اضمحلال الغرب١
كان كتاب «اضمحلال الغرب» نعيبًا هائلًا أطلقه المؤرخ الألماني «أز والد سبنجلر» قبل نحو خمسين سنة، في إبان اعتزاز الغرب بانتصاره على الدولة الألمانية.
وكانت للمؤرخ المتشائم دواعيه الفلسفية التي لم يحفل فيها كثيرًا بأحوال السياسة والحرب في تلك الفترة، وكانت للأمة الألمانية كذلك دواعيها التي روجت فيها نعيب فيلسوفها المتشائم، فزاد عدد النسخ التي بيعت من كتابه في ألمانيا الفقيرة على ستين ألف نسخة؛ لأنها قد وجدت فيها عزاءها بعد هزيمتها وانتصار الدول الغربية عليها، فإنما هو انتصار كالهزيمة المبرمة كما أنبأها الفيلسوف الواثق من نعيبه الهائل ثقة المنجم البصير بساعة الكسوف.
أما دواعي «سبنجلر» للإنباء بذلك المصير المحتوم، فهو إيمانه بغرور المؤرخين الأوربيين الذين حصروا الحضارة الإنسانية بين آفاق قارتهم المحدودة، واعتقاده أن حضارة هذه القارة ومعها حضارة الغرب كله، إن هي إلا صفحة من صفحات تنتشر ثم تنطوي متى حان بها يومها المقدور بحساب التاريخ، ويومها المقدور لكل حضارة منها قرابة ألف عام.
وترتيب هذه الحضارة الأوربية بين الحضارات الإنسانية هو الدرجة الثامنة أو التاسعة؛ بعد حضارة مصر القديمة، وحضارة الصين، وحضارة بين النهرين، وحضارة المجوس، وحضارات أمريكا القديمة، وحضارة اليونان والرومان ويُسميها الحضارة الأبولونية نسبة إلى أبولون رب الفن والفروسية، وحضارة الشرق الأوسط ومنها الحضارة الإسلامية، ثم هذه الحضارة الغربية الأخيرة واسمها عنده «الفاوستية»؛ نسبة إلى الساحر العالم «فاوست»، الذي اشترى الرجعة إلى الشباب ليبيع الروح والوجدان.
وليست الهزيمة علامة مهمة من علامات الاضمحلال في حساب سبنجلر؛ لأنه تنبأ للغرب بالاضمحلال وهو على قمة الضر بعد الحرب العالمية الأولى.
ولكن بوادر الاضمحلال عنده تظهر للعيان من أعراض ملموسة، تتكرر في كل حضارة على صور مختلفة، ولكنها متشابهة متقاربة، وتلك هي أعراض الانتقال من البساطة إلى البذخ، ومن حياة طبيعية إلى حياة مدنية، ومن البواعث الفطرية إلى بواعث التفكير بحساب المكسب والخسارة، ومن الخيال والبداهة الصادقة إلى حيل الذكاء وتنظيمات الآلة العلمية، ومن تقديس النبل والتضحية إلى تقديس الأثرة والمناورة.
والظاهرة الملحوظة في هذه الأيام الأخيرة هي عودة الاهتمام بنعيب سبنجلر إلى الشيوع في البيئات الغربية من أمريكا إلى ألمانيا؛ حيث وُلد الفيلسوف قبل أكثر من ثمانين سنة، فتردد البحث في كتابه بين تعليقات المعاصرين على فلسفات التاريخ التي تقدمت هذا العصر، وتجددت المقارنة بينها وبين مباحث التاريخ العصري خلال هذه السنوات، وأعيد طبع كتابه كاملًا، ثم ظهرت له اليوم طبعة مختصرة بالإنجليزية في مجلد متوسط بدلًا من مجلديه الكبيرين.
