الدين في القرن العشرين١
وجدت بعد عودتي من أسوان طائفة من المجاميع الدورية التي تصدر في لغات الغرب باسم التقاويم، ويغلب عليها في الزمن الأخير أن تُسمى بالكتب السنوية، تمييزًا لها من الكتب المخصصة لمباحث الفلك ومواعيد الفصول.
في هذه الكتب كثير من البيانات النافعة عن مجرى الأحوال خلال العام إلى شهوره الأخيرة، وقد تلم هذه البيانات بكل مسألة من المسائل العالمية في ميادين السياسة والاقتصاد والعلم والاختراع والحركات الاجتماعية والدراسات الثقافية على اختلافها، وقد تُعنَى بهذه الدراسات الثقافية في مقدمة أبوابها؛ لأنها مطالعات عامة يشترك في العناية بها معظم القراء.
وعلى حسب العادة، نظر نقاد الأدب والثقافة في حركة التأليف والنشر، وسجلوا أرقامهم وإحصاءاتهم التي تدل على أطوار الثقافة في بلادهم بمقدار إقبال القراء عليها وعناية المطابع الكبرى بنشرها وتنويع طبعاتها، ومهما يكن من القصور في دلالة الأرقام والإحصاءات على المسائل العقلية، فالأمر الذي لا خلاف عليه أنها لا تخلو من دلالة صحيحة على «سير الثقافة» بجملتها، وقد نعود إلى آراء النقاد الفنيين في غير هذا الأسبوع، ولكننا نقدم منها جانبها الخاص بالمسائل الروحية أو العقائد الدينية؛ لأنها أشبه بأحاديث رمضان الذاهب وأحاديث العيد المقبل، وأَولى بالتقديم من ناحية الفكر فضلًا عن ناحية الدين؛ لأنها تصحح نظرات المتعجلين الذين يلبسون ثياب «المادية» عندنا، ويحسبون أن حديث الدين بين أمم الحضارة العصرية قد ذهب إلى غير رجعة، فلا يلتفت إليه أحد من غير «الرجعيين» المنسيين، وما أقلهم عددًا وشأنًا في حساب الإحصاء والأرقام! …
كان كتاب العام باتفاق كبار النقاد هو كتاب «العهد الجديد» في ترجمته الأخيرة إلى اللغة الإنجليزية، ويقول برنس هوايت أحد هؤلاء النقاد: بل لعله كتاب القرن العشرين!
بيع منه قبل انقضاء أربعة أشهر مليونان وخمسمائة ألف نسخة، منها خمسمائة ألف نسخة في جلد فاخر تُباع النسخة منها بجنيه، وينظر طابعوه في زيادة هذا العدد إلى أضعافه، وزيادة النسخ الفاخرة منه للحفظ والصيانة، مع النسخ الأخرى التي يشتريها القراء للتداول بين الأيدي ومعاودة الاطلاع عليها من حين إلى حين.
ودلالة الاستعداد لإظهار هذه الترجمة أهم من دلالة الإقبال عليه بعد نشرها؛ لأن الناشرين المشهورين أكبروا أن تنفرد شركة واحدة من شركاتهم المعدودة بتحضير الترجمة وعرضها لطلابها، فاتفقت مطبعة أكسفورد ومطبعة كامبردج للتعاون بينهما على مهمة الترجمة والطبع والنشر، وتحرجت هاتان الشركتان الكبيرتان أن تسند إحداهما عمل الترجمة إلى خبرائها الأكْفاء، فاتفقتا على اختيار المترجمين من كل طائفة مسيحية لها أتباع يقرءون هذه الترجمة بلغتهم، وخرجت الترجمة الدقيقة بعد العناء الطويل بإشراف عالم حجة في كل مذهب متبع في الغرب، ما عدا مذهب الكنيسة الكاثوليكية؛ لأن لها حكمًا في تفسير الكتب المقدسة يوشك أن يقصره على أقطاب الكنيسة، ويستوجب «تطويبه» بقرار من المرجع الأعلى يمنع التصرف فيه بغير مراجعة ذلك القرار.
