إنصاف١
… شكرت لك تحقيقك في إنصاف الأستاذ الإمام … وأود لو قرأنا لك مثل هذا الإنصاف للزعيم أحمد عرابي — رحمه الله — فقد وصفوه بصفات تُنفر المطلع واعتبروه شؤمًا على البلاد، ومع أن الأستاذ محمود الخفيف دافع عنه في كتابه عن «أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه» — شكر الله صنعه — نعتقد أن المجال متسع للدفاع عنه في الصحف السيارة؛ لأن الاطلاع على الكتب محدود، وقد رأيت الزعيم بعد أن عاد من المنفى ببضع سنوات في المسجد الحسيني سنة ١٩٠٨، فرأيت شمائله تدل على الوطنية والإخلاص والفلاح، ولكن:
وإننا لفي انتظار بيانكم الوافي في هذا الموضوع.
إن إنصاف عرابي واجب على التاريخ، تلام على التقصير فيه الأمة بأسرها، ولكنه واجب قد تصدى له كثيرون من كتابنا الفضلاء، الذين عرضوا لحوادث الثورة إجمالًا وتفصيلًا في الصحف والمجلات أو الرسائل الموجزة والكتب المطولة، وأهمها — فيما نرى — كتاب المؤرخ الصادق الأستاذ محمود الخفيف، الذي أشار إليه صاحب الفضيلة الأستاذ الطوبجي، واطلع عليه القراء من جميع البيئات المثقفة، وقد صححنا ما اتسع المقام لتصحيحه من أقاويل المفترين على عرابي من المخلصين في النقد أو المسخرين للقصر الخديوي، واتفق أن الكتاب الذي صححنا فيه هذه الأقاويل — وهو كتاب ١١ يوليو عن ضرب الإسكندرية — صودر عند ظهوره في هذا التاريخ من شهر يوليو سنة ١٩٥٢، فلم يمض أسبوعان حتى كانت الثورة على حفيد إسماعيل إيذانًا بالإفراج عن كتاب الثورة على ابن إسماعيل الكبير محمد توفيق … ولم يكن في الكتاب عن تفاصيل الدسائس الخديوية غير القليل الذي يُسمح به مع قيام الأسرة الخديوية على عرش البلاد، فلا يزال الكثير من خبايا ذلك العهد بحاجة إلى التصريح والتفصيل.
ولكننا نستطيع — في انتظار التفصيل الوافي — أن نجعل القاعدة التاريخية التي يقوم عليها تحقيق الرأي فيما ينسب إلى عرابي من المآخذ والأخطاء.
فهي على الجملة قسمان: قسم يتهمه في رأيه وتدبيره، وقسم يتهمه في أمانته وشرفه.
ولا حرج عندنا في اختلاف الرأي وإن أخطأ المخالفون؛ لأننا لا ندعي العصمة لعرابي ولا لأحد من زعماء ثورته أو خصومه، ولكن على شريطة الإخلاص في النقد والإنصاف بين الطرفين.
وعلامة الإخلاص واضحة لا تخفى؛ وهي ألا تكون أخطاء عرابي سترًا لأخطاء الخديو أو الحاشية الخديوية على العموم. فإذا عِيب على عرابي مثلًا أنه لم يردم القناة، أو أنه لم يُحسن الدفاع في المعركة الأخيرة، فمن الواجب أن نذكر — مع هذا — أن جواسيس الخديو كانوا يندسون في الجيش ويتسللون إلى خيام الصحراء لرشوة البدو وتحريضهم على العرابيين، وينقلون أخبار الحركات العسكرية إلى العدو قبل تنفيذ الخطط المنوية، ومنها خطة التجريدة التي تحركت لردم القناة في الموضع المتفق عليه، فوجدته محروسًا محميًّا في اللحظة الأخيرة.
أما المتهمون لعرابي في أمانته وشرفه، فهم الآن قلة نادرة أو معدومة؛ لأنهم كانوا يشيعون عن الرجل أنه متواطئ مع الإنجليز قبل الثورة وبعد الثورة، فيجدون من يصغي إليهم ويتقبل دعواهم، وبلغت القحة بأحدهم أنه لقي الرجل بعد عودته من المنفى فتقدم إليه يسأله: أأنت عرابي؟ قال: نعم يا بني. فعاد يسأله: عرابي الخائن؟ فتألم الشيخ الضعيف وأجابه في ضجر وأسف: كلا يا بني … أنا عرابي بغير لقب إن شئت وشاءوا … ولكني لست بعرابي الخائن، سامحك الله!
فبصق الفتى الوقح في وجه الشيخ وتركه والدموع تتساقط من عينيه.
ولم يبق بحمد الله من يُصدق اليوم أن زعيم الثورة تعمد أن يثور على الأمير ليفتح أبواب البلاد للاحتلال، بل علم الكثيرون اليوم أن الأمير هو الذي استعان على الثورة بالاحتلال، ودبر حريق الإسكندرية لتسويغ نزول الجيش البريطاني إلى البر بدعوى حماية الأجانب وحماية السلطة الشرعية، فإن مصلحة الخديو الشخصية ظاهرة في هذه الدسيسة، ولا مصلحة لعرابي في احتلال يقضي عليه.
وقد كانوا يروجون الغفلة على الجهلاء بإصرار الإنجليز بعد محاكمة عرابي على استبدال حكم النفي بحكم الإعدام، ولكن السياسة الإنجليزية كانت تقضي على الدولة في عهد حزب الأحرار أن تسلك هذا المسلك اضطرارًا؛ لأنها كانت تتذرع بفساد الحكم وظلم الرعية في مصر للبقاء في البلد وإصلاح نظام الحكم فيه قبل الجلاء، فلم يكن في وسعهم أمام العالم المتمدن أن يعتبروا الثائر على الفساد والظلم مجرمًا يستحق عقوبة الإعدام، ولم يكن من خطة الاستعمار الإنجليزي قط في عهد الأحرار أو المحافظين أو العمال أن يُعاقبوا كبار الزعماء الوطنيين بالإعدام؛ فلم يعدموا غاندي ولا طيلاق ولا نهرو في الهند، ولم يعدموا كروجر وزملاءه في الترنسفال، ولم يعدموا سعد زغلول وزملائه في مصر؛ لأنهم يعلمون أن قتل الزعماء يعقب الذكريات الدامية التي لا تُنسى ويستثير الشعوب إلى الثأر، ولو بعد حين.
والتهم التي تُوجه إلى عرابي لا تخرج عن أحد هذين القسمين: قسم المتهمين له في رأيه وتدبيره، ولا حرج عليهم في اختلاف الآراء على شريطة الإنصاف بين الطرفين؛ وقسم المتهمين له في أمانته وشرفه، ولا وجود لهم الآن.
وقد يغني هذا عند إجمال القول كما تقدم، ولكنه لا يغني عن التفصيلات الوافية لشرح الحوادث وكشف الخبايا، مما لا يزال مطويًّا في أوراقه أو مجهولًا لغير الباحثين عنه، ولا شك أنها — كسائر الخبايا التاريخية في الحوادث الكبرى — سر لا يطول عليه الكتمان.