يحمل منارة الجهل فوق رأسه١
… يظهر أن مؤلفي الغرب يتجاهلون هذه الحقيقة — حقيقة الحضارة العربية — بل يزيدون على التجاهل أنهم يقحمون في كتبهم لغير مناسبة مقالات ملأى بالهجوم على السليقة العربية وينعتونها بأحط الصفات، وإني أقرأ الآن كتابًا لمؤلف إنجليزي اسمه هربرت كارسون عن وسائل التغلب على المنافسة، أقحم فيه المؤلف صفحتين حشاهما بالحملة على العرب ولا صلة لهما على الإطلاق بموضوع الكتاب، ومع هذا نسخة من كلامه راجيًا منكم التعليق عليه …
هذه فاتحة الخطاب الذي تلقيناه من الأستاذ سعد زغلول محمود، واكتفينا منه بما نشرناه هنا؛ لأنه — مع الإجابة عليه — قد يغني عن نشر الخطاب بتفصيلاته.
وقد اطلعنا على الكلام المقتبس من كلام المؤلف كما نقله الأستاذ سعد، فوجدنا أنه قد جعل اسم «العرب» عنوانًا للمنافسة الضارة في الأسواق، لزعمه أن العرب يحسنون التخريب ولا يحسنون الإنشا والتعمير، ومن كلامه عن أصل السليقة العربية ينكشف للقارئ — بغير عناء — كل ما انطوى عليه عقله الضيق من الجهالة والحمق، وقلة الأمانة الخلقية والفكرية التي ينعاها على تلك السليقة، ويضرب لها الأمثال — لسوء الحظ — ضربًا ينقلب عليه، ولا يصدق إلا على سليقته هو وسليقة أمثاله من صرعى التعصب والغباء، الذين يقولون ما قالوه عن جهل أو ادعاء.
فهو يقول على هذه الرواية المقتبسة ما خلاصته: إننا نرثي للعرب لأنهم يعيشون في الصحراء القاحلة وننسى أن هؤلاء العرب هم صانعو الصحراء بأيديهم؛ لأنها كانت عامرة مخصبة قبل أن يسكنوها، فما زالوا بها حتى دمروا العمار فيها، وأحلوا الرمال والتلال محل المروج والبساتين. ثم يضرب المثل بمدينة قرطاجة، التي كانت آهلة بالسكان موفورة الثروة قبل أن ينزل العرب بالصحراء الكبرى، فأصبحت بعد نزولهم بها خرابًا يبابًا ينعى من بناه …
إن أمثال هذا اللغط السخيف خطبه هين وسره مكشوف؛ لأن قائليه يحملون «منارة» الجهل على رءوسهم فلا يخفى أمرهم على أحد، ويدلون على سرهم فلا يحتاج أحد إلى البحث عنه؛ إذ هو ينادي على نفسه فيعلم من لا يعلم أنه هو سر التعصب الأعمى بجميع معانيه: تعصب الدين، أو تعصب الجنس، أو تعصب الغباء والادعاء.
فالرجل الذي يجهل أن الصحاري موجودة في القارات حيث وجد العرب وحيث ينقطع السبيل بين العرب وبينها؛ هو مخلوق منقطع النظير، يحمل على رأسه منارة من منارات الجهل، تملأ الجهات الأربع من حوله، ولا تحتاج إلى بحث عنها غير النظر إلى خريطة الكرة الأرضية وإلى الألوان الصفراء عليها بغير قراءة الأسماء.
وجهله بعوامل الجفاف على ظهر الكرة الأرضية هو من نوع الجهل الذي يكشفه اليوم كل تلميذ يقرأ مبادئ الجغرافية أو طبقات الأرض أو الظواهر الجوية في كتب الدراسة الأولية.
ولو أنه قال إن قبائل «الإسكيمو» غيرُ أهْل للرثاء لأنهم هم الذين خلقوا مناطق الجليد حول القطب، لما كان هذا أعجب من قوله إن العرب هم الذين خلقوا الصحراء، وإنهم من أجل ذلك لا يستحقون الرثاء!
ومنارة الجهل الكبرى فوق رأس المعلم كارسون هذا هو كلامه عن «قرطاجة»، كما سماها، في معرض الكلام عن المنافسة المخربة الضارة، وعن الفرق بينها وبين المنافسة المنشئة النافعة.
فإن حقيقة اسم «قرطاجة» المعروف أنها هي «قارة حداثة» أو القرية الحديثة، التي أنشأتها على باب الصحراء سلالة عربية قديمة كانت — كما هو ظاهر من اسم البلدة — تتكلم العربية التي كان العرب يتكلمونها قبل الميلاد بعدة قرون.
فما الذي حدث بعد ازدهار هذه المدينة ومنافستها للدولة الرومانية بين البحر والصحراء؟
المنافسة المخربة
الذي حدث أن المنافسة المخربة جاءت من جانب الرومان، فخربوها وحكموا على أهلها بأن يتركوا مكانها خلاء ولا يعيدوا بناءها إلا في داخل الصحراء على مسافة أميال. ثم تعقبوا سفنها وقوافلها حتى لحق بها الدمار — بفضل المنافسة الرومانية — وهي في جوف الرمال بعد أن لحق بها دمارهم وهي على شاطئ الماء.
فالسلالة العربية عمرت الصحراء وعمرت البحر بقوافل السفن، كما عمرت الرمال قبل ذلك بقوافل الجمال!
أما المنافسة المخربة — بل المنافسة الوقحة التي لا تبالي أن تُعلن حسدها على ملأ من العالم وعلى مسمع من التاريخ — فهي تلك المنافسة التي أعلنها أجداد الأوربيين على أجداد العرب الأولين.
والمعلم كارسون — فيما نقل عنه — يحمل منارة الجهل فوق رأسه، فيطلب من القوم في هذا العصر أن يذكروا «قرطاجة» ليذكروا أنه جاهل أحمق، أو أنهم منافسون شرفاء على طراز من الشرف لا يُحسدون عليه.
ولا يعدو كارسون هذا أن يكون سمسارًا من سماسرة الصهيونية المحترفين، ولكنه هو وأمثاله طغمة لا تضرنا عداوتهم، ولم تلبث سهامهم أن ترتد إليهم عند قومهم قبل غيرهم. وإنما الخطب الذي يستحق العناية به والحذر منه، هو خطب السماسرة المقنعين، الذين يزجون أكاذيب الصهيونية بين سطور الكتب باسم العلم والدراسة، أو يزجونها بين أنباء الصحف باسم الفن والسياسة، ومنهم من يحاربنا في عقر دارنا حين يموه علينا أمور كتَّابنا ودعاة الفنون بين ظهرانينا؛ لأنهم يسكتون عن الصهيونية أو يخدمونها — من تحت لتحت — على هذه الطريقة المستورة.
إن الذي يقول لنا إن العرب خلقوا الصحراء خطبه هين وسره معلوم غير مجهول، ولكن الخطب الذي نغفل عنه هو خطب الدعاية الصهيونية التي تدس علينا بين صفوفنا.
فمن هذه الدعاية فلنحذر يا أستاذ سعد، ومنها يكون الحذر الأكبر في عالم الأفلام على الخصوص؛ لأن هذه الدعاية — فيما نعتقد — لا تخفى على المشتغلين بصناعة الأفلام، وينبغي ألا تخفى على إخوانهم المشتغلين بصناعة الأقلام!