إن الذين يحكمون على مسائل العقيدة بما يسمعونه من شقاشق الأقوال عن عصر «المادة»، يستفيدون لعقولهم — ولا نقول لضمائرهم فحسب — درسًا في هذه الأرقام في صدق الحكم على الأمور الإنسانية الواسعة، ويتعلمون كيف يفهمون الظواهر الكبرى في حياة بني الإنسان بمقياس أصح وأسلم من شقاشق الألفاظ وصيحات القهوات وأشباه القهوات، ويعودون إلى أنفسهم ليحسنوا المقارنة بين العصر الحاضر وبين العصور الماضية على أساس التكافؤ في تقدير الظواهر التاريخية وتثبيت ألوانها ومعالمها على حقيقتها؛ فإن العادة السهلة تحول دون تثبيت الألوان في المناظر البعيدة والمناظر القريبة على صحتها، حتى في محسوسات العيان والسماع، وتجعلنا نتخيل الشيء البعيد على صورة غير صورته حين نقترب منه أو يقترب منا، فلا نزال متعجلين في الموازنة بين أزمنة التاريخ والزمن الذي نعيش فيه؛ لأننا ننظر إليهما على زاويتين مختلفين، ولكن توحيد الزاوية بينهما قد ينتهي بنا إلى أعجوبة من أعاجيب التناقض في الأحكام والآراء.
وليس بالبعيد في اعتقادنا — إذا وحدنا الزاوية — أن تكون جماهير الناس في القرون الوسطى أقل اهتمامًا بالدين من جماهيرهم في هذا القرن العشرين، وأن يكون سلطان الدين في تلك القرون دليلًا على قلة اكتراث الجماهير للأمر كله، وإسناده بحذافيره إلى الذين احتكروه بحكم الصناعة، فإننا نستطيع أن نجزم بشهادة الأرقام وغير الأرقام أن القرون الوسطى كلها لم تقرأ من كتابها ما يعادل محصول القراءة في طبعته الجديدة خلال الأشهر الأربعة بعد صدورها. وكل شهادة غير شهادة الأرقام تؤكد لنا أن خلاعة الرجال والنساء في ظل السلطان المطلق للأقطاب الدينيين، قد تخجل خلعاء القرن العشرين وخليعاته في حلبات الأدب المكشوف، وقد يكون هذا «الأدب المكشوف» في العصر الأوربي الحديث أجدر باسم «الأدب المغطى»، إذا قيس إلى نوادر بوكاسو ورابليه، أو نوادر البورجيين في الهياكل والقصور.
وإذا كان صدق الحكم فضيلة يحمدها «المادي» لعقله، فليسأل نفسه ماذا استفاد من وسائل التفرقة بين الواقع والظن الخاطئ، بعد الاطلاع على حقائق الإحصاء والأرقام.
إذا صح تقديره، فمن الواجب أن يكون رقم الصفر (٠) بديلًا من تلك الأرقام التي تصعد إلى الملايين، وحسبه ميزانًا لخلل تفكيره أنه آلة يختلط فيها التقدير بين الصفر وعشرات المئات من الألوف.
والحال «بعضه من بعض» إذا نقلنا دلالة الإحصاء والأرقام من الغرب إلى الشرق، ومن كتاب المسيحية إلى كتاب الإسلام؛ فإن «المادي» المتعجل عندنا لا يستطيع أن يعزي نفسه ببعد المسافة بين بلاد العربية وبلاد اللغة الإنجليزية؛ لأنه لو علم عدد الألوف من المصاحف التي تنفد من كل طبعة على أثر ظهورها، لما كان خلل «المكنة» العقلية عنده أهون من ذلك الخلل الذي يهبط بأرقام الملايين إلى رقم الصفر أو الأصفار الكثار، على أكبر تقدير!