المؤرخ «توينبي» يصحح نفسه١
أرنولد توينبي أشهر المؤرخين الغربيين في العصر الحاضر غير مدافع.
وهو أكبر من «مؤرخ» قدير واسع الشهرة بين أبناء عصره؛ لأنه إمام مدرسة مستقلة في «فلسفة التاريخ»، يعيد تصوير التاريخ العالمي على صورة خاصة به وبمنهجه في التفكير، أو في «العقيدة الروحية» قبل التفكير.
ولا نحسب أنه استطاع ذلك بفضل العلم وحده وسعة الاطلاع وحدها، ولكنه استطاع بما له من «شخصية» قوية متصرفة، تطبع الوقائع والأفكار بطابعها المتميز «المتحيز» الذي لا يلتبس بطابع آخر، وإن كنا — على هذا — نعتقد أن إحاطته بالموضوعات والحوادث أهم وأعمق من إحاطته بأسرار «الشخصيات» العظيمة، كما يبدو ذلك جليًّا من تصويره للشخصيات الكبرى في تاريخ الإسلام، ومنها شخصية النبي — عليه السلام — وشخصيات الزعماء الأمويين، ومن قبلهم الخلفاء الراشدين.
إن الناقد هو المنقود، والكاتب هو موضوع الكتاب، وللقارئ — إذن — أن يقول إنه يطالع صفحة من صفحات النقد الذاتي أو صفحة من صفحات النقد الموضوعي، فكلاهما واحد حول هذا الكتاب الطريف، وأطراف ما فيه أن أسلوبه أشد من أسلوب الناقد الغريب، وأن توينبي وهو يبحث عن أخطاء «توينبي» قد تحدى خصومه فنجح أيما نجاح؛ لأنهم لم يظهروا من أخطائه شيئًا يزيد على ما أظهره بقلمه وبحث عنه باجتهاده، مع الحماسة التي تغلو أحيانًا غلو اللدد والتحامل، كأنها — حقًّا — حماسة خصوم!
وجملة مآخذه على نفسه أنه أخطأ في اعتباره «الحضارة اليونانية» أساسًا للحكم على سائر الحضارات، وأنه لاحظ بعد إعادة النظر أنه كان شديد الميل إلى التعميم والتوسع في تطبيق الأحكام الشاملة، وأنه أعطى الأساطير التاريخية حقًّا من العناية لا يقل عن حق المباحث العلمية، ولكنه لا يأسف على ذلك كثيرًا؛ لأنه لا يزال يعتقد أن الأسطورة الرمزية تفسر روح الأمة، وتساعد على النفاذ إلى بواطنها الخفية على مثال لا يقصر عن شأو «التحقيق العلمي» وعن مشاهدات الواقع والفكر الصراح.
على أن المؤرخ الكبير لم يندم على هذه الحماسة في نقد نفسه؛ لأنه لم يبلغ بها أن يهدم صرحه المشيد، الذي توفر على بنائه طول عمره، وغاية ما صنعه أنه أعاد طلاءه ووسع بعض حجراته وضيق بعضها على أساسها الأول، مع بقاء «العمارة» كلها بصورتها المعهودة من بعيد، ومن قريب.
فالتاريخ لا يزال كما كان قصة مجتمعات، وليس بقصة أمم أو دول أو حكومات.
والمجتمعات لا تزال قائمة على حضاراتها، وليست قائمة على ثروتها أو قوتها أو مساحة أرضها.
والحضارات لا تزال كما كانت مدينة للفكرة وللعقيدة، التي تحل لها مشكلاتها الطبيعية والاقتصادية، وتوحي إلى أبنائها أن يعملوا مستقلين وأن يقلدوا العاملين مخلصين، فإذا انتهى دور الحضارة فعلامة ذلك أن أبناءها يفقدون دوافع العمل والمحاكاة، ويقضون أعمارهم في معيشة سلبية بين الاسترسال مع الشهوات والمنافع الموقوتة، وبين اليأس والسخط على غير هدى.
إذا بقيت للمؤرخ الكبير هذه الأسس وهذه الأركان، فالخسارة من حملته على نفسه غير جسيمة، والنقد على هذا المثال يزيد منافع «العمارة» ولا ينقص منها.
ثم يزيدنا شيئًا آخر لم يكن في الحسبان.
يزيدنا علمًا بأن النقد «الموضوعي» لا يتطلب من الناقد أن يتجرد من «شخصيته»، وأن يقيم نقده على قواعد غير قواعده السابقة أو اللاحقة، كل ما يتطلبه منه إخلاص النظر وإخلاص التطبيق، وليكن بعد ذلك موضوعيًّا أو ذاتيًّا أو «ذاتيًّا موضوعيًّا» أو «موضوعيًّا ذاتيًّا» كما يريد.
يقول الأستاذ «مغاوري همام مرسي» من رسالة مطوله: «إن لكل فرد مجاله السيكولوجي الخاص … وإننا إذا تعرضنا لمسألة النقد الموضوعي في الأدب، لا نجد حيلة للاقتناع بقيام ما يمكن تسميته بالنقد الموضوعي لأي إنتاج أدبي.»
نقول للأستاذ إننا نرى خلاف ما يراه، وإن النقد الموضوعي ممكن جدًّا؛ كالإبصار الموضوعي والسماع الموضوعي واللمس الموضوعي والذوق الموضوعي، وكل إدراك ظاهر أو باطن يدركه الإنسان بحسه أو بفكره أو بخياله.
إن المائدة التي أمامي تلوح لعيني على صورة لا يمكن أن توافق الصورة التي تلوح بها لأعين الناظرين إليها من حولها؛ إما لاختلاف مكان النظر، أو لاختلاف موقع الضوء، أو اختلاف قوة العين، أو اختلاف استعدادها لتمييز الألوان، أو لاختلاف العصب الموصل إلى الدماغ، أو لاختلاف الشواغل النفسية ساعة النظر إليها وتلقي الصورة من جوانبها.
ولكن هذا كله لا يمنع الاشتراك في الحس بين جميع الناظرين إليها بالمقدار الذي يكفيهم جميعًا للعلم بأنهم يتحدثون عن شيء واحد حين يتحدثون عن تلك المائدة.
وهذا هو كل المطلوب للتفاهم بين أصحاب الحواس وأصحاب العقول.
إذ ليس المطلوب أن يكون النقد الموضوعي إلغاء للشخصية الإنسانية، ولا محوًا للفوارق بين الشخصيات، ولو أمكن ذلك لبطل معنى النقد كله، موضوعيًّا وذاتيًّا، وأصبحنا في غنى عنه؛ لأنه لا يعطينا غير ما نأخذه بأنفسنا ولا نحتاج معه إلى تفاهم مع الآخرين.
إن النقد الموضوعي هو تصوير الأشياء كما نخالف بها غيرنا وكما تختلف بين المجالات النفسية المختلفة، ولولا ذلك لما كانت فائدة ولا طعم ولا ضرورة.
وإذا كان الناقد عاجزًا عن مفارقة مجاله النفسي، فليس هو بعاجز عن بيان ذلك المجال ولا عن تصويره، ونتيجة النقد — إذن — هي معرفة الشيء المنقود في مجالات نفسية متعددة بدلًا من حصره بين حدود المجال الواحد بلا تفاهم ولا مشاركة بين العقول والحواس، ولو على سبيل التقريب.
«وهذا هو المطلوب» كما كان يقول لنا «خوجة الحساب» — رحمة الله عليه.