الجريدة والصحيفة١
… وقد جاء في صفحات مطوية من تاريخ حركة الاستقلال من مقدمة الأستاذ إسماعيل مظهر ما نصه: هذه الصفحات المطوية التي ننشرها اليوم هي خلاصة آراء أستاذنا الكبير — أحمد لطفي السيد — في السياسة المصرية من أوائل ١٩٠٧، وهي السنة التي تألف فيها حزب الأمة، وظهرت صحيفة الجريدة إلى أوائل ١٩٠٩، وعندي أن هذا العهد هو عهد الانقلاب الفكري، الذي تميز فيه الاتجاه الاستقلالي في سياسة مصر الوطنية، فما رأيكم دام فضلكم؟ هل شاعت كلمة الجريدة منذ صدورها سنة ١٩٠٧.
إنني أكتب إليكم لأنكم المرجع القريب لكل ما يعن للناطقين بالضاد في هذه الشئون.
كانت كلمة «الجريدة» بمعنى الصحيفة معروفة قبل إطلاقها على لسان حزب الأمة، وإذا صح ما سمعناه يومئذ فقد وقع الاختيار على هذا الاسم بعد عدة أسماء، لوحظ فيها أن تساعد الباعة على مد الصوت بالنداء كالزمان والميزان والجرنال … إلخ.
وقد كان بعض أعضاء الحزب لا يرى حرجًا في تعريب كلمة الجرنال واتخاذ الصحيفة بهذا الاسم لسان حال للحزب القومي؛ لأن صحيفة «الجورنال» الفرنسية كانت هي الصحيفة القومية الكبرى التي لم تتسم بالصبغة الشبيهة بالرسمية كالطان والماتان، ولكن الرأي استقر أخيرًا على اختيار اسم «الجريدة»، وتفضيل هذا الإطلاق على نسبتها إلى هيئة من الهيئات، وقد كان اختيار أسماء الصحف في ذلك العصر مسألة دقيقة لا تُرتجل ارتجالًا، على خلاف المظنون اليوم؛ فكان وراء كل اسم من أسماء الصحف اليومية مقصد سياسي ودلالة مفهومة، كما يُؤخذ من مراجعة تلك الأسماء. وقد تغير اسم الصحافة نفسها يوم ارتفع شأن الصحفيين وأنكرت الأذواق أن يطلق عليهم اسم «الجرنالجية» بلهجة الاستخفاف، وكانت تسمية الجرنال بالصحيفة وبالجريدة مرحلة انتقال في تاريخ الصحافة والصحفيين.
المقوقس وكثرة الخلاف حوله
… ما حقيقة اسم المقوقس؟ وما سبب تلقيبه بأسماء أخرى عديدة؟ وما المركز الذي كان يشغله في مصر؟ وما جنسيته ومذهبه؟ وما موقفه من الفتح الإسلامي لمصر؟
إذا قلنا للطالب الأديب صاحب السؤال إن هناك مائة قول في أمر هذا المقوقس فلا مبالغة.
وكأنما قالت «كليوس» ربة التاريخ لهذا الرجل عندما أرسلته إلى صفحاتها، اذهب فاجمع حولك كل ما تستطيع من أوجه الخلاف في أمرك، فصدع بالأمر وجمع من أوجه الخلاف المعقول وغير المعقول فوق ما استطاع وفوق ما يستطاع.
إنه مختلف في زمنه، ومختلف في اسمه، ومختلف في وظيفته، ومختلف في جنسه، ومختلف في مذهبه، ولا اتفاق على أمر من أموره بين مؤرخي العرب ولا بين مؤرخي الروم، ولا بين المؤرخين المحدثين من الأوربيين والشرقيين، وتفصيل هذه الخلافات جميعًا مبسوط في كتب «فتح مصر»، التي يرى منها الطالب مراجع شتى في مكتبة الجامعة، ومكتبة المجلس البلدي على ما نعتقد؛ فلا محل لإعادتها ولا لتلخيصها في هذه السطور؛ فإن مجرد الإشارة إليها يستغرق الصفحات.
إلا أننا نرجح جدًّا بعد المقابلة بين الأقوال المتضاربة أن المقوقس لقب تعظيم روماني، أُطلق على زعيم من زعماء مصر يدين بمذهب القسطنطينية، مع قلة صغيرة من المصريين خالفوا أبناء وطنهم في المذهب؛ فقالوا بالطبيعتين والمشيئتين للسيد المسيح، بدلًا من القول بالطبيعة الواحدة على مذهب الكنيسة القبطية.
- أولًا: أن عقد معاهدة معه لتنفيذها بعد جلاء الدولة البيزنطية عن وادي النيل، لا معنى له إذا كان الرجل يونانيًّا أو بيزنطيًّا ينتهي سلطانه ونفوذه بانتهاء عهد الروم في البلاد.
- وثانيًا: أن ألقاب التفخيم تخلع عادة على الولاة من أبناء الوطن؛ ترضية لهم وتعويضًا عن مظاهر الاستقلال، ولا تخلع أمثال هذه الألقاب على الولاة الموظفين من الغرباء.
- وثالثًا: أن اسم «مينا» تكرر في سيرة الرجل، وهو اسم لم يُطلق على أحد من المسيحيين غير المصريين.
- ورابعًا: أن مذهب الكنيسة البيزنطية كان له أتباع قليلون بين أبناء البلاد، أكثرهم من أبناء الأمهات الروميات، وليس من النادر في تواريخ الأمم المحكومة أمثال المقوقس بين أبناء البيوتات المرشحة للرئاسة، فهم يتقربون إلى الدولة الحاكمة تارة بالمصاهرة، وتارة بالمجاراة في المذهب، ولا يبعد أن يكون القول بالطبيعتين مذهب المقوقس عن اعتقاد وتصديق؛ لأن جمهرة الأمة لم تخالفه مخالفة الإجماع إلا بعد زوال السلطان البيزنطي بعشرات السنين، ولكنه — على أية حال — لم يعتقد هذا المذهب لأنه رومي أصيل، فلو أنه كان من الروم ولم يكن له سلطان بين قومه مستقل عن سلطان القسطنطينية، لما اكترث العرب لمعاهدته، ولا استحق «المقوقس» كائنًا ما كان أن يتجه إليه خطاب من النبي — عليه السلام — غير خطابه إلى هرقل عاهل الدولة الحاكمة، بل لمَا كان هناك موجب للحنق عليه بين المصريين؛ لأن مخالفته لهم ومشابهته في الرأي والعقيدة للسادة المسيطرين على البلد، كلاهما حالة طبيعية لا غرابة فيها، وإنما الغريب أن يكون الواقع غير ذاك.