دراسات غريبة في عداد الخرافات١
إني قرأت حديثًا للدكتورة — روث داروِن — تقول فيه: إنه سوف يأتي الوقت الذي يأخذ كل صديق من صديقه نقطة دم عندما يودعه، ويستعمل هذا الأثر الدموي محطة إرسال كلما أراد أن يخاطبه … وقال عالم آخر هو الدكتور ألكسندر كانون: إن التفاعل مستمر بين الفكرة والجسم، وإنه مصدر اهتزازات أثيرية يمكن قراءتها بآلة السيكموجراف … أو بموهبة الجلاء البصري. ويقول عالم آخر هو السير شارلس بل منذ مائة عام: إن الأفكار تنفعل مع الأعصاب وتستمد ما قدر لها من خير أو شر من تموجات العقل الكوني العام، فترسم في الكف رسومات تدل على ذلك … ولن يبقى بعد هذه الكشوف الأثيرية حديث حول الغيب وحول اللاشعور والميتافيزيقا، فكلها ستصبح معلومة ملموسة طبيعية.
وهذه يا سيدي مشكلتي، وليست روحية بقدر ما هي أثيرية، وإن كنت أعتقد بأن الروح جزء من الأثير، وأنه لولا دراسة الأثير ما عُرف المذياع ولا المرناة — التلفزيون — ولا أمكن البطل الروسي جاجارين أن يلمس السماء مجتازًا شهبها وحرسها، وبدراسة الأثير أيضًا سنحل مشكلة استحضار الأرواح وتجسدها وتطبيبها لبعض المرضى، والزواج منها أيضًا كما يقال إن بلقيس كانت أمها جنية … وبدراسة الأثير كذلك سنحل مشكلة هذه العلوم التي أخذت لقب الفراسة زمنًا طويلًا، وعُد الكلام فيها هجومًا على الغيب الذي تفرد به الله — سبحانه وتعالى.
… وهذه هي قصة الأثر والأثير، فهل أنت معي في هذا العالم — الأثيري — الذي أحلم به؟ إن لم تكن معي، فإني أستلهم روحك الطاهرة، ولن يرعبني منها صولجانها بقدر ما أشغف بمناجاتها؟
ونقول إن هذه الدراسات دخلت فعلًا في حدود البحث العلمي؛ لأن القائمين بها اعتمدوا على تجارب المشاهدة، والإعادة لنفي كل شبهة ترِد على ذهن العالم المحقق في هذه الأحوال. وغاية ما وصل إليه أصحاب هذه التجارب أن وجود الصلات غير الحسية بين الأفكار ليس بمستحيل، وأن هناك نسبة مئوية لهذه الصلات، لم يتمكن العلماء من تعليلها بالحس، وإن كان من الجائز أن يهتدوا إلى تعليلها الحسي بعد حين. ويقال بعبارة أخرى إن تفسيرها بالمصادفة لا يزال أصعب من تفسيرها بوجود الصلات بين الأفكار بالوسائل الحسية ووسائل الإيحاء.
وكل ما جاوز هذا الحد من الفرض والظن فهو — في رأي الأكثرين — لاحق بالعوارض النفسية، التي تدل على انحراف الحس والفكر، وتعالج على هذا الاعتبار.
•••
واعتقادي في هذه الفروض، أو هذه الظنون، أنها لا تزال من موضوعات القصص العلمية، التي يعمل فيها الخيال ويتخلص فيها الذهن من الحرج باتفاق بين الكُتاب والقراء، فلا يقرؤها القارئ وهو مصدق لكل ما فيها من الغرائب والنبوءات، ولا يزال يحسبها من قبيل التوقع الذي قد يسبق الواقع، وقد ينتهي على الورق كما بدأ عليه.
ومن هذه الخيالات الممتعة — فيما يتعلق بالآثار «الدموية» التي أشار إليها السيد دهينة — أن الكاتب القصصي المشهور جورج أوريل تخيل أن الموجات الكهربية في دم الإنسان تختلف باختلاف الأجناس البشرية، وأنه يجوز على هذا أن تخترع غدًا قذيفة تهلك أبناء بعض الأمم ولا تهلك الجيوش التي تستخدم القذيفة؛ لأن هذه الجيوش تحتمي منها بموجات كهربية في دمها، تكفل لها المناعة من الإصابة.
ومثل هذا التخيل هو الذي نسميه «تخيلًا برخصة» من العلم على «مسئولية» المتخيلين.
أما ما وراء ذلك من أحاديث النقطة الدموية التي «تستعمل كمحطة إرسال»، فهي خيال منطلق لا يرتبط بالعلم ولا بالتجربة ولا بالواقع، ويجوز أن يتخيلها المتخيل قبل اكتشاف الكهرباء وقبل التحدث عن محطات الإرسال ومحطات الوصول؛ لأن الكهرباء لا تقربها قيد شعرة من أوهام التصور إلى حيز البحث والاحتمال.