الخلط بين الوجودية والإباحية١
يندر أن أتلقى بريدًا لهذه اليوميات من غير سؤال عن الوجودية، وعن آراء الفلاسفة الوجوديين في هذه المسألة من مسائل الدين أو تلك المسألة من مسائل الأخلاق، أو غير ذلك من مسائل الاجتماع أو السياسة.
وكل سؤال من هذه الأسئلة هو خطأ جسيم من الخطوة الأولى، ينبغي أن يصحح «أولًا» قبل أن يتأتى الوصول إلى جواب صحيح عنه، وعن غيره من مذاهب الفلسفة الوجودية.
فالخطوة الأولى التي يجب أن نخطوها على صحة وبينة، أن الوجودية ليست مذهبًا واحدًا يتفق القائلون به على رأي واحد في عقائد الدين ومبادئ الأخلاق ونظم السياسة؛ فإن الفلاسفة الوجوديين كثيرون؛ منهم المتدين المؤمن بوجود الإله ورسالة الرسل، ومنهم المنكر المعطل الذي لا يدين بعقيدة على الإطلاق، ومنهم من هو مَثَل في الخلق الكريم والنزاهة العالية، ومن هو مجرم بأقواله على الأقل لا فرق بينه وبين المجرمين المحكوم عليهم، غير أنه لم يصل إلى المحكمة أو إلى دواوين التحقيق.
ولا يمكن أن تكون الوجودية شيئًا غير ذلك في تناقض الآراء وتباعد النزعات ومناهج الحياة؛ لأن الأصل فيها أن حق الفرد في الوجود هو الحق الأصيل، ومنه الذي تصدر جميع الحقوق الوجودية؛ إذ كان «الفرد» هو الكائن الحقيقي المشاهد المستمتع بالحياة، وكل ما عداه فهو في رأي الوجوديين أسماء وصور في الذهن لا حقيقة لها خارج التصور، وهم يتساءلون: ما هي الإنسانية مثلًا؟ هل هي كائن له وجود خارج الذهن، أو هي مجموعة الأفراد المنتسبين إليها ولا زيادة؟
فإذا كان الوجود الحقيقي هو «الفرد»، فلا يحق للجماعات أن تطغى عليه وأن تجرده من حقوقه الحيوية، وليس للفرد المدرك لحقيقة وجوده أن ينزل عن هذه الحقيقة باختياره مجاراة لأوهام ليس لها وجود.
وينتهي الاتفاق بين الفلاسفة الوجوديين عند هذا الرأي الذي استمدوا منه اسمهم الشائع في هذه الأيام، وهو اسم «الوجوديين»؛ أي المؤمنين بالموجود الحقيقي دون الأسماء والعناوين.
ولكن الاختلاف بعد ذلك ضرورة طبيعية لا بد منها بين الذين يرجعون بكل شيء إلى الحرية الفردية، فإن الأفراد بطبائع تكوينهم مختلفون مزاجًا وشعورًا وفكرًا وتربية واستعدادًا للمؤثرات الخارجية؛ فمن كان منهم قويم الخلق قوي المزاج، ملك زمامه ولم يندفع مع أهواء الساعة وغوايات البيئة. ومن كان على نقيض ذلك ضعيفًا منحل الإرادة، فمعنى الحرية عنده أن يفعل ما يشاء ولا يبالي بالعاقبة، ولا يلوم نفسه على ما وقع فيه من جرائر الضعف والغواية.
ولقد ظهر في العالم فلاسفة وجوديون قبل أن تُعرف «الوجودية» باسمها هذا، الذي يلوكه ويتشدق به من يفهمونها ومن لا يفهمون منها إلا أنها إباحة تنطلق بصاحبها من قيود الفضائل والآداب.
فالفيلسوف الألماني نيتشه كان وجوديًّا حين نادى بحق «السوبرمان» أو الإنسان الأعلى، معارضًا للديمقراطية التي تحسب حساب الناس بالكميات والأعداد.
وكارليل الفيلسوف الأيقوسي كان وجوديًّا حين ألف كتابه عن الأبطال وعبادة الأبطال، وأراد أن يقول إن صلاح الأمم مرتهن بصلاح أبطالها للزعامة في ميادين العقيدة والعمل.
وجون ستيوارت مِل وهربرت سبنسر وُجوديَّان حين كتب أولهما يقول إن النوع البشري كله لا يحق له أن يحجر على حرية فرد واحد يُخالفه، وكتب الآخر كتابه عن الإنسان والدولة ليقول إن الدولة لا يحق لها أن تتعرض لحرية إنسان إلا بالمقدار الواجب لحماية الآخرين من عدوانه.
وماتسيني وجروشه وُجوديَّان؛ لأنهما يقدسان «الحرية الإنسانية»، ويجعلانها بالمنزلة الأولى بين جميع الحقوق العامة والخاصة.
وكل هؤلاء لم يظهروا في الأمم المختلفة إلا بعد ظهور الدعوات العامة، التي كانوا يخشون سوء فهمها وتجاوز حدها ذهابًا مع حقوق الجماعات الكبرى، وإنما سواء السبيل عندهم أن تكون حرية الأمة ضمانًا لحرية الفرد، وأن تكون حقوق الفرد أساسًا للحقوق المشتركة التي تُقام عليها دعائم المجتمع مهما يبلغ من التعدد والاتساع.
والفيلسوف الوجودي على حق في رأيه، إلا إذا تجاوز الحد من جانبه فاعتقد أن وجود الفرد ينفصل من وجود النوع؛ لأن النوع موجود وجودًا محسوسًا في كل فرد من أفراده، وليس النوع الإنساني مجرد اسم من الأسماء كما يتوهم بعض اللفظيين؛ لأن تركيب الفرد في جسده ووظائف أعضائه يمثل وجود نوعه في كل خلية من خلايا الدم وكل نسيج من أنسجة الأعصاب، وليست الوظائف الجسدية التي تهم الإنسان في حياته الفردية غير جزء قليل بالقياس إلى وظائفه النوعية المتمكنة في تركيبه بلا انفصال بينها وبين ذرة من ذرات بدنه.
فإذا أراد «الوجودي» أن يعتبر الوجود الحقيقي فليحلل جسمه في المعمل الكيماوي، لكي يعلم من أبسط التحليلات الأولية أنه عشرة في المائة على الأكثر فرد، وتسعون في المائة نوع، وسيعلم بعد ذلك أن العشرة في المائة ليست من عمله ولا من كسبه، ولكنها موروثة عن أبيه وأمه وجده وجدته إلى أقدم أسلافه.
وقد لمحنا كثيرًا من بعض الأسئلة أن أصحابها يستريحون إلى الخلط بين الوجودية والإباحية؛ لأنهم — على ما يبدو من عباراتهم — يريدون أن يستندوا إلى مذهب يبيح لهم ما تحرمه المذاهب الأخرى عليهم، وأن هذا الشعور الخفي وحده خليق أن ينقض الإباحية كل النقض؛ لأنه يدل على حاجة الإنسان إلى سند يجيز له ما لا يجوز، حتى في الاستباحة التي تريد أن تعفي نفسها من القيود والحدود.
والخلاصة الأخيرة أن المخلوق الإباحي قد يكون موجودًا بتكوينه الضعيف العاجز عن قيادة أهوائه وشهواته.
أما المذهب الذي يبيح هذا فهو بالاختصار «غير موجود» في كل الوجود.
غير موجود أبدًا ولا بين الوجوديين! ولكنه قد يكون بين العدميين أو المعدومين!