الأقمار الصناعية كلام قديم١
يظهر أنني سأتولى لأخبار اليوم مهمة البوليس الفلكي، أو بوليس الأخبار الفلكية التي يذيعها البرق بعد أوانها بعشرين سنة في بعض الأحيان، وبعشرين قرنًا في أحيان أخرى!
فمنذ أسابيع أنبأنا البرق من العالم الجديد بخبر اليوم، أو بخبر الساعة، كما قيل في ذلك الحين، وزعم لنا أن المصادر الرسمية تذيع لأول مرة أنها تشتغل باختراع الأقمار الصناعية التي تدور حول الأرض كما يدور القمر، وأن كثيرًا من الأطباق الطائرة إنما هي تجارب أولية لهذا الاختراع.
وعجبنا لزعم البرق أن الخبر يذاع لأول مرة من المصادر الرسمية، فإن الكتب المطبوعة منذ سنوات تقرر فيها هذه الأخبار، منسوبة إلى مصادرها الرسمية التي أعلنتها قبل سبع سنوات.
أما حديث الأقمار الصناعية في غير المصادر الرسمية، أو الحكومية، فأقدم من ذلك بأعوام طوال.
•••
وفي الأسبوع الماضي نقلت أخبار البرق أعجوبة جديدة في زعم وكلاء الأنباء، ونشرتها الصحف اليومية عندنا على هذا الاعتبار، وزبدتها أن العلماء يعللون اللون البرتقالي والألوان المخضرة الداكنة على المريخ بأنها ألوان البقاع الواسعة على ذلك الكوكب، وهي تتبدل حسب اختلاف المواسم الزراعية.
إن الجمعية الجغرافية الأمريكية أعلنت أن أحد علمائها اكتشف على سطح كوكب المريخ الأحمر اللون منطقة كبيرة، لونها أزرق ضارب إلى الخضرة، تُقدر مساحتها بمائتي ألف ميل مربع؛ أي ما يعادل مساحة ولاية تكساس، والمعتقد أن هذه المنطقة تغطيها مادة خضرية حية، وقالت الجمعية في بيانها إن هذا الكشف يعد أعظم تطور في معرفة الإنسان لجغرافية المريخ، منذ أن صنعت خريطة كاملة لهذا الكوكب.
وقالت الجمعية الجغرافية في بيانها إن البيولوجيين يميلون إلى الاعتقاد بأن هذه الحياة أقرب ما تكون إلى المادة الموجودة في أنواع الفطر المعروفة باسم الجزاز الصخري، التي تنمو على الصخور في المناطق الجدباء من سطح الأرض وعلى قمم الجبال، ويقول الدكتور سلايفر إن مثل هذه النباتات يمكن إنماؤها في المعامل تحت ظروف طبيعية وكيمائية معينة، والمعروف أن هذه الظروف متوفرة في المريخ.
وإذا كان في جو المريخ شيء من الأكسجين الطليق، فإنه يكون بنسبة ضئيلة جدًا، وكذلك الأمر بالنسبة إلى بخار الماء.
•••
هذه هي الأخبار والبرقية المثيرة.
وكلها — حرفًا حرفًا — مقررة في كتب الفلك التي طُبعت قبل سنوات، ومقررة كذلك في البحوث التي يسجلها أساتذة الجامعات، وأنت لا تفتح كتابًا واحدًا من كتب الفلك المبسطة، أو الكتب المطولة التي أُلفت لغير المختصين، إلا وجدت فيها هذه التقريرات جميعًا بمختلف العبارات والأساليب.
إنك تستطيع بمجهر صغير أن ترى العلامات على المريخ، فإن اللون الغالب برتقالي أحمر، وهو اللون الذي من أجله سُمي الكوكب بإله الحرب لهذه الصبغة الدموية، ولكن هنالك علامات داكنة أيضًا نلاحظها بضع دقائق، فنرى أنها تزحف وسط القرص من اليمين إلى الشمال.
لا يدهشنا وجود النبات على المريخ؛ حيث تلائمه حالة الجو، وإنما المدهش حقًّا ألا يوجد فيه نبات!
هذا كتاب من المبسطات الفلكية.
وكتاب آخر من المبسطات، كما يدل عليه اسمه، يقرر هذه المشاهدات بعبارة أخرى.
يتألف المريخ من قيعة ثلجية قطبية، تتراجع في الصيف وتنتشر في الشتاء، ومن نطاق محمر يحيط بالكوكب في مداراته الشمالية، ولعله يقابل النطاق الصحراوي من الصحراء الكبرى إلى جوبي، ومن مساحة خضرة إلى اسمرار ثابتة في جملتها، ولكنها تتغير في المواسم: منظرًا ولونًا وتخطيطًا، وتشير إلى وجود النبات.
ثم يقول إن الماء فيه، إن وجد، فهو قليل.
وعلى المريخ نرى شيئًا يجوز أن يكون نباتًا، ولا مسوغ للجزم بامتناع وجود الأحياء الشاعرة عليه، وإن لم يكن ثمة دليل على وجودها ولا قرينة تعرفنا بأشكالها.
