العالم منذ ثلاثين ألف سنة١
نشرت صفحنا اليوم أنهم عثروا أخيرًا في أمريكا على عظمة فيل، حفرت عليها رسوم يدوية تثبت وجود أجناس بشرية كانت تقطن القارة الجديدة منذ ثلاثين ألف سنة، وآخر ما عثر عليه كان يثبت أول عمل بشري كشفوه هناك لا يرجع إلى أكثر من عشرة آلاف سنة.
والخبر مهم ينتفع به الباحثون في أبواب كثيرة من المعرفة الإنسانية، وأهم ما فيه بحث الرسوم التي حفرت على العظمة، وقدروا تاريخها بثلاثين ألف سنة، فإن علماء الحفريات يحاولون أن يفهموا حقيقة هذه الرسوم؛ ليستعينوا بها على الفصل في مسألة جوهرية من مسائل التاريخ الكبرى، ومنهم من يعتقد أن الرسوم التي وُجدت على آثار تلك الأزمنة قد تكون من قبيل التعاويذ السحرية، كما تكون من قبيل علامات الكتابة، أو من قبيل نقوش الزينة التي لا معنى لها غير التحلية والتجميل، وكل فرض يحققونه يذهب بالباحثين مذهبًا غير مذاهبهم المتشعبة في دلالة الفروض الأخرى.
أما القول بأن الكشف الأخير هو الأول من قبيله، فهو — على ما نرى — شيء لا يدل على كشف جديد في رواية هذه الأخبار العلمية: وهو أن رواة الأخبار الغربيين، ولو كانوا يعملون في الشركات العالمية، يخلطون بين أخبار آخر ساعة وأخبار القرون الأولى بين طوايا الأرض وطوايا الزمن المجهول؛ فإن الآثار التي أثبتت وجود الإنسان قبل ثلاثين ألف سنة في البلاد الأمريكية، قد مضى على كشفها نيف وثلاثون سنة، وأثارت هناك ضجة شغلت خبراء المتاحف وطبقات الأرض سنوات، ومنها آثار كشفت (سنة ١٩٢٦) في بلدة فولسوم بالمكسيك الجديدة، دلت على وجود الإنسان الذي كان يستخدم أسلحة الظران قبل نهاية العصر الجليدي في ذلك الإقليم، واقترن هذا الكشف بكشوف أخرى، أثبتت قدم الحياة البشرية في العالم الذي يسمونه إلى اليوم العالم الجديد! وربما دلت على ما هو أغرب من ذلك، إذا صح الاستدلال بالأشباه وأشكال العظام على السلالة البشرية التي تخلفت من بقاياها، فإن التشابه كبير بين الأقوام البدائية في أستراليا، وبين الأقوام الأمريكيين قبل ثلاثمائة قرن على هذا التقدير. وليست هذه أول قرينة ترجح قدم الاتصال بين القارات الخمس فيما قبل التاريخ، فإن وجود الفيل نفسه يرجح انتقال الحيوانات الوحشية من وادي النيل إلى أقاليم آسيا وأفريقيا، ثم انتقالها منهما إلى الأمريكتين.
هذه إحدى عجائب الأخبار المدفونة التي تنبعث إلى عالم الحياة من هذه الأحافير والكشوف، وينبعث معها المجهول من حياة النوع الإنساني على ظهر الأرض تحت شمس النهار.
وقد كانت الأحافير نفسها أعجوبة مجهولة قبل أن يتعلم الناس سؤالها عن خبايا تاريخهم الدفين.
كان أرسطو يرجع بها إلى توليد الأبخرة والدواخين، وكان الخرافيون يحسبونها ضربة من ضربات المسخ والغضب الإلهي، وكان الفضل الأول في التعريف بحقيقتها العلمية للفيلسوف الشرقي «ابن سينا» الملقب بالشيخ الرئيس؛ لأنه هو أول من قرر أن المتحجرات التي تشبه الأحياء والنباتات كائنات عضوية جفت رطوباتها فبقيت على أشكالها، ولم يجد هذا الفيلسوف صعوبة قط في فهم حقيقة البقايا الحيوانية بين أطواء الأرض؛ لأنه لم يجعل عمر الإنسان على الأرض مرتهنًا بعصر قريب.
والآن وقد خرجت الأحافير والمتحجرات من عداد الأعاجيب الخرافية، يرجع إليها الإنسان فيقرأ في صفحاتها الأولى حقائق الحياة على الأرض وتحت الأرض، ويتعلم منها كيف يصحح أباطيله وأساطيره التي درج عليها منذ القرون، بل يتعلم منها أنها تحتفظ له بأسرار قد تكشف له بعض الجهالات التي لا تزال تصاحبه إلى منتصف القرن العشرين.