وربما كان ختام الموسوعة التاريخية، التي أتمها المؤرخ المشهور «توينبي» في اثني عشر مجلدًا منذ بضعة شهور، سببًا لهذه الرجعة إلى مذهب سلفه الكبير عن مصير الحضارة الغربية، ولكنها رجعة غير محتومة ولا مطلوبة لو لم تكن هنالك أسباب لا تُحصى للتشاؤم والحذر كلما تطلع الناس إلى المستقبل مشفقين من صراع المطامع والمذاهب والعصبيات، متوجسين من حروب الذرة والصواريخ وألغام الفضاء، ضعاف الرجاء في غلبة الأمل على اليأس، وغلبة الخير على الشر، وغلبة الوئام على العداء.
ومن الغلو في التفاؤل أن نزعم أن المتشائمين جميعًا مخطئون، وأن الخطر الذي يتشاءمون به موهوم أو مختلق أو مبالغ فيه.
ومن الإفراط في تجاهل الدلالات التاريخية أن ننسى دلالة النعيب الهائل، الذي انطلق منذ نصف قرن من صفحات الفيلسوف الملهم، أو صفحات الكُتاب الكثيرين الذين اتبعوه بالنذير بعد النذير، والتهويل وراء التهويل، فليست المسألة هنا مسألة الخطأ والصواب في التفكير، ولكنها قبل ذلك مسألة البواعث النفسية التي يدل عليها تحكم هذه الخواطر في تلك العقول، وليست هي بالعقول الضعاف، ولا هي بالعقول التي تخفى عليها سبل الصواب كل الخفاء إلى جانب سبيل الخطأ أو سبيل الخطر الموهوم.
والحق أن علامات الاضمحلال التي توالت بها النذر أظهرُ وأكثر من أن تحتاج إلى عناء طويل في البحث عنها، أو يتيسر للمتفائلين أن يهونوا من شأنها بعد العثور عليها.
فلا حاجة بالفيلسوف الناعب إلى أسباب تحقق له أسوأ ظنونه، على طريقته، ليضيفها إلى هذه الأسباب التي سنأخذ الآن في حسبانها ولا نمضي بها طويلًا إلى نهايتها، تسويغًا لتنفيذ حكمه الصارم على حضارته المتداعية.
ألا يكفيه — مثلًا — مسخ الفن الجميل وشعوذة الممسوخين بالقبح الفاضح باسم الجمال؟
ألا يكفيه ضعف الثقة بالوجود كله ممثلًا في ضعف الثقة بالدين والصدق ومكارم الأخلاق؟
ألا يكفيه تحويل المرأة من وظيفتها الاجتماعية ورسالتها الأموية؟
ألا يكفيه طغيان العرف الحيواني على معالم الشخصية الآدمية؟
ألا يكفيه ضياع التضامن «الآدمي» بين كفر الغالب بالله وكفر المغلوب بالإنسان؟
ألا تكفيه سيادة «السطحية» الرخيصة على كل قيمة إنسانية كانت من قبل ذات أعماق وآفاق؟
ألا يكفيه؟ ألا يكفيه؟ بلى يكفيه ويكفيه، ويكفيه، وحسبنا بعض هذا «التعداد» على الرجل في مأواه الذي آواه الموت إليه، قبل أن يتحقق نذيره بالموت لحضارة قومه الغربيين.
إن بعض ذلك يكفيه، وإن أكثر من ذلك من أسباب الاضمحلال لظاهر — غير خاف — حيث أنذر به في إبان حياته.
ولكنا نرجع به إلى فلسفته حين نرتاب في نبوءات تلك الفلسفة ومواعيدها، فإذا بقيت حضارة اليوم بعد أجلها، فإنما تبقى لأنها قد خرجت من حدود القارة الأوربية، وصارت إلى العالم الإنساني الرحيب الذي لا تحصره تلك الحدود.
إن باب الأمل الواسع في دوام هذه الحضارة العصرية أنها ملك بني آدم بحقهم في ميراثها وميراث الحضارات من قبلها.
ولو أنها كانت ملكًا للقارة الأوربية وحدها، لما شككنا في مصيرها، ولا في عجز تلك القارة عن حمايتها من ذلك المصير، قبل أن تتداركها حماية الله عن أيدي الصالحين الراشدين من بني الإنسان.