الألعاب الموروثة
ويصل إلينا في الأسبوع نفسه تعليق من طرف آخر بتوقيع «مصطفى أبو زيد»، لا يرى صاحبه موجبًا للاستغراب ولا للعناء في البحث عن الألعاب الموروثة عن الأقدمين، أليس هذا شأن جميع الألعاب في جميع البلاد كما يقول السيد أبو زيد؟ أليست ألعاب الأطفال اليوم في كل بلد تكرارًا لألعاب آبائهم وأجدادهم في الشرق والغرب وفي كل مكان؟
وأيسر ما في هذا التعليق أنه دليل على تعدد وجهات النظر في كل خبر من أخبار الحياة العصرية أو أخبار التاريخ؛ فمن جهة تدرس الألعاب وعادات الجد والفراغ ويرجع بها الدارسون إلى أصولها العتيقة قبل ألوف السنين، ومن جهة أخرى يرى بعض المطلعين على هذه الدراسة أنها تحصيل حاصل، وأنها مما يمكن العلم به والتحقق منه بغير عناء.
لكن الواقع أن دراسة الألعاب وعادات الفراغ هامة جدًّا في دلالتها الاجتماعية ودلالتها النفسية، وقد يكون منها ما هو أهم من دراسة الأعمال الجدية؛ لأن معرفة الأمة من هزلها وعبثها وأسلوبها في قضاء أوقات فراغها، أصدق وأيسر من معرفة الأعمال الجدية التي تتقارب في أكثر الأمزجة وتتشابه بين معظم الشعوب، وإنما تُعرف النفس البشرية على سجيتها وحين تطرح الكلفة عنها، قبل أن تُعرف من الأعمال التي تتكلف لها ما ليس من دأبها في جملة أطوارها، ولهذا كانت دراسة الألعاب بابًا من أبواب التاريخ كدراسة العظائم وجلائل الخطوب.
وقد تشترك جميع الأمم في هذه الخصلة، ولكنها تعنينا بصفة خاصة في الألعاب المصرية القديمة؛ لأن الوراثة فيها — على خلاف ما يرى السيد أبو زيد — لا تشبه وراثة الألعاب في سائر الأمم العريقة؛ إذ ليست ألعاب الإيطاليين اليوم تكرارًا لألعاب الرومان في عصورهم الأولى، وليست ألعاب اليونان قديمًا كألعابهم حديثًا، إلا ما اتفقت الجماعات الرياضية في أوربة على إحيائه وتجديده، ثم نقله اليونان عنهم، كأنهم يستعيرونه من غيرهم وهو في مصدره منسوب إلى آبائهم وأجدادهم. وقد اختلفت ألعاب الإنجليز في القرون المتأخرة عن ألعاب سكان الجزر البريطانية قبل الميلاد أو في القرون الوسطى، وكذلك تختلف ألعاب الفرنسيين والإسبان والألمان مثل هذا الاختلاف، أو أشد من هذا الاختلاف.
أما في وادي النيل فالبقاء والاستمرار «طابع» الوادي منذ أقدم العصور، وعادات المعاصرين — ولا سيما أهل الصعيد — تكرار متصل لعادات الأقدمين؛ في الألعاب والأعراس والمآتم وسائر العادات المشتركة في جماعات الكبار والصغار وجماعات الرجال والنساء. ومن يشاهد اليوم آنية منزل متوسط في الأقصر أو أسوان، فكأنه يشاهد هذه الآنية في متحف الآثار، وقلما يلاحَظ في الأعراس والمآتم فارقٌ ذو بال بين ما يجري في هذا العصر وما كان يجري ونقرأ أوصافه الأثرية قبل الميلاد بألف سنة!
ولولا أن «البقاء والاستمرار» طابع دائم هنا، لما احتفل أبناء الوادي بالتخليد والحفظ كل هذا الاحتفال؛ في المراسم والأبنية والهياكل والأنصاب والموميات، وغيرها من معالم الآثار التي تدخر الزمن للبقاء بغير انتهاء، بل لولا هذا الطابع في عوامل الحياة المتمكنة من الإقليم، لما «تأقلمت» فصائل الحيوان قبل أن ينقضي عليها الجيل الثالث في هذا المناخ الثابت على مدى الدهور، وقد ظرف من قال: إن الجمل عندنا يوشك أن يطلب الماء المرشح المثلج مرة كل ساعتين، وفي كوز من الفخار القنائي النظيف.
وأظرف منه من قال لنا في أسوان: ما أحوجكم إلى الدليل للتمييز بين المتحف والدار.