كانْت١
فاتني ولم يفتني
فاتنا أن نشهد الحفل الذي أُقيم في القاهرة تحية لذكرى الفيلسوف العظيم عمانويل كانْت لانقضاء مائة وخمسين سنة على وفاته، ولكن لا يفوتنا أن نشكر الدكتور عثمان أمين لقيامه عن أدباء مصر بهذا الواجب وسداد هذا الدَّين، وهو دَين يستحقه الفيلسوف في ذمة كل شرقي على الخصوص وكل مناهض لزبانية الطغيان والاستعمار.
وإنما يعزينا عن هذا السهو — في هذه الذكرى الأخيرة — أننا سبقنا الدكتور عثمان أمين إلى قضاء هذا الدَّين بثلاثين سنة، ولعلنا انفردنا يومئذ بتحية الفيلسوف العظيم في هذه الديار، فكتبنا عنه فصلين لانقضاء مائتي سنة على مولده سنة ١٧٢٤، وسرَّنا يومئذ أن يطلع عليهما الدكتور جرمانوس المستشرق المجري فيقول: «إنه يتكلم الألمانية منذ صباه، وإنه يقرأ «كانت» ويقرأ شراحه باللغة الألمانية، ولكنه لم يفهم «كانت» بتلك اللغة كما فهمه من ذينك المقالين باللغة العربية.»
سابق لأوانه وفي أوانه
وخير ما يذكر به فيلسوف العصور الحديثة الأكبر، أنه نشأ في القرن الثامن عشر ولا يزال سابقًا لأوانه في القرن العشرين، ونحسب أنه سيظل سابقًا لأوانه عدة قرون.
ويقال ذلك عنه في المحسوسات كما يقال في المعقولات؛ فإنه قرر مكان السيارات الشمسية، التي كشفت بعد تقدم التلسكوب، وهو لا يعول على شيء غير التقدير المضبوط والحساب الدقيق.
ويظهر فضله في هذه الفطنة النافذة متى علمنا أن الفيلسوفَ هيجل خليفتَه في الشهرة العالمية، والذي ولد بعده بنحو أربعين سنة، قد سخر من علماء الفلك لأنهم يبحثون عن سيارة ثامنة. قال: ولو أنهم نظروا في مباحث الفلسفة بعض نظرهم في مباحث علم الهيئة، لوضح لهم أن السيارات سبع، ولا يمكن أن تكون أكثر من سبع، ولا أقل من سبع بأي حساب.
ولم يكد كتابه الذي يقرر فيه هذه البديهية على زعمه يظهر وينتشر بين المؤمنين به، ومنهم كارل ماركس، حتى أعلنت المراصد الفلكية ظهور سيارة ثامنة وانتظار سيارات أخرى لم يبلغها الرصد إلى ذلك الحين!
إن دقة «كانت» في هذه المحسوسات تجاريها، بل تسبقها، دقته في المعقولات، ومنها قضية الاستعمار وقضية السلام.
فقد كان الاستعمار يومئذ يخطو في الشرق والغرب خطواته الأولى، وكان الحكيم يتطير من عواقبه على السلام العالمي، وينبئ الناس بالحروب الكثيرة والثورات الجائحة التي تهددهم من جراء مطامع المستعمرين. وكان اعتقاده، الذي أعلنه في بروسيا ولم يحذر عواقبه، أن القضاء على الاستعمار مرهون بقيام الحكومات الجمهورية التي لا تستغل جهود الأكثرين لإشباع نهمة الأقلين.
مبارزة بسلاح البرهان
وعلى رصانته الراجحة، كان أصحابه يعلمون أن إثارة موضوع الاستعمار كافية لاستدراجه إلى الكلام والإفاضة في الشرح والتعليق ولو في الطريق.
فاتفق يومًا في حديقة عامة أن أناسًا من أصحابه استوقفوه وفتحوا معه موضوع الحرب بين بريطانيا العظمى والثوار الأمريكيين، فنسي نفسه وحمل على الدولة البريطانية حملة شعواء، وانتصر لكل أمة من أمم الشرق والغرب تطمع فيها دول الاستعمار.
وإنه لينطق في هذه الحملة العنيفة إذا برجل قوي ينحني أمامه ويدعوه إلى المبارزة.
وسأله الفيلسوف: ولِمَ يا صاح؟
قال الرجل: لأنني إنجليزي، وأنت منذ ساعة تهين بلادي على مسمع من هؤلاء.
