شم النسيم
أول عيد من أعياد الأمم عاش أمس ويعيش غدًا، منذ عرفه التاريخ إلى هذا العام.
ربما سبقته أعياد عريقة في القدم يعرفها التاريخ أو لا تُعرف الآن بين أبنائها ولا الغرباء عنها.
ولكن «شم النسيم» عيد قديم متصل الماضي بالحاضر منذ عرفه التاريخ بوادي النيل، قبل دعوة إبراهيم، ودعوة موسى، ودعوة عيسى، ودعوة محمد — عليهم صلوات الله أجمعين.
عيد لبني الإنسان لا لأبناء دين من الأديان ولا وطن من الأوطان؛ لأنه عيد الربيع وعيد الثمرات والأرزاق، فكل محتفل بالربيع في أوانه فهو محتفل بصورة من صور شم النسيم، وإن ظهرت كل صورة باسم غير هذا الاسم، وظهر «شم النسيم» بنحو عشرة أسماء على أدواره المتعاقبة، وهو هو في منبته وفي شعائره وفي تقاليده التي لا تنفصل عن تقاليد الحياة الخالدة المتجددة، مهما يكن لها من تقاليد أخرى ظهرت بعد ظهور الأديان والعبادات.
وتقاليده هذه الأخرى «سجل» عامر بالحقائق تختفي حينًا وراء الأشكال والعادات، ووراء الأساطير والدعايات، ولكننا لا نفتحها على صفحاتها المحفوظة إلا انكشفت السوابق والقضايا، وتحدثت «البصمات» بالتهم والجرائم، وابيضت وجوه واسودت وجوه.
وها هي الصهيونية تبرر لنا مرة أخرى في هذا السجل القديم الذي تتطوع هي لنشره على هواها، ولو أنها عادت إليه — على هوى الصدق — لسترته تحت التراب، وألقت إليه حجابًا فوق حجاب، تحت حجاب.
تنشر الصهيونية حديث شم النسيم في كل عام باسم «عيد الخروج»، لتحسبه تذكارًا ليوم الحرية ويوم النجاة بعبادة الحق والتوحيد من معقل الأسر في هذا الوادي المحبوب، ولم يكن قط مكروهًا عند آباء صهيون وإن أحبوه لفوله وبصله ولبنه وعسله، ولم يحبوه لأهله ولا للحق ولا للدين!
ما كان لإسرائيل من فضل في يوم الخروج إن ذكروا الحرية وعبادة التوحيد، وإنما الفضل فيه لموسى — عليه السلام — ولمن علموه علمه الحق قبل بعثته إلى قومه، فاهتدى بما تعلم في صباه، واهتدى بما ألهمه الله مختلفًا إلى أئمة التوحيد بعين شمس وإلى محراب شعيب بمدين، ومستعدًّا للرسالة الإلهية بما أعده لها الله من هدي العلم وهدي الإيمان.
تاريخ بني إسرائيل كله في وادي النيل يقول: إن هؤلاء العبيد الأذلاء لم يفكروا قط في الحرية، ولم يصبروا قط على عبادة التوحيد، ولم يزالوا بعد عصيان الداعين لهم إلى الخروج حقبة بعد حقبة يخرجون أخيرًا فيذكرون عبادة العجل وعبادة البعل، وموائد الضأن والفطير وقصاع العدس والفول.
قبل خروجهم مع موسى — عليه السلام — دعاهم رهط «أفرايم» إلى الخروج، فسخروا منه وأهانوه، وبعد ذلك بثلاثين سنة دعاهم موسى — عليه السلام — فشتموه وهددوه، وشهد عليهم كتاب الخروج بما فعلوا وقالوا؛ حيث «تكلم أمام الرب قائلًا، هوذا بنو إسرائيل لم يسمعوا، فكيف يسمعني فرعون؟!»
