة فهي: صورته في العشاء الرباني، من عمل ليونارد دافنشي؛ وصورته مع الأطفال، لكلٍّ من بلوكهورست وكوبنج؛ وصورته وهو يتلقى قبلة يهودا الأسخريوطي، لجاسبر جيجر؛ وصورته أمام ببلاطس الحاكم الروماني، لمنكاشي. وكلها تمثل السيد المسيح مع آخرين ولا تمثله على انفراد، وهذه «نقطة» مهمة يجب الالتفات إليها؛ لفهم الإيحاء الذي يستعين به المصورون من طريق المقابلة أو المناقضة.
فيكفي أن يتخيل المصور منظر الخيانة في يهودا ليُحسن التخيل حين يتصور نقيضها، مع الفارق في العظمة والطهارة.
ويكفي أن يتخيل المصور براءة الأطفال الشاعرين بالعطف الذي يحيط بهم ليرسم صورة الأبوة العاطفة، ويعطيها مسحة الأبوة الروحية.
ويكفي أن يتخيل مناظر السلطان الدنيوي أو الكهنوتي في حضرة بيلاطس والكهنة اليهود، ليتخيل ما يقابل هذا السلطان الدنيوي من سلطان الروح وسماحة التسليم.
وعلى هذا كله لا أشعر أنني رأيت أمامي صورًا تستجيب لكل ما في النفس من جو الشعور بحضرة السيد المسيح.
أما تمثيل المسرح واللوحة البيضاء للسيد المسيح، ففي وسعي أن أقول إنني لا أذكر هيئة واحدة تطابق الشخصية المسيحية في حركاتها وسكونها وكلامها وصمتها وغيرتها وحزنها وأعمالها المتعاقبة في سائر أوقاتها، ولا شك أن هذا التمثيل أصعب جدًّا من تخيل المسيح في هيئة واحدة يؤديها التصوير.
فالسؤال: هل يجوز؟ يسبقه السؤال: هل يمكن؟ ولا يتسرع القائل بالإمكان إلا إذا كان الحس الظاهر أغلب على نفسه من صور الوجدان كما يتمثل في ملايين النفوس.
صورة محمد — عليه السلام
ولقد سمعت الأسئلة في هذا المعنى في سياق الكلام على صورة النبي محمد — عليه السلام.
فقلت: إن الواقع هنا أقرب إلينا من الخيال.
والواقع معروف مستمد من التاريخ الذي لا خلاف عليه، سواء منه تاريخ النبي وتاريخ صحابته المقربين.
لقد كان حول النبي رجال من طراز أبي بكر وعمر وعلي وعثمان وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص وأبي عبيدة الجراح ومعاوية بن أبي سفيان.
كان كل من هؤلاء الرجال يقيم الممالك ويقود الجيوش، ويهزم القياصرة والأكاسرة، ويحسن ولاية الأمر في وطنه وغير وطنه.
وكان منهم رجل كعمرو بن العاص، يقول إنه لم يجرؤ على أن يملأ نظره من وجه محمد.
وكان منهم رجل كابن الخطاب، عاش إلى آخر أيامه وهو يعيد كلمة «يا أخي»؛ لأنه سمعها مرة من فم محمد في موقف وداع.
وكان منهم رجل كمعاوية، يحتفظ بقلامة ظفر من إصبع محمد، ولا يفرط فيها وهو على سرير ملكه.
ولولا أن «شخصيته» تعز على التمثيل، لما دانت له هذه الشخصيات زهاء عشرين سنة، ولا يقال إنها هيبة الإيمان وحده؛ فإن هذه الهيبة لا بد لها من هيبة «شخصية» تناسبها، وتناسب قدرها الرفيع في نظر المؤمنين.
وقد رأينا على اللوحة البيضاء من حاولوا تمثيل صلاح الدين الأيوبي فلم يفلحوا.
فهل تراهم يفلحون في تمثيل ذلك الرجل الذي لا نظير له بين الرجال؟
لا نخالهم يفلحون، ولا ضير عندنا من تمثيل أناس من عظماء الإسلام في مقام الدعوة والتكريم، فأما الشخصيات المقدسة التي تعلو على ذلك كثيرًا، فالإشارة إليها من بعيد أوفق للفن وللمقام. ومن ظن غير ذلك، فليحاول ما شاء على سبيل التجربة في موقف أو موقفين، ثم لينظر ماذا يرى من ظنونه بعد ذاك.