شهوة الجدل؟١
… اسمحوا لنا أن نلجأ إليكم في مشكلة أثارها مؤلف قديم … فقد نقل هذا المؤلف عن ابن الأنباري قاضي الخليفة المهدي على البصرة؛ كلماتٍ قليلةً في الاستدلال على يسر الشريعة الإسلامية واتساعها … ثم أحال إلى مصدر آخر وجدنا فيه أن ابن الأنباري يقول: القول بالقدر صحيح وله أصل في الكتاب، والقول بالإجبار صحيح وله أصل في الكتاب، وكل من سمى الزاني مؤمنًا فقد أصاب، ومن سماه كافرًا فقد أصاب، ومن قال هو فاسق وليس بمؤمن ولا كافر فقد أصاب … إلخ إلخ.
ألا يرى أستاذنا أن كلام ابن الأنباري هذا يُظهر الشريعة الخالدة بمظهر الاضطراب وعدم الانسجام؟ … إننا نترقب الجواب لمعرفة الصواب.
قيل إن وضع السؤال نصف الجواب، ويصح أن يقال كذلك إنَّ وضع المشكلة هو نصف المشكلة، أو هو المشكلة كلها في أكثر الأمور؛ بحيث لا يبقى أمامنا وجه للإشكال ولا للاستشكال، لولا التعسف والحذلقة في تقرير الآراء، أو في خلق الآراء لخلق أسباب الخلاف.
إن القائل بأن الزاني كافر يريد أن الزاني الذي يرتكب الزنى؛ لأنه ينكر تحريمه وينكر الشريعة التي تحرمه يكفر بالدين، فهو كافر لا مراء.
ولكنه — بدلًا من أن يقول ذلك ليقول شيئًا يتفق عليه جميع السامعين — يعمد إلى العبارة المبتورة الغامضة؛ مرضاة لشهوة الجدل وتهويلًا على الناس بالحذلقة والدعوى، فيجني على الدين جناية أشد عليه من جناية العصاة.
وكذلك الخلاف على القدر والجبر لا محل له مع توضيح المراد منه؛ فنحن نؤمن بأن الله يخلق الإنسان، ونؤمن بأنه يخلق الحرية والتكليف، ونؤمن بأن الفرق قائم لا شك فيه بين الحرية المخلوقة والتسخير المخلوق، فكلاهما مخلوق، ولكن الحرية في النهاية غير التسخير.
فلو أننا قلنا ذلك للناس لقلنا كلامًا مفهومًا لا يعسر عليهم أن يتفقوا عليه، ولكن شهوة الجدل — قبحها الله — هي التي تلوي الألسنة عن الكلام المفهوم إلى الكلام الذي يطول الخلاف عليه في غير موجب للخلاف.
هذا مجمل رأينا في سؤال السيد الحسامي نكتفي به ولا نحب أن نعود إلى الخوض فيه، ولولا كثرة الأسئلة التي نقرؤها ونسمعها حول هذه الأمور، لما عرضنا لها بإجمال ولا بتفصيل، فربما نفعت هذه الكلمة الموجزة — ولو بعض النفع — في علاج تلك المشكلات التي لا إشكال فيها بطريقة ميسرة لمن يريدها؛ وهي طريقة العودة بالمشكلة إلى وضع السؤال في موضعه السليم.