الذاتية والحرية١
آثرت أن أكتب لكم هذا الخطاب — إلى أسوان — لأنني أقوم بكتابة بحث جامعي عن اتجاهات الفكر العربي المعاصر، وقد قرأت في العددين الأخيرين من مجلة الشهر مقالًا لواحد من تلاميذكم، هو الأستاذ جلال العشري، ذهب فيه إلى أن الذاتية والحرية هما القيمتان الرئيسيتان في حياتكم الفلسفية، فهل يعلم من ذلك أنك وجودي أو أن هناك جانبًا وجوديًّا في تفكيركم الفلسفي؟ أكون شاكرًا لو أنك تفضلت بالجواب.
إذا كان المقصود بالذاتية والحرية أنني أدين بكرامة «الشخصية الإنسانية» في وجه كل مذهب مخالف وكل عقيدة مباينة وكل رأي لا يؤمن بهذه الكرامة؛ فالأستاذ جلال العشري قد أصاب في التلخيص، وقال حقًّا حين قال إن أفضل القيم الفلسفية عندي هي قيمة الذاتية وقيمة الحرية.
ولمن شاء أن يحسب الإيمان بذلك موافقًا للإيمان بجوهر الوجودية؛ لأن الوجودية — على تعدد مذاهبها — تقوم على رعاية حق الفرد وحمايته من طغيان الجماعات على فكره وضميره.
ولكن التشابه بين هذا التقويم العقلي الأخلاقي وبين جوهر الوجودية لا يسلكني في عداد القائلين بمذاهب الوجودية المختلفة، وهي تتفاوت بين أقصى الإنكار المادي وأقصى الإيمان الروحي، كما يعلم الطالب الأديب.
وليس من طبيعة تفكيري واعتقادي أن أدين بمذهب فلسفي محدود أو أقتدي بشرعة فيلسوف واحد؛ لأنني آمنت بأن الحياة الإنسانية أوسع نطاقًا من أن تنحصر في وجهة واحدة، ولا سيما الوجهة التي تطالع الحقائق المطلقة، كيفما اتفق التجاوب بينها وبين إدراك الإنسان.
وعندي أن التشيع لمذهب من المذاهب الفلسفية الأخلاقية يناقض الوجودية الحقة في أساسها؛ لأن أساس الوجودية عند كل مفكر من مفكريها الكبار أن يستقل الفرد بتفكيره وشعوره وعمله عن كل قيد من قيود المذاهب التقليدية، فليس «وجوديًّا» حقًّا ذلك الذي يقول إنه وجودي على مذهب كيركجارد، أو على مذهب هيدجر، أو على مذهب كارل بارت، أو على مذهب جاسبر، أو على مذهب مارسيل، أو على مذهب سارتر، أو على مذهب واحد من عشرات الوجوديين؛ لأن تقليده في حياته لحياة إنسان آخر يلغي حياته المستقلة، ويجعله تابعًا من توابع التقليد الذي تثور الوجودية عليه، وينبغي أن يكون في العالم مذاهب وجودية على قدر عدد الأفراد الوجوديين الذين يعرفون اسم هذا المذهب، أو لا يعرفونه ولكنهم يحيون حياة الاستقلال بالفكر والضمير، و«يعتنقون» الوجودية وهم لا يشعرون!
وإذا سألني الطالب الأديب: لماذا لا تُسمي نفسك وجوديًّا وأنت تؤمن بالكرامة الشخصية وتوافق الوجودية في جوهرها؟ فجوابي لهذا السؤال أنني لا أعرف فاصلًا حاسمًا بين الفرد والنوع؛ لأنني أعلم أن قوام الفرد كله ممثل لنوعه في تكوين جسده وتكوين وعيه الباطن ووعيه المحسوس، فليس من شروط «الشخصية المستقلة» عندي أن يكون استقلالها انفصالًا عما يوجبه النوع إلى الفكر والضمير، وكل ما هنالك أن وحي النوع لا يتفق في فردين، ولا يحسن بالفرد أن يكون عالة على غيره في الخلائق النوعية.