تاريخ الأنباط١
قرأت في بعض الكتب المقررة على الصف الأول الإعدادي عن تاريخ الأنباط وحضارتهم، ولكننا نريد المزيد من تاريخ هذه الدولة … وما مدى حكمها في بلاد الشام؟ وما هي اللغة التي تكلم بها الأنباط؟ وما دورهم في صد الرومان عن فلسطين؟
نرجو الإجابة؛ لأنني أجلت تدريس هذه الدولة إلى ما بعد ردكم على هذه الرسالة.
نشأ الأنباط على أشهر الأقوال عند بادية العراق، وتحولوا غربًا إلى الأرض الواقعة بين فلسطين وشواطئ البحر الأحمر، فتغلبوا على قبائل الأدوميين التي كانت هناك وأسسوا لهم دولة كبيرة تولاها ملوك متتابعون، عُرف الكثيرون منهم بأسماء الحارث وعبادة ومالك ورب أيل، وهم الذين تحرفت أسماؤهم باللغتين الرومانية واليونانية إلى أرتياس وأوبيدس ومليكوس وإربليه، وأشباه هذه التحريفات المعهودة في نقل الغربيين للأسماء العربية.
وهم عرب — كما يظهر من هذه الأسماء — ولكنهم كانوا يكتبون رسائلهم بالحروف الأرامية؛ لأنها كانت لغة الكتابة من وادي النهرين إلى حدود سينا.
وقد عاش منهم أناس في صحراء سينا، ووصل بعضهم في طلب المرعى إلى أقليم الشرقية وما جاوره من أقاليم الوجه البحري.
ولكنهم كانوا في مواطنهم بين البحر الأحمر وجنوب فلسطين ينحتون الصخر ويجوبون الكهوف في الجبال ويودعونها كنوزهم النفيسة، التي كانوا يجمعونها من قيامهم على نقل التجارة وحراستها بين العراق ومصر والشام.
وقد حاربوا إسرائيل زمنًا وحاربوا قواد الإسكندر وحاربوا الرومان ثم حالفوهم، ولم يخضعهم أحد كل الخضوع في عهد من العهود، إلا ما كان من أداء الإتاوات للدولة الرومانية، ولهم نظيرها من أجور الحراسة على القوافل وحملات الطريق.
على أنهم لما نقموا من الرومان تأييدهم لدولة الهيروديين — وهم من الأدوميين — زحفوا على حدود الشام، واستولى أحد ملوكهم على دمشق، فانتزعها من ولاة الدولة الرومانية، وأشار إليه بولس الرسول في رسائله إلى أهل غلاطية وكوزشوس؛ أي بعد الميلاد بجيلين.
ولا يُعرف لهم ملك مستقل بعد مالك الثالث الذي عاصر الإمبراطور طراجان، وفي أيامه ذهب استقلال هذه الدولة، وأصبحت منذ أوائل القرن الثاني للميلاد تابعه لولاية الشام.
وكل ما صنعه الأنباط بعد ذلك لإقصاء الدولة الرومانية عن الشام، فإنما صنعوه بحملات غير منظمة من العشائر المتفرقة، حالفوا بها كل من جاهر الرومان بالعداء إلى أواخر القرن الثاني للميلاد.
ويقول المؤرخون الأقدمون من العرب إن هذه العشائر سُميت باسم «النبط» لوفرة الينابيع التي كانت «تنبط» في ديارهم الأولى عند بادية العراق، ولكن الأرجح في سبب تسميتهم أنهم ينتسبون إلى جد قديم أو رئيس باسم «نبات»، وهو اسم معروف في روايات العهد القديم، ولا يبعد أن يكون هو ابن إسماعيل، عليه السلام.
وقد رُوي عن ابن عباس — رضي الله عنه — أنه كان يقول: «نحن معاشر قريش نبط»، ويريد بذلك صلة من صلات النسب الذي ينتمي إليه العرب المستعربون.
ولا غرابة في هذه الصلة إذا نفينا من أذهاننا شبهات الصفة «النبطية»، التي لصقت «بالنبط» بعد الإسلام؛ فإن هذه الصفة لم يكن لها معنى «العجمة» أو اللغة المبهمة قبل الدعوة الإسلامية، ولكنها شاعت بعد ذلك على أثر التمييز بين أصول القبائل الأولى عند المقابلة بين لهجاتها ولهجة قريش الفصحى، ويومئذ عادت الحميرية فأصبحت مثلًا من أمثلة العجمة وهي — كما هو معلوم — لغة العرب العاربة الأولين.