الكشف الصوفي١
جاء في مقال الأستاذ جلال العشري، الذي نُشر بالعدد الأخير من مجلة الشهر، أن هناك حالات من قبيل الكشف الصوفي تعرض لكم، فهل صحيح ما ذهب إليه؟ وهل هي مما عرض للإمام الغزالي وقال فيه:
… هل صحيح ما كتب عن الشاعر ابن الرومي من أنه كان معروفًا بالشؤم؟ وهل توجد علاقة بين دخول سيادتكم السجن وبين ما كتبتم عن ابن الرومي؟
أقول لحضرات أصحاب هذه الرسائل، وغيرها من الرسائل التي لم أذكرها اليوم، إنها وردت إليَّ في بريد واحد مع رسائل اليوميات، وتعمدت أن أجمعها كلها لكي أبرز للعيان حقيقة من حقائق المصادفات، التي لا تُستغرب في الحياة الواقعية، ولكنها قد تُستغرب إذا التفتنا إليها مقرونة بموضوع معين نهتم به في وقت من الأوقات.
فهذه الأسئلة كلها تدور على الكشف والتسبيح واستطلاع الأمور البعيدة، وما إليها من الأمور المتناسبة، التي يمكن أن نلتفت إليها التفاتًا خاصًّا فنستغربها، ولا غرابة فيها عند المقارنة بينها وبين أمثالها.
وبعد هذا التمهيد نقول للأستاذ المعيد أن الحالات التي سماها الأستاذ العشري بحالات الكشف الصوفي، هي تجارب واقعة، لا ينقضي أسبوع دون أن نحصى لها مثلًا أو عدة أمثلة، ولكننا نفضل أن نسميها بتجارب «التلقي» أو «التلباثي»، ونعني بها حالات الشعور على البعد، ولا نرى مانعًا من وقوعها ومطابقتها للتجارب المقررة في عالم الأحياء جميعًا، وأولها الإنسان.
من الثابت «علميًّا» أن بعض الأحياء تتلقى رسائل محسوسة على بعد كبير في البحر والهواء، وأنها تبعث بأمثال هذه الرسائل إلى أبناء جنسها وتنتظر جوابها، وأن المخترعين المشتغلين بالردار يستفيدون من مراقبة هذه الرسائل، ويجتهدون في محاكاتها لتوجيه الغواصات وطائرات الاستطلاع.
ومن الثابت «علميًّا» أن أضعف الأصوات ينتقل بأجهزة الإذاعة من أبعد المسافات، متى وافقته أسباب التلقي والإرسال.
وعندنا أن أجهزة الدماغ الإنساني لا يستغرب منها ما نحسبه أمرًا مألوفًا في الأجهزة الحية والأجهزة الآلية، وأن أسباب الإرسال والتلقي قد تتوافر أحيانًا فنشعر بما حولنا من الرسائل النفسية والفكرية على أبعد المسافات.
وإنني لأفضل أن أسمي هذه الرسائل ﺑ «تجارب التلقي»؛ لأنني أستطيع تعليلها بأمثالها من التجارب المقررة، ولست أمنع القول «بالكشف الصوفي» إلا لأنه موكول إلى العوامل التي لا تجري على قاعدة نعللها، وقد يكون لها تعليل مقبول يعرفه أصحابه ولا ندعيه.
أما الروايات المتواترة عن شؤم ابن الرومي، فنحن نعلم عنها علم اليقين ما يشبه التجارب العلمية، وما من شك — مثلًا — في أننا تعاقدنا على طبع ترجمته مع الأستاذ سيد كامل مدير مطبعة مصر، فدخلنا السجن، ومات الأستاذ سيد كامل قبل أن نفرغ من طبع الملازم الأولى من الكتاب، واسمه «ابن الرومي: حياته من شعره».
إلا أن الكتاب في عُرف المؤلفين والناشرين يعتبر كتابًا «سعيدًا» جدًا؛ لأنه طبع خمس مرات.
ولو أننا عنينا بتحقيق الموافقات بين حوادث المصابين خبط عشواء، لما تعذر علينا أن نحصي من أمثال نوادر ابن الرومي عشرات ومئات، نقارن بينها فلا نرى لابن الرومي اختصاصًا بين خلق الله بذلك الشؤم المعلوم.
ولنجمع مثلًا عشرين إنسانًا أصيبوا بالخسائر في المال أو في الجسم أو في الأقربين والأعزاء، فإننا نستطيع أن نجد بينهم مشابهات كثيرة قبل وقوع المصاب؛ كالذهاب إلى مكان معين، أو السكن في حي معلوم، أو اتخاذ كساء من هذا الزي أو ذاك، أو غير هذه المشابهات التي لم نلتفت إليها، ولكننا نستغربها إذا التفتنا إلى بعضها وراقبنا مواضع الاتفاق فيها، وبهذه الوسيلة يصح أن تعتبر الغراب رسولًا من رسل السعادة، وبشيرًا باليمن والبركة لأناس كثيرين؛ لأن نعيب الغراب يسمعه مئات تصادفهم السعادة بعد استماعهم إليه.