سقراط واحد أو اثنان١
في كتاب مسالك الثقافة الإغريقية إلى العرب، الذي ألفه المستشرق أوليري وترجمه الدكتور تمام حسان، يقول المؤلف في تعريفه نيسطور أن «سقراط» ذكره في كتابه، ومن المعروف أنه لا يوجد في تاريخ الفلسفة سقراط واحد هو أبو الفلسفة اليونانية الذي تتلمذ له أفلاطون، وأن سقراط هذا عاش قبل المسيحية ولم يُؤلف كتبًا، فمن إذن سقراط هذا الذي يتحدث عنه المؤلف؟! وفي أي عصر عاش؟
إذا ذُكر تاريخ المسيحية، فليس هناك غير سقراط واحد يذكرونه ولا يحتاجون إلى تخصيصه أو تمييزه من سقراط الفيلسوف؛ لأن هذا — كما قال الطالب الأديب — سابق لظهور المسيحية، ولم يكتب شيئًا غير ما رواه عنه تلميذه أفلاطون وبعض تلاميذه ورواة أخباره.
أما سقراط المؤرخ فقد وُلد بالقسطنطينية حوالي سنة (٤٠٨) ميلادية، وتعلم الفلسفة والأدب على العالمين الإسكندريين هلاديوس وأمونياس، اللذين هجرا الإسكندرية فرارًا من غضب الإمبراطور، ومذهبه في كتابة التاريخ أن العناية بتسجيل الواقع أولى وأوثق من العناية بالأخبار الماضية، وأن بساطة الأسلوب أوفق للموضوعات التاريخية من الأسلوب الفخم الذي يتحراه الأدباء والشعراء، وكتابه ينقسم إلى سبعة أقسام، تبدأ من عهد قسطنطين إلى نهاية (سنة ٤٣٩)، ولا تزيد مدتها على مائة وأربعين سنة مما حضره وشهده أو نقله عن الحاضرين وشهود العيان.
ولم يكن سقراط من رجال اللاهوت، ولكنه كان على علم وافٍ بمسائل الجدل بين اللاهوتيين في زمانه، واستطاع أن يتخذ موقف الحيدة بينهم لاستقلاله عن الشيع والكنائس ومجامع الأساقفة، ووصف هذه المجامع وصفًا قريبًا لم يؤثر مثله عن مؤرخ آخر من أبناء عصره ولا من اللاحقين به في عهود الخلاف، وهذه هي قيمته التاريخية عند الباحثين في تواريخ صدر المسيحية وفي عصر قسطنطين على التخصيص، وقد تُرجم كتابه إلى الإنجليزية لأول مرة سنة ١٦١٩، نقلًا عن النسختين اللاتينية والإغريقية، ترجمه مرديث هامتر أستاذ علم اللاهوت، ولا يعسر الحصول عليه الآن، ولكنه نادر في غير المكتبات القديمة.