المذاهب الهدامة تهدم نفسها١
يكتب الماركسيون كثيرًا عن الأديان وعلة نشوئها وتطورها، ويخصون الإسلام بقسط وافر من هذه الكتابة، ويبنونها كلها على فكرة واحدة، يكررونها على نسق واحد في كل دين؛ فلا يدري القارئ ما هو الفارق بين دين ودين سواه. وفيهما من النقائض ما لا يصدر عن علة واحدة، أو علل متشابهة، بل كثيرًا ما يكون أحدهما هادمًا لغيره في عقائده وفرائضه وآدابه، قاضيًا ببطلانه وتكفير القائلين به وإخراجهم من عداد المؤمنين بالإله الحق والرسل الأبرار، وليس من المفهوم أن تكون أسباب النقيضين على اتفاق.
ولم أفرغ من قراءة فصل من فصولهم هذه عن الأديان عامة، وعن الدين الإسلامي خاصة، إلا وَرَدَ على خاطري هذا السؤال: أي الفريقين أولى بنشر هذا الكلام؟! أهم أنصار المذهب الماركسي، أم أنصار الدين الذي ينتقدونه ويشرحون علة نشوئه ويريدون أن ينقضوه بشرحهم لهذه العلة؟
إن فضائل الدين قد تحتاج إلى مجهود لشرحها وتوضيح أسرارها، أو توضيح الأسباب العميقة التي تنبعث منها العقائد، وتتخذ لها من الأشكال والرموز ما يلائم كل زمن ويوافق كل طور من أطوار التفكير والمعرفة.
إن وضوح هذه الفضائل لا يتكشف على جلائه بغير شرح وبرهان، ولكن وضوح السخف المطبق في أقوال الماديين، الذين ينقدون الأديان ويبسطون أسباب ظهورها، أمر لا يتردد فيه الذهن بعد نظرة عابرة، ولا يُعاد فيه النظر مرة بعد مرة إلا ازداد وهنًا على وهن، وتهافتًا على تهافت، وأصبح حجة للدين على ناقديه، ولم تبق منه حجة للناقدين على الدين.
ولقد جاوز الماديون حد التوفيق في كراستهم «الرمادية»، التي نشروها بالعراق وجمعوا فيها أقوال القدماء منهم والمحدثين عن نشأة الدين الإسلامي وبواعث الدعوة المحمدية؛ فما من مقدار من الأخطاء المتلاحقة يجتمع في صفحات كراسة واحدة كهذه الكراسة الرمادية، إلا بتوفيق كتوفيق الإلهام، لولا أنه إلهام معكوس يتنحى فيه الصواب لنقيضه من الخطأ والزيغ والكذب الصراح.
لقد كانت هزيمة كسرى مثلًا في وقعة ذي قار سببًا لثورة العرب على فارس، ولكنك تقرأ بعد سطور أن قريشًا كانت تعتز بسلطان كسرى في رفضها لدعوة النبي العربي، وأنه «كان من أسباب إذعان القرشيين وفاة كسرى ملك الفرس في سنة ٦٢٨ ميلادية؛ إذ كان هذا الشاه معروفًا بحمايته لعباد الأوثان، ففقدوا بوفاته كل أمل للحصول على مساعدة من الخارج …»
وخلال ذلك تقرأ أن سببًا من أقوى أسباب ظهور الإسلام أن إله قريش «أحرز التفوق على سائر الآلهة، أما أرباب العشائر الضعيفة … فقد دعوا أولاد الله.»
ولا تقول لنا الكراسة الرمادية: لماذا يا تُرى كانت قريش تنقم على التبشير باسم الله، وتُعاند الداعي إليه ذلك العناد، الذي لم ينكسر ولم يتراجع إلى التسليم، إلا بعد اليأس من حماية الشاه المشهور بعبادة الأوثان؟ ولا تقول لنا الكراسة: لماذا هاجر النبي من موطن قريش عبَّاد الإله الأكبر، ليستعين عليهم بأعداء ذلك الإله من أبناء يثرب الذين يعبدون غير الله؟
وتقرأ في الكراسة أن انتصارات العرب «لم تكن نتيجة حماسهم الديني، بل كان سببها انحلال الدولتين العظيمتين بيزنطة وإيران بعد حرب طويلة أنهكت قواهما، وكان رعايا هاتين الدولتين قد عانوا كثيرًا من الضرائب المتزايدة والاضطهادات الدينية، فلم يُبدوا الرغبة في الكفاح ضد الفاتحين، وعدا ذلك لم يكن لديهم قوة الكفاح.»
