قبلة الجزائر بين مكة وباريس١
ثورة الجزائر
ثورة الجزائر خبر اليوم الذي يملأ الصحف وتهتز به موجات الأثير.
وإن هذه الثورة لدرس رادع للمستعمرين وعبرة نافعة للمعتبرين، ورجاء صادق لليائسين.
كان المؤرخ الفرنسي ووزير الخارجية في وقت من الأوقات — جبرائيل هانوتو — يقول قبل خمسين سنة إنهم استطاعوا أن يحولوا قبلة التونسيين من مكة إلى باريس.
وجاء بعده من يقول إن التجربة نجحت في الجزائر أضعاف نجاحها في تونس؛ لأن الجزائريين دخلوا في الجنسية الفرنسية، وفتحت لهم أبواب البرلمان الفرنسي، وأصبحوا يتعلمون لغة الدولة الحاكمة قبل لغتهم العربية، ويُفرض عليهم في السنوات الأولى أن يُلقبوا تلك الدولة بلقب الأم الحنون.
وكنا نحن في أسوان نبصر بالعين خطأ الوزير السياسي الفيلسوف وضلاله في سياسته وعلمه وفلسفته، قبل أن نميز الخطأ من الصواب في مباحث السياسة والتاريخ.
كنا في مدرسة أسوان نتطلع إلى العمل الوطني الذي نسمع عنه كثيرًا، ونتعجل الوقت الذي نضطلع فيه بشيء منه بالغًا ما بلغ من القلة والضآلة، وكانت المدارس في البلدة قليلة، ومدرستها الأهلية التي أنشأها أحد فقهائها باسم المدرسة الإسلامية فقيرة إلى المساعدة والتشجيع؛ لضعف مواردها وقلة الإقبال عليها، فاتفقنا نحن فئة من تلاميذ المدرسة الأميرية على التطوع بالتدريس في فصولها التحضيرية، وكان رائدنا وسابقنا إلى هذه المهمة اللواء صالح حرب، رئيس جماعة الشبان المسلمين، فإنه توظف قبلنا، فاستطاع أن يضيف المساعدة بالمال إلى مساعدته التي كان يؤديها بالتدريس في أوقات الفراغ.
وأذهب إلى المدرسة الإسلامية ذات يوم لأداء حصتي، فأجد هناك شابًّا غريبًا في كسوة غريبة، لم أر شبيهًا لها قبل ذلك؛ فقد كان يلبس كسوة التشريفة الأوربية، وعلى رأسه الطربوش المغربي، وفي إحدى يديه قفاز ويده الأخرى عارية بغير قفاز، فعرفني به صاحب المدرسة وعلمت منه أنه الأمين الخاص لنبيل فرنسي من الأسر العريقة، وأنه يصحبه في رحلاته الشرقية، وقد صحبه في هذه الرحلة الشتوية إلى أسوان.
كان الكلام بالفرنسية أيسر على هذا الشاب من الكلام بالعامية الجزائرية، فضلًا عن العربية الفصحى، وكانت تربيته منذ طفولته في باريس، حيث عرف النبيل من سنوات الدراسة الباكرة، وكانت له فترة فراغ في الصباح وفترة أخرى بعد الظهر يقضيهما حيث شاء غير متقيد بصحبة النبيل، فترك الفندق وملاهيه ذلك اليوم ليبحث عن معهد إسلامي أو مدرسة إسلامية يطلع فيها على خبر من أخبار الإسلام في هذه الديار، وطفق بعد ذلك يتردد على المدرسة كل صباح، ويبذل لصاحبها ما استطاع من المعونة والإرشاد.
لم يكن هذا تصديقًا فلسفيًّا أو تاريخيًّا لنبوءة هانوتو وأمثاله، ولكننا رأينا خطأ الفيلسوف المؤرخ رأي العين قبل أن نرجع إلى الفلسفة والتاريخ.
للفرنسيين مستقبل واحد في الجزائر طال بهم الزمن أو قصر.
مستقبلهم أن يعيشوا فيها جزائريين، أو يرحلوا عنها مطرودين. وأما أن تصبح الجزائر الفرنسية في حضن فرنسا — أمها الحنون — فلن يطول الرضاع أكثر من خمسين سنة!
وهذه صيحة الطفل الرضيع على أمه الحنون.
إنها لدرس للمستعمرين وعبرة للمعتبرين ورجاء لليائسين.