ويشبه هذا الكتاب كتاب الحياة والكون لمؤلفه إيرل نلسون، وهو يقول في الصفحة الثانية والثلاثين وما بعدها: «إن المريخ يبدو محمرًّا، ويظن أن احمراره ناشئ من امتصاص الصخور لمعظم الأكسجين من جوه، والحياة كما نعرفها لا يمكن أن توجد في أحوال كأحوال المريخ، ولكن الحياة متطورة وفقت بينها وبين ظروف متباينة، فيجوز أن تكون حيواناته قد وفقت بينها وبين أحواله زمنًا طويلًا، ويجوز على هذا أن تكون موجودة في جوه الضئيل.»
وكتاب السيارات هذا قد صدر سنة ١٩٥٢، ويحيل على كتب صدرت قبله بعدة سنوات.
ومن أشهر القائلين بإمكان وجود الحياة على المريخ، العالم الفلكي سبنسر جونس، صاحب كتاب الحياة على العوالم الأخرى، وهو على ترجيحه وجود النبات في المريخ يقول: «إن لون سطح المريخ يزودنا بدليل قاطع على وجود الأكسجين الطلق في الماضي على الأقل، ويكاد وجود الأكسجين الطلق يستلزم وجود النبات، فإذا قرنَّا هذا الاستدلال بالأدلة التي تجتمع لدينا من التغييرات التي تطرأ على سطحه، حسب اختلاف الزرع موسمًا بعده موسم؛ أمكننا أن نفهم من ذلك أن وجود نوع من النبات في المريخ محقق أو يكاد، وليس في وسعنا أن نقول إن الحياة الحيوانية — وبخاصة أنواعها العليا — يمكن أن توجد في المريخ؛ لأن قلة الأكسجين فيه تجعل وجودها هنا بعيد الاحتمال، وإن كان رفض هذا الاحتمال رفضًا قاطعًا غير مستطاع لنزارة ما نعلمه عن حقيقة الحياة، غير أن مسألة وجود هذه الأشكال العليا في الوقت الحاضر على سطح المريخ، قليلة الخطر بالقياس إلى المسألة الأخرى التي تكاد تتحقق بالدليل القوي، وهي وجود حياة كائنة ما كانت هناك.
كتبنا هذا قبل ثلاث سنوات في كتابنا «عقائد المفكرين»، وكان أحلاس القهوات ورقعاء البارات يعيبون يومئذ كتابنا في هذه المسائل؛ لأنها من مسائل القرون الوسطى التي فات عليها الأوان، ثم يأتي لهم البرق في أخباره المستعجلة بما كتبناه قبل ثلاث سنوات عن أخص حقائق الحياة، وطبل وزمر «يا جدع أنت وهو» بأدب الحياة وقصص الحياة وأسرار الحياة وأخبار الحياة.
وما هي أخبار الحياة عند هؤلاء؟
لا يكون الخبر عندهم خبر حياة، إلا إذا كان خبرًا عن امرأة هلوك أخذها ماجن رقيع وذهب بها إلى حيث يتمم القصة كتاب الإيضاح وما إليه؟
•••
- (١)
أن بعض العلماء في هذا العصر يجني عليهم ضيق التخصص، فيعكفون على بحوثهم ولا يطلعون على بحوث زملائهم الذين سبقوهم إلى مثلها في أمثال أرصادهم، ولعلهم يكررون بها كل ما سبقوا إليه.
وهؤلاء المتخصصون «المغلقون» معروفون في البيئات العلمية الأمريكية من أجيال مضت، وإليهم يشير فولتير أمريكا — وندل هولمز — في أحاديث المائدة، التي ذكر فيها رجلًا ثائرًا على معركة الانتخاب، فحسبه من أنصار بعض المرشحين لرئاسة الجمهورية، ثم سأله فتبين له أن هذه الثورة إنما تدور على الترشيح لرئاسة فرع من فروع البحث في علوم الحشرات!
ونظن أن هذا التخصص المغلق هو الذي أطرفنا بخبر من أخبار البرق عن أمور منشورة في الكتب منذ سنوات.
- (٢)
وأن بعض وكلاء الأخبار يخطفون أطراف الكلام قبل أن يتبينوه، ولعلهم لو تبينوه لما عرفوه، ولا يستغربن أحد في مصر ذلك؛ فقد رأينا أناسًا من هؤلاء «الفطاحل»، فإذا هم أشباه أميين يراسلون الصحف العالمية، ونحسبهم نحن — مخدوعين فيهم — من حملة الأقلام العالمية!
- (٣)
ولا بد أن نذكر في هذا السياق أن أخبار المريخ تتطاير بها البلاغات البرقية؛ لأنها ترتبط بمسألة الخلود ولا ينحصر أمرها في مسألة الحياة؛ إذ يسأل بعض المؤمنين: كيف يا تُرى يكون خلاص الأرواح المريخية، كما أن خلاص الأرواح الأرضية في عقائد المؤمنين بخطايا الجنس البشري وحاجته إلى الفداء؟
- (٤)
وخاتمة المطاف اليوم أن اللغط الذي يهذر به أحلاس القهوات عندنا خليق بالإهمال الذي يلقاه من قراء العربية في كل آونة؛ لأنه سخف ينم على جهل مطبق، أو على افتراء أناس مأجورين يندفعون بأمر الموعزين إليهم من حيث لا يفقهون، فما من مخلوق يعقل ما يقول يزعم أن الأدب العصري، أو أدب الحياة العصرية، صفة تخلع على حكايات السرير ولا تخلع على دراسات تبحث عن الحياة في كل زاوية من زوايا الكون، ولا يتراخى عليها القدم كما يهذرون، بل يحسبها وكلاء الأنباء أحيانًا من عواجل البرقيات.