ولا نريد أن نسأل: لماذا دخل الفرس المنهزمون في الإسلام وأقبلوا على الدخول فيه مختارين؟ ولماذا تبعهم في القارة الآسيوية أضعاف أضعافهم من البوذيين والمجوس والوثنيين، الذين لم يشتبكوا في حرب قط مع العرب الفاتحين؟
لا نريد أن نسأل هذا السؤال، بل نريد أن نأخذ على اللجاجة طريقها الطويل؛ فنسأل: ولماذا استطاع العرب المسلمون أن يهزموا المشركين من العرب وقد بلغوا عشرة أمثالهم في بعض الحروب؟
إن المحاربين من الفريقين كانوا يتألفون من طبقات متشابهة؛ في الغنى والفقر، وفي الحرية والعبودية، وفي الرئاسة والاتضاع.
ففي جيش المسلمين سادة وعبيد، وفي جيش المشركين سادة وعبيد.
وليس المشركون جميعًا من أصحاب الإقطاعات، ولا المسلمون جميعًا من الفقراء المرهقين بالديون.
وقد كان أبو بكر وعثمان وخالد بن الوليد من ذوي اليسار، وكان في جيش المشركين ألوف من الأرقاء والمحرومين، فما هي القوة التي غلب بها الأقلون الأكثرين غير حماسة الدين؟
ويقودنا ذلك إلى سؤال آخر يستلزمه إكثار الماركسيين من ذكر الاستغلال تارة، وذكر الصعاليك تارة أخرى، فنسألهم: هل قام الإسلام لأن المستغلين أقاموه، أو هو قد قام لأن الصعاليك أقاموه ثائرين على أولئك المستغلين؟
والنبي — عليه السلام — ما مصلحته «الاقتصادية» في تأييد الإقطاعيين؟ وماذا استفاد لنفسه أو لأهله من تأييدهم، إن صح أنه كان يختصهم بالتأييد؟ ولماذا يثير عليهم المستضعفين ليعيش هو نفسه بعد ذلك عيشة المستضعفين؟
إن كان «الاقتصاد» يفعل كل ذلك، فهذا الاقتصاد مخلوق عجيب من عجائب الجان؛ يتشكل على جميع الأشكال، ويتلون بجميع الألوان، بل هو مخلوق متناقض؛ يعدو مع الذئب ويهرب مع الأرنب، ولا يحمد الغنيمة في الحالتين!
•••
والجهل وحده لا يكفي للاهتداء المظلم إلى هذا التوفيق المعكوس من الأخطاء والأكاذيب في خلق الأغراض والعلل، فلا بد مع الجهل من سوء النية لهذا الانحراف المتعمد عن محاسن الأديان، إصرارًا على حب التشويه والتشهير بغير دليل غير هوى النفس الخبيث.
فلا بد من سوء النية لإنكار تحريم الربا في الإسلام، استنادًا إلى تعاطي الربا أحيانًا في البلاد الإسلامية، واعتبار هذا العمل دليلًا على أن الإسلام ديانة «إقطاعية» تخدم الإقطاعيين، فما من عاقل يزعم أن القانون لم يحرم جريمة من الجرائم لأن الناس يقترفون تلك الجريمة، وآخر من يحق له أن يزعم هذا الزعم جماعة الماركسيين، الذين يعلمون أن تطبيق الماركسية لم يمنع اتهام الألوف من زعماء المذهب وخدامه بجرائم استغلال النفوذ وخيانة الشعب والخروج على المبادئ المقررة فيه، ولم يمنع ثورة العمال والأُجراء في المجر؛ لأنهم يطلبون الخبز والكساء، ولم يمنع سلب الحرية في الكتابة والتفكير لإكراه الناس على اعتقاد لا يعتقدونه، ورأي لا يصبرون عليه بغير ذلك الإكراه.
