خلق الإنسان١
أرسل إلينا الطالب النجيب هانئ مبارك بالجامعة الأمريكية سؤالًا عن خلق الإنسان كما تصوره أصحاب مذهب النشوء والارتقاء، وسؤالًا عن صورة النبي — عليه السلام — ورأي بعض المؤرخين الغربيين في الدعوة الإسلامية، وكل من هذه الأسئلة موضوع حسن من موضوعات أحاديث العيد.
قال السيد مبارك: «هل كان داروِن على حق حين وضع نظريته عن أصل الإنسان؟ وهل معنى الانتخاب الطبيعي عنده أن الحياة خُلقت «تلقائيًّا»؟ وهل يُوافق هذا الرأي قوله تعالى، ما معناه أنه خلق الإنسان وسواه وعدله؟»
وقال السيد مبارك أيضًا: إن بعض المؤرخين الإنجليز ذكر في كتاب سماه باسمه ولا داعي لنشره، أن محمدًا تخيل أنه رسول وأنه لم يأت بجديد بعد المسيح، ونشر له صورة مع الكلام عنه، فما رأيكم في الصورة وفي هذا الكلام؟
وقد تلقينا مع هذه الرسالة رسالتين عن مذهب داروِن، وسمعنا السؤال عن هذا المذهب كثيرًا في الأيام الأخيرة، ولعله تجدد بعد السكوت عنه طويلًا على أثر الاحتفال بذكرى كتاب داروِن عن أصل الأنواع وموالاة الكتابة عنه في السنتين الأخيرتين إلى هذه الأيام.
والذي نود أن يعلمه الطالب المثقف في هذا العصر أن مذهب التطور لا ينفي وجود الخالق، وأن «والاس» شريك داروِن في نشر هذا المذهب يؤمن بالله ويؤمن بالمعجزات، ويرى أن ظواهر الانتخاب الطبيعي لا تنطبق على خلق الإنسان، وكل ما هنالك من الاختلاف بين القائلين بالانتخاب الطبيعي والقائلين بخلق كل نوع من أنواع الحيوان والنبات خلقًا مستقلًّا، فإنما هو اختلاف في كيفية الخلق لا في وقوع الخلق نفسه، وقد وجد من النشوئيين من يؤمن بالله ويقول بالانتخاب الطبيعي، ويعتبره دليلًا من أدلة القدرة الإلهية على الإبداع وتدبير أسباب الحياة.
أما صورة النبي — عليه السلام — فملاحظتنا عليها أن القوم لا يتحرجون من تصوير الأنبياء والرسل أو القديسين والشهداء، وأنهم صوروا السيد المسيح والحواريين على أشكال متعددة، فليس في الأمر سوء «أدب» بالنسبة إلى النبي — عليه السلام — كما يفهمون الأدب في حق الأنبياء.
ولكن الخطأ في الصورة وفي الكلام إنما هو خطأ فن وخطأ تاريخ.
فلم يصدق المصور — فنيًّا — حين تمثل النبي محمدًا — صلوات الله عليه — كأنه كان يتزيا بزي علماء الترك ومشايخ الإسلام بالآستانة، ويلبس العمامة والجبة على القفطان العثماني المعروف!
ولم يصدق المؤرخ تاريخه حين قال إن نبي الإسلام لم يأت بجديد بعد الدعوة المسيحية، مع ما هو ظاهر من المقابلة بين العقيدتين في الله وفي وظيفة النبوة وفي تبعة الإنسان.
وليس لنا أن نطالب المؤرخ غير المسلم بأن يكرر ما نقوله عن رسالة الإسلام، ولكن المؤرخ «غير المسلم» مطالب قبل غيره بإدراك مواضع المقابلة بين ما يعتقده هو ويعتقده المخالفون له في الدين، وإلا كان خلافه بغير سند من التاريخ والعلم، فضلًا عن العقيدة والدين.
صفات الله
… إن لم يكن للتعليق على الموضوع أصلًا فنرجو أن تزيدونا إيضاحًا عما يُنسب إلى الله من الصفات مشكورين.
فهمنا من كلام الست بنت الشاطئ أنها تدرِّس تفسير القرآن لطلبة المعاهد العالية، فإن لم يكن بيانكم لمعاني القرآن اهتمامًا بالست المذكورة، فمن الواجب أن يكون اهتمامًا بأولئك الطلبة … ولا أخفي عنكم أن نسبة الوجه واليد إلى الله غير نسبة الرأي والمكر؛ لأن تفسيرها — مجازًا — قريب إلى الذهن، فهل لنا أن ننتظر منكم بيانًا أوفى في موضوع الألفاظ التي تُذكر في وصف الخالق ويجوز في الوقت نفسه أن تُذكر في وصف المخلوقات؟
لا نرى رأي السيد «شعبان إبراهيم» في التفرقة بين نسبة الوجه واليد إلى الله ونسبة الرأي والمكر إليه سبحانه؛ لأن المعنى في جميع هذه الكلمات ينتهي إلى تنزيه الخالق عن مشابهة المخلوق في كل صفة تُنسب إلى الله وإلى العباد، فلا مشابهة بين رأي الإله ورأي الرسول ورأي المؤمنين ورأي غير المؤمنين، ولكن الرأي قد ورد في القرآن الكريم منسوبًا إلى الله وإلى عباده في قوله تعالى: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وورد كذلك منسوبًا إلى الله وإلى المشركين في قوله تعالى إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا ولا مشابهة بين حقيقة الرأي في جميع هذه الحالات.
وما دامت المسألة — على «رأي» صاحبي الرسالتين — مسألة إنقاذ لعقول الطلبة أو القراء، فنحن نسوق إليهم مثلًا تمتنع فيه كل مماراة، ويتضح منه كل الوضوح أن الكلمة متى نُسبت إلى الله وجب أن يكون لها معنى غير معناها المنسوب إلى المخلوقات.
فالله جل شأنه يقول في كتابه المبين: قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَىٰ * قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ ۖ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى.
وفي الكتاب المبين أيضًا قوله تعالى: فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَٰذَا.
نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ ۗ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ.
فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ.
وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا.
فهذه صفة واحدة هي صفة النسيان ينفيها القرآن الكريم عن الخالق جل شأنه؛ لأنه لا يضل ولا ينسى، ولكنها تُذكر في مواضع أخرى من الكتاب، فيجب علينا فهمها بالمعنى الذي يُخالف صفة النسيان حين تعرض للعباد، وهو نسيان المنافقين بمعنى الإهمال والهوان وفوات الرحمة والرضوان.
ولعل «الست» مفسرة القرآن لم تنس هذا التفسير وهي تستمد العلم الغزير من الأب «لامنس» وإخوانه وشركائه الأقطاب العارفين باللغة والكتاب.