اكتشاف العرب لأمريكا قبل كولمبس١
تجدد البحث منذ أسابيع في مسألة اكتشاف العرب للعالم الجديد قبل رحلة كولمبس المشهورة في أواخر القرن الخامس عشر.
وصاحب البحث الجديد هو الدكتور «هوي لزلي»، العالم الصيني، أستاذ علم النبات بجامعة بنسلفانيا الأمريكية، ألقاه في الاجتماع الحادي والسبعين بعد المائة لجماعة المستشرقين بمدينة «فلادلفيا»، واستند فيه إلى وثائق محفوظة في الصين، وإلى فصائل من النبات والحيوان لم تكن من محاصيل الأرض الأمريكية، وذكر من أخبار تلك الوثائق أنها قدرت مدة الرحلة من الشواطئ الأفريقية إلى أمريكا بنحو مائة يوم، ورجعت بموعدها إلى حوالي القرن الثاني عشر للميلاد.
وهذه هي المرة الثالثة التي يُعاد فيها بحث هذه المسألة منذ مطلع القرن العشرين، فإن مدير متحف البرازيل عثر قبل نهاية القرن التاسع عشر على صخرة إلى جوار ريو دي جانيرو، عليها نقوش قريبة الشكل من الحروف العربية القديمة — أو الفينيقية — ثم جاء العالم الجغرافي الألماني ريتشارد هنيج بعد أربعين سنة، فأعاد النظر في تلك النقوش لتفسير معانيها، واتصل الأمر بعد ذلك بالقنصلية اللبنانية، ولا نعلم ماذا تم من تحقيقات هذا الكشف غير الإشارة إليه منذ شهور في بعض صحف بيروت.
إن الشكوك في أمر هذا الكشف محدودة المجال على كل حال، فإذا كانت الرحلة من أفريقيا إلى أمريكا الجنوبية قد حدثت حوالي القرن الثاني عشر، فالمحقق أن الملاحين العرب هم الذين قاموا بها يومئذ، أو أن الملاحة العربية هي الملاحة الوحيدة التي كانت تنفع أصحابها في مثل تلك الرحلة؛ لأن مصطلحات هذه الملاحة باقية من قبل ذلك التاريخ إلى اليوم في اللغات الأوربية، كما يؤخذ من كلمات كثيرة تحتويها معاجم الإسبانية والإيطالية والألمانية والإنجليزية. وقد جاء في كتاب دستور الملاحة، المكتوب في القرن الثاني عشر باللغة النرويجية، أن الملاح الذي يضطلع بركوب البحار البعيدة ينبغي أن يكون مطلعًا على اللغة الإيطالية، وأن يلم بمعلومات الجنوبيين عن الفلك، وهذا يدل على أن الملاحين الشماليين، الذين وردت أخبار رحلتهم من شمال القارة الأوربية إلى بعض مواقع أمريكا، لم يتمكنوا من رحلاتهم تلك بغير معرفة الملاحة العربية، فإذا كانت الرحلة قد بدأت من الجنوب حوالي القرن الثاني عشر، فمن المحقق أن القائمين بها كانوا من الجنوبيين، وكانوا يحسنون فن الملاحة في البحار الواسعة، ولم يكن أحد غير العرب يضطلع بمخاطر تلك الرحلة من تلك الشواطئ.
إن ملك صقلية كان في القرن الثاني عشر يستعين بالشريف الإدريسي على رسم الخرائط وتصوير الكرة الأرضية من الفضة. والإدريسي يقول في كتابه نزهة المشتاق إن جماعة من أهل الأندلس ركبوا البحر من لشبونة، فوصلوا بعد أربعة وعشرين يومًا إلى جزيرة، اعتقلوا فيها «ثلاثة أيام، ثم دخل عليهم في اليوم الرابع رجل يتكلم باللسان العربي، فسألهم عن حالهم وفيما جاءوا وأين بلدهم، فأخبروه بكل خبرهم، فوعدهم خيرًا وأعلمهم أنه ترجمان الملك، فلما علم الملك بذلك ضحك وقال للترجمان: إن أبي أمر قومًا من عبيده بركوب هذا البحر، وإنهم جروا في عرضه شهرًا إلى أن انقطع عنهم الضوء وانصرفوا في غير حاجة ولا فائدة تجدي.»
وقد كان قراء اللغة يعلمون مما كتبه المسعودي في أوائل القرن العاشر للميلاد أن الشمس إذا غربت على بحر الظلمات كان ظهورها بعد ذلك على شواطئ الصين الشرقية، ومن هذا وأمثاله علم كولمبس أنه يصل إلى الهند إذا اتجه غربًا من شواطئ الأندلس، فليس بالمستغرب أن يقدم على هذه المحاولة قبله من كانوا يطلعون في كتبهم الجغرافية والفلكية على هذه التقديرات، ولكن الحقيقة في هذا الأمر إنما تثبت بما بقي من آثار الرحلات العربية هناك، ولا يكفي أنها أخبار لا تُرفض ولا تُستغرب ليمتنع فيها الشك وتُضاف عن ثقة ويقين إلى حقائق التاريخ.
