ظرفاء النكتة وتأويل الأسماء١
ومثل هذا كثير في جميع اللغات، يُولع الظرفاء بتوفيقه، أو «بتلفيقه» من حسن التمني في بعض الكلمات والأسماء، ولعله خير رد على الذين يصطنعون تأويل الأسماء لترويج أباطيل السحر وطلاسم الشعوذة والتعاويذ، فإن المصادفة تعطينا كل يوم أمثلة من طوالع الأسماء على هذا النحو، بعيدة من السحر ودعواه.
بل نحن نشاهد من أمثال هذه التحريفات جميعًا أنها لا تصلح للفكاهة على سبيل المصادفة، بغير جهد قليل أو كثير في تحويل المعاني والألفاظ، وتحميلها شيئًا من التأويل لا تحتمله بغير «التراضي والاتفاق» بين الطرفين.
فلماذا يكون الفرح — مثلًا — دليلًا على اللذة الجنسية؟
ولماذا يكون اسم النسر في الألمانية وحدها مرادفًا لمذهب القوة؟
ولماذا يكون «الشباب» عنوانًا للاستحياء الذي يقترن بعالم للغيب يسبق الحياة؟
إنه يكون كذلك خضوعًا لحكم «القافية»، كما يقول أبناء البلد عندنا ويعنون أنه حكم «مقبول» على شرط، وليس بالمقبول على كل حال.
وقد صدق من قال: «إن طبيعة الإنسان واحدة في كل مكان»؛ فإن الأمم قديمًا وحديثًا قد لهجت بهذه «التوفيقات» لهوًا وتفاؤلا كما لهجت بها سحرًا وشعوذة، أو زعمًا من الزاعمين أن المسميات لها نصيب من الأسماء في كل حين، أو من حين إلى حين!
ولكن الغربيين في القرن العشرين لا يزالون «تلاميذ» مبتدئين لأصحاب هذه الجناسات من أدباء العربية، الذين يتفكهون بها أو يصدقونها تصديقهم لعلامات التفاؤل والتشاؤم، وأنها لباب واسع بين أبواب «الزجر والعيافة» وأسطورة متخلفة بين بقايا الأساطير.
وليس في كل ما قرأناه من تحريفات الأسماء عند الغربيين تحريفة واحدة ترتقي في إتقان الصنعة إلى الذروة التي ارتقى إليها شاعرنا المتفائل المتشائم علي بن العباس ابن الرومي المشهور.
أرسل إليه أمير يرغب في لقائه رسولًا مليحًا صاحب اسم مليح، وهو اسم «إقبال».
فلما فتح له الباب نظر أمامه فرأى باب دكان مقلوبًا، فانثنى إلى داره وهو يقول: إن اسم إقبال — إذا قُلب — فهو «لا بقاء»، ونعوذ بالله من نذير الفناء.
وسمع العصافير تصيح «سيق سيق»، فأيقن أنه في «سياق» الموت، كأنما كانت عصافير بيته تعرف العربية، أو تعرف لها لفظًا غير «سيق سيق» في أيام مرضه، وأيام صحته وفي جميع الأيام.
وقد اشتملت كتب الأدب العربي على فصول مطولات عن علامات البشارة والإنذار من أسماء الناس، وأسماء الحيوان والنبات.
فجعفر عند المتشائمين «جاع وفر»؛ ولا أمان مع الجوع والفرار، والنوى جمع «نواة» نذير بالنوى والفراق، وسفرجل نذير بسفر يجل عن احتمال؛ فهي فسحة واتساع.
أما الغراب، فكل شيء فيه من اسمه ولونه ونعيبه ومكان وجوده؛ نذير يشير إلى نذير.
وربما تألف من هذه «التوفيقات» قاموس ضخم، يبتدئ بالهمزة وينتهي إلى آخر الكلمات في آخر حروف الهجاء، ونطلع عليه متفائلين أو متشائمين فنسقطه من الحساب بعد بضعة أيام؛ لأنه يعطينا البشير والنذير في الكلمة الواحدة من الصفحة الواحدة، ولا تتلاحق فيه صفحة بعد صفحة إلا خرجنا من كل حرف فيها بمائة بشير ومائة نذير، ولعلنا ننقل القاموس إلى لغة أخرى غير العربية، فنفهم منه أن «الغيب المجهول» يبشرنا بلسان وينذرنا بلسان، ويقول على لسان المتكلم ما لا يقوله على لسان الترجمان.
ولست أذيع للسيد «سمير» سرًّا إذا قلت له إنني — كجميع الناس — أحب أن أسمع كلمات البشارة وأكره أن أسمع كلمات التنفير والتحذير، ولكنني أقف بهذه وتلك عند حدها المأمون، فلا أسمح للكلمة الجميلة أن تخدعني بلفظة، ولا أسمح للكلمة المشئومة أن تخيفني ببضعة حروف، وإنني لأكتب هذه السطور وأمامي تمثال بومة أتحدى به الشؤم كله في «صنعه» الموهوب، ومسكني رقمه (١٣) مع مثل هذا الرقم في كثير من ملابساته عندي، وهي معروفة لمن يعرفونني من أصحابي وذوي قرباى.
وأكاد أسمع بعد هذا سؤالًا على لسان القارئ، يحتاج إلى جوابه مع جوابي للسيد «سمير»: ولماذا كل هذه المبالاة بالتفاؤل والتشاؤم، إن لم يكن لهما قرار عميق في نفسك؟
وأعود إلى ابن الرومي — سامحه الله — فأقول إنه هو القرار العميق ولا قرار؛ فإنني كنت أسمع التحذير — مزحًا وجدًا — ممن يحضرون كتابتي عنه وإعجابي بشعره، فكان تمثال البومة الصامت جوابًا لهم، يتكلم معهم بلسان الحال كلما لجوا في المقال، ووددت يومئذ لو لأنني استغنيت عن التمثال الصامت ببومة ذات نعيب؛ فذلك جواب للسؤال أفصح من الصمت المجهول.