تقدير الأعمار١
… من المعضلات التي يلاقيها المرء في حياته «العقائدية»، مسألة التعمير وتكاثر النوع البشري في أيامنا هذه بصفة مدهشة، وصلتها بقوله جل شأنه: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ. والعلماء اليوم يعزون ظاهرة التعمير وتكاثر النوع البشري إلى تحسن الأحوال المعيشية وازدياد عدد المستشفيات في المرافق المتمدنة! فهل هناك تأويل آخر للآية الكريمة غير الذي ذهبت إليه جمهرة الفقهاء والمفسرين من أن آجال الناس محدودة؟ أرجوكم أن تقولوا قولًا فاصلًا في هذه المشكلة وما شابهها، وأن تنقذوا جيلًا كاملًا من الحيرة التي غزَت عقولهم بتضارب هذه الآراء واختلافها.
وإني إذ أتقدم إليكم بهذا السؤال المتواضع، أشكركم جزيل الشكر على ما أسديتموه من أياد بيضاء للعالم الإسلامي والعربي، بما قدمتموه إليه وكشفتم له عن زيف الدعوات التبشيرية التي نشطت في هذه الأيام، واستغلت جهل الناس وسذاجتهم لتقويض دعائم العروبة والإسلام …
هذا سؤال من أسئلة شتى في المسائل الدينية نتلقاها من ناشئة المتعلمين في أنحاء العالم الإسلامي ونغتبط بها أحيانًا؛ لأنها، في بعض دلالاتها، قد تدل على علامات حسنة تدعو إلى التفاؤل وصدق الرجاء، بين العلامات الأخرى التي لا تندر في هذا العصر المضطرب، وفيها ما فيها من نذر التشاؤم والريبة.
فمن علامات التفاؤل أن تتفتح الأذهان الفتية للبحث في حقائق الكون وأسرار الحياة، ومنها أسرار الأعمار البشرية.
ويدعو إلى التفاؤل أن ينظر الشاب المتعلم في براهين عقيدته ولا يأخذها مأخذ التسليم الأعمى بما يجهله، ولو كان من المسائل التي تعلم بالدرس والمناقشة.
وأدْعى من ذلك إلى التفاؤل أن يصون الشاب المتعلم عقله وضميره عن رعونة المذاهب الهدامة، التي يخيل إلى أصحابها المحدودين أن المسألة من الخفة والهوان بحيث تنصرف بكلمة إنكار وتسليم، وقد يكون هذا التسليم المنكر أحوج إلى الدليل من تسليم العجائز بأسخف الخرافات!
لكننا — على هذا — لا نحب أن يبلغ المبشرون غايتهم بهذه السهولة التي تيسر عليهم أداء رسالتهم الخبيثة من أهون سبيل.
فإن الأعمار تقصر وتطول لأسباب معروفة ومجهولة، ولا يلزم من العلم بأسباب قصرها وطولها أن يمتنع تقدير الأعمار على قول من أقوال المفسرين الأقدمين أو المحدثين.
وقد حدث في أيام الموت الأسود أن كان الناس يموتون بالألوف في سن الطفولة وسن الشباب وسن الشيخوخة، وعرف الناس لماذا قصرت أعمار صغارهم وكبارهم فلم يعترضوا بذلك على عقيدتهم في تحديد الآجال.
وتطول الأعمار اليوم مع توافر أسباب الصحة ويعلم الناس لماذا تطول؛ فلا يجوز أن يكون ذلك مبطلًا لعقيدة من العقائد في تحديد الآجال.
وندع الأحياء وننظر في الجماد الذي لا يحيا ولا تُعرف له روح باقية أو فانية بمعنى من معاني الروح، فإننا نعرف أن آنية الحديد يطول أجلها حيث تقصر آجال الآنية من الخزف أو الورق، ولا يلزم من ذلك أن نتجاهل أسباب التفاوت في هذه الآجال، بل لا يلزم منه أن يزيد عمر الحديد إذا تعرض للتلف على عمر الورقة المحفوظة في مكان أمين، أو عمر الورقة التي تعالج بالعقاقير لتحتمل العوارض الجوية التي تُبلي صحائف المعدن المتين.
فالعلم بأسباب البقاء الطويل أو القصير لا ينفي صحة العلم بالطبائع التي تكتب لها الأعمار الطوال أو القصار؛ فإن تقدير الآجال شيء، وتعليل اختلافها بالسنوات والأيام شيء آخر.
على أن التعليلات العلمية الحديثة لم تكشف سرًّا واحدًا من أسرار الأعمار الحيوانية في أصول تكوينها، بعد كل ما عرفه العلماء من أسرار الصحة والمرض وأسرار التعمير والاغتضار.
لماذا تعيش سمكة الشبوط مائة وخمسين سنة، ولا يعيش الحصان القوي حتى يبلغ الأربعين؟
ولماذا يزيد عمر الببغاء على عمر النعامة؟
ولماذا يزيد عمر السلحفاة على عمر الحوت؟
ولماذا تعيش شجرة من النبات ثلاثة آلاف سنة، ولا يعيش نبات آخر بعد عامه الذي يثمر فيه؟
إن العالِم الذي يدعي علم أسرار العمر في حي من الأحياء يخرج نفسه من عداد العلماء، ويلحق بزمرة الأغرار الأدعياء.
وعلينا نحن أن نبحث عن هذه الأسرار، وأن نستمع إلى أقوال العارفين بقليلها وكثيرها، ولكننا نسهل للمبشرين مهمتهم إذا سمحنا للشكوك أن تتسرب إلى عقولنا وضمائرنا من ذلك اللغط الذي هو أولى بالشك، بل بالرفض القاطع، دون منافذ العقل والضمير.