إنجيل برنابا١
… قرأت إنجيل برنابا ترجمة الدكتور الفاضل خليل سعادة عن الإنجليزية، ولفت نظري أن الدكتور المحترم يشك في نسبة هذا الإنجيل إلى القديس برنابا، بينما يحاول السيد رشيد رضا إثبات نسبة هذا الإنجيل إلى القديس، فما رأي سيادتكم في ذلك؟ وإذا كان هذا الإنجيل لم يكتبه برنابا، فمن الذي كتبه؟
القديس برنابا هو أحد الحواريين الاثنين والسبعين، الذين أرسلهم السيد المسيح للوعظ والتبشير في أرض الجليل، وهو الذي قدم بولس الرسول إلى جماعة المسيحيين الأولين في بيت المقدس وزكاه عندهم؛ لأنهم كانوا يرتابون فيه، وهو خال مرقس الإنجيلي ومرشد البعثة الرسولية إلى بلاد اليونان؛ حيث ارتفع في أعينهم، وظنوا أنه الإله جوبيتير قد عاد إلى الأرض في ثوب الآدمية، «فرفعوا صوتهم قائلين إن الآلهة تشبهوا بالناس ونزلوا إلينا، فكانوا يدعون برنابا زفس؛ أي جوبيتير، وبولس هرس؛ أي عطارد؛ إذ كان هو المتقدم في الكلام.» كما جاء في كتاب الأعمال.
وقد كتب برنابا إنجيلًا لا شك فيه، ويقول السيد رشيد رضا في مقدمته: «إننا لم نقف على ذكر لإنجيل برنابا في أسفار التاريخ أقدم من المنشور الذي أصدره البابا جلاسيوس الأول في بيان الكتب التي تحرم قراءتها، فقد جاء في ضمنها إنجيل برنابا. وقد تولى جلاسيوس البابوية في أواخر القرن الخامس للميلاد؛ أي قبل بعثة نبينا ﷺ، على أن بعض علماء أوربا يرتابون اليوم في ذلك المنشور، كما ذكر الدكتور سعادة في مقدمته، والمثبت مقدم على النافي.»
والحقيقة أن هذا الإنجيل لم يكن مجهولًا قبل القرن الخامس كما وهم بعض العلماء الأوربيين وتابعهم في ذلك الدكتور خليل سعادة؛ لأن الإشارة إليه وردت في كتابات أوريجين، وكلمنت، ويوسبيوس، وأبرنيموس، ولاردنر، ومنهم من اقتبس منه وروى عنه، فهو ولا ريب قد كان معروفًا في القرن الثاني للميلاد.
لكن هل الإنجيل الذي كتبه برنابا واطلع عليه أولئك الأقطاب من آباء المسيحية في القرنين الثاني والثالث، هو بنصه هذا الإنجيل الذي تُرجم إلى اللغة الإنجليزية ونُقل إلى العربية؟
حقيقة واحدة يمكن الجزم بها، وهي أن إنجيل برنابا لم يكن موافقًا كل الموافقة للأناجيل الأخرى في جوهره وأصوله؛ لأنه لم يعتمد مع تلك الأناجيل عند إقرارها.
أما فيما عدا هذه الحقيقة، فالواضح لدينا أن الإنجيل المترجم إلى اللغة الإنجليزية قد أُضيفت إليه زيادات غير قليلة، وقد لوحظ في كثير من عباراته أنها كُتبت بصيغة لم تكن معروفة قبل شيوع اللغة العربية في الأندلس وما جاورها، وأن وصف الجحيم فيه يستند إلى معلومات متأخرة لم تكن شائعة بين اليهود والمسيحيين في عصر الميلاد، ولسنا نعني بذلك ما قيل من أن وصف الجحيم في إنجيل برنابا منقول من قصة دانتي الشاعر الإيطالي عن الكوميديا الإلهية؛ فإن الوصفين لا يتفقان عند المقابلة بينهما، وإن الشاعر دانتي نفسه قد نقل صورة الجحيم في قصته عن مصادر معروفة له ولغيره، ومنها ما يرجع إلى أشعار هوميروس وقصائد شعراء الرومان وأساطير التلمود.
فليست المشابهة بين وصف برنابا ووصف دانتي هي علة الشك في بعض عبارات الإنجيل المختلف عليه، وإنما نشك في كتابة برنابا لتلك العبارات لأنها من المعلومات التي تسربت إلى القارة الأوربية نقلًا عن المصادر العربية، وليس من المألوف أن يكون السيد المسيح قد أعلن البشارة أمام الألوف باسم «محمد رسول الله»، ولا يُسجل هذا الإعلان في غير صفحات هذا الإنجيل.
كذلك تتكرر في الإنجيل بعض أخطاء لا يجهلها اليهودي المطلع على كتب قومه، ولا يرددها المسيحي المؤمن بالأناجيل المعتمدة في الكنيسة الغربية، ولا يتورط فيها المسلم الذي يفهم ما في إنجيل برنابا من المناقضة بينه وبين نصوص القرآن.
ولهذا يخطر لنا أن الزيادات قد أُضيفت بقلم كاتب لم يقصد ترويج هذا الإنجيل بين اليهود أو المسيحيين أو المسلمين، ولكنها زيدت لإلقاء الشبهة عليه ووقف سريانه بين طائفة من الطوائف، حذرًا من ظهور نسخة أخرى تقل أسباب الشك فيها فيسهل قبولها والاستناد إليها.
ولا نقول إن هذا الظن هو الظن الوحيد الذي يخطر على البال؛ فإن الزيادة قد تكون بقلم يهودي أو مسيحي أسلم، فأحب أن يُعدل الكتاب بما يوافق معتقده، ولم يشمله كله بالتعديل لصعوبة تعديل كتاب كامل على نسق واحد، فبقيت فيه مواضع التناقض والاختلاف.
وخلاصة الرأي بعد ملاحظة جميع الاحتمالات أن إنجيل برنابا كان إنجيلًا موجودًا في القرن الثاني للميلاد، وأنه لم يكن موافقًا كل الموافقة لسائر الأناجيل، ولا كانت هذه الموافقة منتظرة بعد الخلاف الذي حدث بين القديس وبولس الرسول وأدى إلى استقلال كل منهما بالتبشير، ولكن إنجيل برنابا الذي قرأه أوريجين وكلمنت ويوسبيوس وسائر الآباء المسيحيين في القرنين الثاني والثالث، لم يشتمل على كل ما جاء في نسخة الإنجيل المترجمة إلى الإنجليزية والعربية.