ولا ننسى أن الفيلسوف الذي كان يقتحم الأخطار الكبار بشجاعته الأدبية لم تكن له قدرة كهذه القدرة في مبارزات السلاح، ولم يعرف السلاح قط في حياته التي قضاها بين المعاهد والمكتبات، وكان هذا المارد الفكري قزمًا لا تزيد قامته على خمس أقدام، وقلما تقوى رجلاه على حمله برأسه الكبير.
ولكنه لم يتلجلج ولم يتلعثم أمام دعوة المبارزة، وقال له إنه يختار سلاحه ويبارزه بسلاح البرهان؛ لأنه هو السلاح الذي وقعت به الإهانة، أو وقع به العدوان!
وغني عن القول أن صاحبنا قد اختار سلاحه وهو عارف بقوته فيه، فلم يلبث خصمه أن اعترف بالهزيمة، وطاب له حديثه فاسترسل معه فيه، ولم يشعر بنفسه إلا وهو على مقربة من مسكن الفيلسوف، والفيلسوف يدعوه إلى زيارته! فكانَت هذه الزيارة فاتحة الصداقة الطويلة بين الخصمين!
في أوانه بالسنة واليوم
ومن المصادفات التي تتفق كثيرًا في سير نوادر العبقريين، أن هذا الحكيم العظيم الذي يقال عنه بحق إنه سابق لأوانه في علمه وتفكيره، قد كان مرهونًا بوقت معلوم في رسالته الفكرية، وكاد هذا الوقت المعلوم أن ينطبق على أيام عمله بالسنة واليوم، فلو تقدم قليلًا أو تأخر قليلًا لضاع في الظلمات وذهب اسمه بين غمار المنسيين والمجهولين.
قال شوبنهور: «إن عمانويل كانْت كان الجوهرة العليا في تاج فردريك الكبير، فما كان لمثل كانت أن يعمل أستاذًا بمرتب من الدولة في ظل حكومة أخرى من حكومات الكرة الأرضية، ثم يؤذن له بما قاله في كتبه عن الملوك، ولو أنه تقدم قليلًا أو تأخر قليلًا، لما كان عندنا ذلك الشخص المسمى باسم عمانويل كانْت، ويندر أن يكون الحكام من الرجال العظام، فإذا بلغ من عظمتهم أن يدركوا عظمة الآخرين، فهم جدراء بالحمد من بني الإنسان.»
ولقد حدث فعلًا بعد موت فردريك الكبير أن ابنه غضب على الفيلسوف ونقم عليه جرأته في آرائه ومعتقداته، ولكن الفيلسوف كان قد فرغ من أهم كتبه وأدى أمانته لتلاميذه ومريديه، وكان قد شاخ وبلغ السبعين وأحب الإخلاد إلى الراحة، فكف عن الكتابة المثيرة واعتذر بطرفة من طرف المعاذير، لا نذكر لها نظيرًا غير اعتذار فرنسيس باكون من نوع آخر، قبل ذلك بنحو مائتي سنة.
فأما كانْت فقد كان عذره أن كلامه غامض لا يفهمه أحد من عامة القراء، فلا خوف منه عليهم، ولم يكذب كانْت في هذا الاعتذار، بل لعله بالغ في الاعتدال حين قال إن عامة القراء وحدهم هم الذين لا يفهمونه، وإنه ليعلم أن صديقه «هرتز» من طبقة المفكرين قد أعاد إليه كتابه قبل أن يتمه، وقال إنه يعيده إليه قبل أن يذهب به إلى المارستان!
أما اعتذار فرنسيس باكون فقد كان تحفة أخرى من تحف الاعتذار الغريبة؛ لأن هذا الفيلسوف — إمام الفلسفة التجريبية — كان كبيرًا للقضاة فاتُّهم بالرشوة فلم ينكرها، ولكنه قال إنه كان يتقبل الهدايا من الخصمين ليقاوم الزيغ والانحراف، ويضطر إلى الحكم بينهما بالإنصاف!
ولم تكن توبة نصوحًا من جانب رسول السلام والمسالمة؛ فقد عاد إلى الكتابة عن الثورات والأخلاق، فلم يقلع عنها إلا وقد علت به السن، وأطبق الخوف على ذلك الدماغ الضخم، وودع الحياة وهو لا يعلم أنه يودعها ويستقبل ما وراءها، ومن سخرية المقادير أن ذلك الرأس القوي، الذي حاول أن يحيط بما بعد الحياة والموت، قد مات وهو لا يعلم أنه يموت!