وحسبنا حتى الآن من فضل هذه الكشوف أنها لم تكن لتحدث لولا الجغرافية العربية والملاحة العربية، أيًّا كان المنتفعون بهما من أبناء الشمال أو أبناء الجنوب.
الأستاذ الإمام وكتابنا
… تناول الدكتور آدامز تاريخ الجيل المعاصر من المحدثين، فقال إن أثر محمد عبده المباشر، فيما يتعلق بالعقاد وإبراهيم المازني، ربما كان أبعد إجمالًا من تأثيره فيما يتعلق بهيكل لقلة الصلة الشخصية، وقد كان العقاد صديقًا لسعد زغلول، ولكن في خلال السنوات التي أصبح للسياسة فيها المكان الأول في تاريخ سعد، فهل لي أن أسألكم بقصد المعرفة: ما هي الصلة الشخصية وروابط المعرفة بين الأستاذ المازني وبين الأستاذ الإمام؟
يعني الدكتور آدمز بروابط المعرفة، فيما يتعلق بالدكتور هيكل، أن الدكتور هيكل كان على صلة بالأستاذ أحمد لطفي السيد وأسرة محمد محمود باشا وأسرة عبد الرازق باشا، وغيرهم من أصدقاء الأستاذ الإمام، ولم تكن لنا بالأستاذ الإمام مثل هذه الصلة كما اعتقد الدكتور آدمز، وهو خطأ منه فيما يرجع إلى ما بينت حقيقته في مناسباتها التي أشار إليها الطالب الأديب في مقدمة خطابه، أما صديقنا المازني — رحمه الله — فلا أعلم أنه اتصل بالأستاذ الإمام أو حضر دروسه، ولكنه ذكر في ترجمته لنفسه أن الشيخ محمد عبده أعان أخاه الأكبر على كتابة اسمه بجدول المحامين الشرعيين بعد وفاة والده، وكان أخوه الأكبر — خيري — يستعين به كلما أعوزته المعونة من جاه المفتي في مسائل الدواوين.
إلا أن «التأثير الأدبي» الذي يُنسب إلى الأستاذ الإمام لم يكن مقصورًا على الصلة الشخصية أو على حضور الدروس بالجامع الأزهر، ولكنه كان تأثيرًا عامًّا يشمل المدرسة الكبرى التي أنشأها الشيخ محمد عبده بفتاواه وآرائه وردوده على كُتاب الغرب وعلى الجامدين من أنصار القديم، ودعوته الوطنية التي تعتبر أساسًا لدعوة «مصر للمصريين»، ولمبدأ الاستقلال التام على خلاف الدعوة الأخرى، التي كان أذناب عابدين في القاهرة و«يلدز» في الآستانة يروجونها لطلب الاستقلال تحت السيادة العثمانية.
وكان مذهب محمد عبده في الإصلاح الديني، وفي تعديل نظام التعليم، ونظام المحاكم الشرعية، وخطط السياسة العامة؛ معروفًا منتشرًا بين البيئات المهذبة، يكاد يتناوله البحث ويشتد حوله الجدل بين أنصاره وخصومه من المشتغلين بالشئون العامة عند كل مناسبة تثيرها فتاواه أو حملات المغرضين عليه، بإيعاز الخديو عباس الثاني وسماسرته من الصحفيين ودعاة الأحزاب السياسية.
ويظهر اتساع الأفق المحيط بتلك المدرسة من جمعها في الأدب بين حافظ إبراهيم ومصطفى المنفلوطي وحفني ناصف، وبين زملاء جيلنا وهم على غير هذا المنهج من مناهج الكتابة والنقد والمقاييس الفكرية أو الأدبية.
وقد كان صديقنا المازني يُناصر مدرسة الشيخ محمد عبده في دعوة التحرير من الجمود، كما كان يناصرها في قضية الاستقلال عن السيادة العثمانية، ولكنه لم يكن عظيم الاكتراث بناحية السياسة من تعاليم الشيخ محمد عبده قبل اشتغاله بالصحافة الحزبية على أثر الحرب العالمية الأولى، فلما اشتغل بهذه الصحافة كان يتفق له أن يكتب إلى الصحيفة منها بعد الصحيفة غير متقيد بآرائها في التفصيلات الحزبية، ولكنه كان على خطة واحدة من خطط السياسة العامة تتلخص في استقلال بلاد العرب عن سلطان الدولة العثمانية، وهذه خطة تلتقي بمبادئ الشيخ محمد عبده التي ثبت عليها منذ أيام الثورة العرابية، وكان شعارها «مصر للمصريين» ردًّا على القائلين بجامعة عثمانية تشمل المصريين وغير المصريين، وقد كان لهذه العثمانية أذناب ينصرونها إلى زمن قريب، ثم سكتوا عنها ولم يسكتوا عن نشر المغامز والدعاوي على المنكرين سياستهم بالأمس، وفي طليعتهم الأستاذ الإمام.