وإذا كان مؤلف الكراسة الرمادية جاهلًا بالإسلام وتاريخ الجزيرة العربية، فالعربي الشيوعي الذي نشرها أجهل منه بتاريخ بلاده، بل بتاريخ ما حصل في بغداد وعلى مقربة منها قبل الإسلام وبعد الإسلام، فهو يجهل تاريخ اللخميين ويسميهم اللخمديين، متابعة للكلمة الأجنبية على غير علم بمعناها، وهو يذكر ثورة الزنج فيسميها الزنجة، ويتكلم عن قبيلة ثقيف ومنها الحجاج الذي حكم العراق زمنًا، واشتُهرت أفعاله وأقواله هناك، فيُسمى تلك القبيلة بقبيلة السقيف، بل هو لم يقرأ القرآن الكريم، ولم يقرأ سورة الفتح خاصة، وهي مدار التشهير بالجهاد في سبيل الله وبما زعموه من فتوح المسلمين لغير حماسة في الدين، فالمترجم العربي يترجم الصراط المستقيم في أول السورة وفي بعض آياتها فيقول: «إن الحرب قد سُميت في القرآن الكريم بالطريق الأعلى.» ومثل هذا النقل قد تكرر في كل كلمة مفردة نُقلت من القرآن الكريم؛ كالحنفيين وهي لم تذكر في الكتاب، وإنما ذكر فيه الحنيف والحنفاء، ومثله تسمية الأشهر الحرم بالأشهر «المقدسة»، ومثله تسمية قريش بالقريشيين، خلافًا للقاعدة واللفظ المسموع، ومثله ذكر العرب الرحل في مكان «الأعراب» كلما وردت الإشارة إليهم في الكراسة، ومثله أن النبي — عليه السلام — كان «يحول» وجهه في السماء ترجمة لقوله تعالى: قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ إلى كثير من أمثال ذلك، فيما عدا الآيات التي ذكرت في اللغة الأجنبية بأرقامها، فعرف المترجم مكانها من المصحف ونقلها بحروفها على غير علم بمعناها.
وأول ما يُفهم من ذلك أن أدعياء العربية والإسلام، الذين نشروا تلك الكراسة بين أبناء قومهم، كانوا كفارًا متطوعين للكفر قبل أن يقرءوا كتابهم، ويطلعوا على تاريخ دينهم، وينظروا في نقده وتجريحه نظر العارف بما يقوله الناقدون ويقوله المخالفون لهم في الجواب عليهم، وإنما طبعت قلوبهم على الضغينة والتمرد؛ حسدًا للناس وذهابًا مع الشر والنقمة، فكفروا وهم لا يعلمون ما الإيمان، وما وجه الإنكار على الإسلام أو على غيره من الأديان.
وتلك شنشنة مألوفة في هؤلاء الماركسيين على اختلاف نصيبهم من العلم بما يكتبون فيه، زاعمين فخورين بأنه كتابة علمية أو كتابة «تحليلية»، وهم لا يزيدون فيها على أسبابهم «الاقتصادية» التي يثبتونها على أسلوبهم بكلمات يبعثرونها هنا وهناك، تتخللها ألفاظ محفوظة عن الاستغلال والجشع والأجور والكدح والكادحين والأموال التي تحسب بالملايين، ويكفي مجرد الإيماء إليها لإثارة الحسد والضغينة في نفوس السامعين أو القارئين، وكل من تقبلها منهم فهو — قبل الكفر الذي يعلله بأسبابه «الببغاوية» — كافر متطوع بلا سبب معقول غير طوية الحقد واللوم وشهوة الافتراء على عباد الله، وعلى «الله» الذي يقولون عنه إنه «غير موجود»، وكل ما قالوه شاهد ناطق بأنهم حاقدون عليه، حقدهم على الموجود الذي يصرف القضاء وبيده المنع والعطاء.
إن أبعد الناس عن الدين لهو ذلك القارئ الذي تذهب بدينه حجة كحجة هؤلاء المنكرين في كراستهم الرمادية، وإن أضعف الناس إيمانًا لَتعيده إلى التفكير في الإيمان تلك الكراسةُ التي تهدم الباطل بيديه وتنقض البهتان بلسانه، فما لم يكن متطوعًا للكفر ببرهان من الضغينة والعناد، فكل ما في الكراسة الرمادية من برهان فهو هباء يطير مع الريح، أو هو برهان للدين على المنكرين. ولولا أنه برهان معكوس، لوجب على المسلمين أن ينشروه ويتركوه لمصيره، فما هو بقادر على تشكيك أحد يطلع عليه وفي لبه ذرة من يقين.