صاحب فكرة «إسرائيل»١
اطلع الأديب «عبد الرءوف توفيق» بهندسة القاهرة على كتاب حديث عن تاريخ الشرق الأوسط في العصر الحاضر، يُكثر فيه المؤلف من ذكر «تيود هرتزل»، ويقول عنه إنه كان له دوره الممتاز في تحويل الصهيونية من منظمة تعيش على التبرع والإحسان، إلى هيئة عالمية تعتمد على نظام أصيل، ويسأل الأديب «عبد الرءوف» عن الأدوار الأخرى التي ترتبط بهذا الدور؛ «لشغفه الشديد» بدراسة قضية فلسطين.
والسيد عبد الرءوف على حق حين يقرن بين ضرورة العلم بتاريخ «هرتزل» وترجمته الشخصية، وبين علاقة الصهيونية وأدوارها المختلفة بقضية فلسطين.
وسيرة الرجل كلها في دعوته على نصيب وافر من اسمه ومولده؛ لأنه لم يدع وسيلة مشروعة أو غير مشروعة، ولا دسيسة مقبولة أو غير مقبولة، ولا علاقة «قلبية» أو «زوجية»؛ لم يستخدمها لخدمة مسعاه وترويج دعواه؛ فلجأ إلى السلطان عبد الحميد كما لجأ إلى الإمبراطور غليوم، وتزلف إلى الدولة البريطانية كما تزلف إلى الدولة الروسية، واستعان بمذاهب الهدم والفوضى كما استعان بمبادئ الحرية والديمقراطية، وتشفع إلى الشهوات كما تشفع إلى النخوة والبطولة، وعرض القضية على مسرح التمثيل كما عرضها بين المقاصير ومخادع القصور، وأثار الدهماء، من أبناء قومه على كبار المفكرين منهم كما أثارهم على الساسة والزعماء، من أبناء الأقوام «الغرباء».
وقد كان من رأي بيوبر عند معارضته لهرتزل، أن حماية الأمة اليهودية بإحياء عقائدها وشعائرها والتوفيق بينها وبين ثقافة الزمن وأطواره السياسية والاجتماعية؛ هي سبيل الخلاص والتقارب بينها وبين أعداء السامية في بقاع الكرة الأرضية، وكان الجمع بين تطوير العقيدة الذي يسمونه «هاسديزم»، وتنوير الأذهان الذي يسمونه «هاسكلا»؛ هو قوام حركة الإصلاح على مذهب الفيلسوف بيوبر وأشياعه من المستنيرين الأوربيين، ولا سيما يهود الجرمان من الألمان والنمسويين، ولكن بيوبر قد آل به الأمر إلى الإقامة بإسرائيل، والكف عن كل عمل يُخالف الصهيونية على أساسها الذي أقامه هرتزل واتبعه من بعده تلاميذه ومؤيدوه، وهكذا يصنع المفكرون الذين عارضوا الصهيونية بالأمس وأنذروها بسوء العاقبة، فإنهم كلهم صهيونيون صامتون، وإن لم يكونوا صهيونيين عاملين.
وقد وُلد هرتزل قبل أكثر من مائة سنة بمدينة بودابست (١٨٦٠)، وبدأ الدعوة للدولة الصهيونية بعد أن جاوز الثلاثين، ثم عقد مؤتمره الدولي الأول بمدينة بال السويسرية سنة ١٨٩٧، وأعيد انتخابه لرئاسته ست مرات، ولم يقصر مساعيه على الشعوب والجماعات، ولا على جمهرة قومه مع سائر الجماهير، بل استطاع أن يصل إلى قصور الملوك كما استطاع أن يصل إلى عرش البابا قبيل موته ببضعة شهور، وقضى نحبه في صيف سنة ١٩٠٤ بعد معركة حامية نشبت بينه وبين الصهيونيين أنفسهم، ومنهم أناس كانوا إلى زمن قريب من أكبر مؤيديه في المؤتمرات الدولية، وقد أوصى بنقل رفاته إلى أورشليم، فنقلها حكام إسرائيل من مدفنه بالنمسا سنة ١٩٤٩. وقال مترجمه يعقوب دي هاس إنه واحد من أندر الأعلام في تاريخ إسرائيل خلال أربعة آلاف سنة، وإنه عاش حتى سمع عن نفسه أخبارًا كأخبار الأساطير!
ولم تنقطع معارضة هرتزل إلى اليوم بين يهود العالم، ولكن الثابتين منهم على معارضته يتقبلون عمله ويغتبطون بما أصابه من نجاح في دعوته، فلا ينتظر من عقلائهم ولا من دهمائهم شيء يعربون به عن معارضتهم وراء السكوت والتأمين!