كارل ماركس يفتري على أستاذه١
لي أصدقاء أعزاء أعرفهم ويعرفونني، ويزيدهم إعزازًا عندي أنني عرفتهم بالسماع فلم أرهم ولم يروني، ولم تكن بيننا من واسطة للتعارف إلا ما أكتبه في الصحف وما يكتبونه إليَّ بالبريد.
هؤلاء الأصدقاء أنا حريص على صداقتهم، محتفظ بها على شريطة واحدة معقولة وأخالها مقبولة؛ وهي ألا تكلفني هذه الصداقة أن أدخل نفسي إلى قفص الاتهام طوعًا كلما سمعوا كلامًا عني يسوءهم، ويريدون أن يدفعوه فلا يجدون أحدًا غيري يتكفل لهم بهذا الدفاع.
ومن هؤلاء الأصدقاء، رجل حسن النية يُساق إلى طريق الشيوعيين أو يسوقون أنفسهم إليه، فيغيظونه بما يقولون عني؛ لأنني بحمد الله أغيظهم ذلك الغيظ الذي لا يشفيهم منه البذاء والعواء؛ لأنهم أول من يعلم أنه افتراء.
هذا الصديق على البعد يسومني أن أدخل قفص الاتهام كلما سمع من القوم فرية ينسبونها إلينا، ولست أريد منه ولا من أمثاله المخلصين أن يؤمنوا بالعصمة على الغيب، ولكني أريد منه ومنهم ألا يؤمنوا بالفرية المسموعة بغير دليل، فلا يطلب مني أن أقف موقف الدفاع، قبل أن يطلب منهم البرهان على الدعوى. ولا يظن أنني فارغ الوقت لكل ما يقولون ويتقولون، ولا أنهم قوم يحفل لهم بشهادة حق أو باطل، وهم باعتراف أساتذتهم الأولين لا يدينون بالحق ولا بالباطل كلما ضاقت بهم حبائل الدعاية والتضليل.
شنشنة معهودة
ولست أبيح لنفسي أن أعرض لمفتريات هؤلاء الطغام، ألَّا أن يكون الكلام عامًّا في سبيل تقرير الحقيقة التي تهم القراء؛ لأنها من قبيل توضيح فكرة أو تصحيح رأي أو تمكين معرفة نافعة.
كان لهؤلاء القوم إمام قذر الروح والجسد يُسمى كارل ماركس، وكانت تمر به الشهور دون أن يغتسل، ويمر به العمر كله دون أن يكف لحظة من لحظاته عن إلقاء قاذوراته على الناس، ومنهم من أحسنوا إليه.
وقد طبق ذلك في معاملته لأستاذه باكونين، الذي حقد عليه لشهرته وحسن الأحدوثة عنه بين دعاة الفوضوية والشيوعية، فافترى عليه أنه كان مأجورًا للخفية الروسية، مع أن الرجل كان محكومًا عليه بالموت من محاكم الدول الثلاث: روسيا والنمسا وبروسيا، ولما أعلنت هذه الأحكام قال إنها حيلة مدبرة لتيسير التجسس له على الثوار المهاجرين من تلك البلاد، واتهمه باختلاس أموال مخصصة للدعاية الثورية، فظهرت براءته أمام اللجنة التي انتخبت من أساطين الدعاية لبحث هذه التهمة، وزعم أن الأدلة على جاسوسية باكونين محفوظة في أوراق الكاتبة الفرنسية جورج صاند، فلما أعلنت هذه الكاتبة كذبه، عاد فاتهمها هي بأنها خليلة لباكونين تُنكر الحقيقة وتتستر عليه.
ثم انجلت الحقائق جميعًا من المحفوظات التي تكشفت بعد موت ماركس وباكونين، فعرف الماركسيون وغير الماركسيين أي قيمة للحق ولكرامة الأبرياء عند ذلك المخلوق القذر، الذي يدين له أتباعه من واغش الآدمية في هذا الزمان.
وإذا كان عصر باكونين وماركس بعيدًا بعض البعد، فالعصر الحاضر — إلى أشهر قليلة — قريب يدل على قيمة التقديس والتنجيس معًا عند هذا الواغش المحسوب على الآدمية، فماذا كانت صفات «بريا» في موسوعاتهم العلمية؟ وماذا أصبحت بعد أربع وعشرين ساعة من سقوطه إلى الهاوية؟ بل كيف كانوا يعبدون ستالين بالأمس وكيف أصبحوا يلعنونه اليوم؟!
إن أشد الناس مبالاة بلغط الثناء أو التشهير ليهون عليه أن يفقد ثناءهم ولا يشتريه بقبضة من تراب، ويهون عليه أن يتلقى سبابهم أو يحسبه من السباب، وهو أشرف لمن يتلقاه من أشرف الألقاب.
وعلى هذا الرأي في قيمة سبابهم وثنائهم، أذيع هنا خلاصة النشرة الداخلية رقم (٥٧)، التي قال صديقنا المراسل، أو قيل له، إنها نشرة سرية توفرت عليها لجنتهم الثقافية، لتكشف الستار عن حقيقة العقاد المأجور وحقيقة الأخبار الصفراء، وحقيقة ناصر الدين النشاشيبي الجاسوس، وحقيقة كل إنسان يعرفون هم حقيقته على أسلوب كارل ماركس في معرفة الحقائق عن المحقود عليهم من المتنازعين والمنافسين.
فالعقاد إذن مأجور.
حسن، إنه لخبر يصدقه السامع كما يصدق كل خبر بدليله، فما هو دليله؟ بل ما هو الدليل على أن العقاد رجل يقبل الأجور من مستأجري الضمائر والأقلام؟ وأين هذه الأجور يا ترى؟ وأين آثارها في حياة الرجل الذي يكتب منذ أربعين سنة ولا يزهد أحد في استئجار قلمه، إن كان من أقلام الأجراء؟
يا صديقي المخلص الأمين!
شكرًا لك، إنك من المخلصين على البعد، وإنك تغار على سمعة هذا الكاتب من أقاويل المفترين، ولكني أدلك على طريق غير الطريق الذي تلجأ إليه كلما سمعت الفرية بعد الفرية ممن لا يستغرب منهم كل افتراء، فلا تطلب مني الدفاع أو البيان عن البراءة قبل أن تطلب الإثبات أو البيان عن الاتهام.
العقاد مأجور.
يجوز، ولكن هل يجوز ذلك بغير دليل؟
إذن هاتوا الدليل، فكل اتهام لا دليل عليه فإنما هو ضرب من القال والقيل، وأضعف ما يكون سندًا أن يلغط به مَوتور هزيل أو موتورون مهازيل.
أما أن يذهب العقاد باختياره إلى قفص الاتهام كلما انفجر بالغيظ كاذب نمام، أو واغش من حثالة الهوام، فدون ذلك وينفق كارل ماركس وأتباعه، من يومه المشئوم في زمانه، إلى آخر الأيام.