ولم يكن شعب مصر مسيئًا إليهم؛ لأنهم كانوا يستجدونه ويستعيرون منه فلا يبخل عليهم بشيء طلبوه، ويشهد كتاب الخروج أنهم «طلبوا من المصريين أمتعة فضة وأمتعة ذهب وثيابًا، فأعطى الرب نعمه للشعب في عيون المصريين، حتى أعاروهم فسلبوا المصريين!»
إنما أساء إليهم فرعون يوم أساء إلى قومه وارتد عن دين التوحيد الذي ترنمت به معابد إخناتون، فارتدوا معه ولم يستجيبوا لموسى — عليه السلام — خارجين مختارين، وإنما طردهم أمراء البلد لكسلهم وفتورهم و«تنبلهم» في شغل السخرة وشغل العمل المختار، لا لأنهم زهدوا في لحم الضأن وهجروا قصاع العدس والفول!
أطاعوا النبي العبري؛ لأنهم — كما شهد عليهم كتاب الخروج — قد «طردوا من مصر ولم يقدروا أن يتأخروا»، فخرجوا خروج الهارب المتلبس بإجرام.
أما النبي العبري فقد بقي على دين التوحيد، وأنكر من فرعون «المرتد» نكوصه عن العبادة القويمة وإكراهه الناس على النكوص عنها، ومنهم أبناء إسرائيل وأبناء وادي النيل.
ومن أين نتحدث إليهم عن «ملفات» شم النسيم الأول والأخير؟ عن صفحات علمائهم نروي ما نقول، وإنهم لمن مفاخرهم التي يذكرونها ولا ينسونها كلما استكثروا من أسماء الأعلام: أسماء فرويد، وماير، وسيلين، وآخرين وآخرين، مذكورين في كتاب فرويد عن «موسى وديانة التوحيد».
هؤلاء هم الذين يقولون إن موسى — عليه السلام — تلقى اسمه من لغة وادي النيل؛ لأن بنت فرعون التي سمته باسمه تعرف كلمة «موسى» بمعنى الطفل، ولا تعرف العبرية فتسميه بكلمة من كلماتها، تعرف أسماء بتحموس ورعموس وأمنموس وغيرها من الأسماء والألقاب، ولا عجب في إطلاقها على طلاب الحكمة العالية في معاهد منف وطيبة وقصور الملوك والملكات.
إنه لفضل موسى — عليه السلام — وإنه لفضل الله على موسى بما هداه إلى الحكمة وهداه إلى الرسالة.
أما أسلاف صهيون الأقدمون فما طلبوا حرية ولا ابتغوا وجه الله، ولا كرهوا عبادة العجل وقد عادوا إليها قبل أن يعبروا الحدود إلى الوطن الموعود.
وأما شعب مصر فلم يكن جزاء الخارجين من بلاده إلا أنهم سرقوه وأخذوا فضته وذهبه وثيابه وآنيته، وما استطاعوا أن يحملوه ويحملهم من مطية أو ركاب، ولم يكن من عمله معهم إلا أنه أكرمهم وائتمنهم، فسلبوه.
وعلى فكرة …
على فكرة بعد ثلاثين قرنًا لم تسقط المدة القانونية … لأنكم تقررون «مستنداتكم» في أرض الميعاد من ذلك التاريخ.
على فكرة …
كم يحمل ستمائة ألف خارج وخارجة من الذهب والفضة واللباس والآنية إذا أخذ كل منهم خاتمًا أو ما يساوي قيمة الخاتم بالدرهم والدينار!
وكم فوائد المبلغ بالحساب الذي لا تجهلونه مضاعفًا من تلك السنة، ولو سئلتم عنها في عرض الطريق!
الوثيقة بخط اليد محفوظة، والدعوى مرفوعة، والحساب يجمع.
وشم النسيم يعود وسيعود، وسوف يعود …
فاحسبوها من الآن، واحسبوه إعلانًا بالدين القديم، لا ينساه الديان، ولا يغالط فيه بن جوريون ولا بن ديان!