حديث الحميراء١
تحية طيبة مباركة، وبعدُ، فقد ذكرتم في كلمتكم القيمة التي نُشرت بجريدة الأخبار حديثًا اشتهر بين الناس بأنه مرفوع إلى النبي — عليه السلام — وهو غير صحيح، وذلك هو حديث: خذوا نصف دينكم من هذه الحميراء.
قال فيه الحافظ ابن حجر: لا أعرف له إسنادًا ولا رأيته في شيء من كتب الحديث، إلا في النهاية لابن الأثير ولم يذكر من خرجه، وسُئل الحافظان المزي والذهبي فلم يعرفاه، ولا نستقصي أسماء من طعنوا فيه من أئمة الحديث.
وقد دعاني إلى بيان حقيقة هذا الحديث ما أعرفه من أن الناس يثقون بكل ما تنشرونه ولا يشكون فيه، وتفضلوا بقبول فائق الاحترام.
نشكر للأستاذ الفاضل استدراكه، ونود أن نقول — لهذه المناسبة — إن تحقيق الإسناد لم يكن حكرًا للمشتغلين بالتحديث ونقل الروايات عن الأحاديث؛ لأننا جميعًا نستند إلى أقوال ثقات اللغويين في تحقيق الشواهد اللغوية من قبل الإسلام في عصور اللغة الأولى، وقد روى صاحب لسان العرب هذا الحديث بهذه الصيغة: «خذوا شطر دينكم من الحميراء»، ثم قال: يعني عائشة. وكان يقول لها أحيانًا: يا حميراء.
وقد تحقق في تاريخ الحديث والمحدثين أن الشيخين اتفقا على رواية مائة وأربعة وسبعين حديثًا عن السيدة عائشة — رضي الله عنها — وأن البخاري انفرد بأربعة وخمسين ومسلمًا بثمانية وستين. وقال مسروق: رأيت مشيخة أصحاب رسول الله الأكابر يسألونها عن الفرائض. وفي الجزء الثالث من تيسير الوصول عن أبي موسى — رضي الله عنه — قال: ما أشكل علينا، أصحابَ رسول الله، حديث قط فسألنا عائشة عنه إلا وجدنا عندها منه علمًا، وقد أخرجه الترمذي وصححه.
فالواقع أن صحابه النبي — عليه السلام — كانوا يأخذون أحكام الدين من السيدة عائشة، وأنها — رضي الله عنها — عاشت بعد النبي قرابة أربعين سنة يسألها الصحابة التابعون عن أحكام الدين فتجيب، ولم نسمع أن أحدًا منهم شك في قبول حديث سمعه منها.
وقد جاء معنى الحديث في غير المراجع التي أشار إليها الأستاذ أبو رية، مرويًّا في «كنوز الحقائق من حديث خير الخلائق» للإمام المناوي على هامش الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير، ونصه هناك «خذوا ثلث دينكم من بيت عائشة.»
فأما الطعن في الحديث فلن يكون طعنًا في صحة معناه ولا في صحة الواقع، وإنما يكون سكوتًا عن السند أو عن تسلسل الرواية، ومثل هذا السكوت مما يحمد الرواة عليه؛ لأنه شاهد بأمانتهم في النقل وتحرجهم من نسبة الحديث إلى سند لا يعرفونه، ولكنه لا يبيح تكذيب الحديث ولا الجزم بامتناع صدوره عن النبي — صلوات الله عليه — إذ كان النبي لا يمنع سؤال السيدة عائشة عن شيء يستفسرونه من كلامه، وإن حدث هذا على فرض من الفروض البعيدة جدًّا، فلن يوجد من بين صحابته — رضوان الله عليهم — من يسأل بعد ذلك عن حكم واحد أو فريضة واحدة ترجع إلى سند منهي عنه.
وجوهر المسألة كلها أننا روينا عن السيدة عائشة إنكارها لقولهم: إن الميت يُعذب ببكاء أهله عليه. وأنها تلت بعد ذلك آية الكتاب التي نصت على أن الإنسان لا يؤخذ بوزر غيره وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ.
فالاستناد إلى إنكار السيدة عائشة لما نقل عن النبي بذلك النص، إنما هو الاستناد الصحيح الذي يدعمه نص الكتاب الكريم، وأخذ هذا الحكم عنها سبب من أسباب اليقين لا غبار عليه، ولا يبقي من موضع الخلاف بعد هذا إلا أن حديث الحميراء لم يسمعه بلفظه بعض الحفاظ، ولكنهم لا يقولون بامتناع وقوع الأخذ ولا بمنعه عقلًا ولا نقلًا على وجه من الوجوه.
ونعود أخيرًا فنقول للأستاذ الأمين على تصحيح الأحاديث من مصادرها: إننا نتحرج غاية الحرج من نسبة أمر إلى صاحب الدعوة الإسلامية، لا يجوز صدوره منه، أو يجوز أن يكون فيه خلاف لكتاب الله وللمعهود المأثور من خلائق رسول الله، وإن الحديث المشهور الذي نستشهد به أحيانًا قد يختلف الناقلون له بنصه كما تختلف النصوص في بعض الأحاديث المصححة باتفاق الثقات، ولكنه لا يختلف أبدًا عن مدلول الأحاديث الأخرى التي تؤيده بمعانيها كما تؤيده بوقائع التاريخ وحجة العقل السليم.
وللسيد أبي رية حقه من الشكر على غيرته وحسن استدراكه في المبدأ والختام.