فلسفات كُتابنا١
… سمعت من إذاعة البرنامج الثاني ندوة أدبية حول أدبنا المعاصر في ضوء التيارات الفلسفية، اشترك فيها الأساتذه لويس عوض وعبد الرحمن بدوي ونجيب محفوظ، وتحدث الدكتور لويس عوض عن فلسفات كُتابنا الكبار، فذكر الدكتور طه حسين والأستاذ توفيق الحكيم، ثم قال: «أما العقاد فالحقيقة أن تبويبه صعب؛ لأنه بالرغم من أن ثقافته الأجنبية هي الإنجليزية، إلا أن أقرب شيء إليه هو في رأيي الفلسفة الألمانية، ولست بقادر على «تعليل هذه الظاهرة لدى العقاد».»
وقد امتلأت نفسي بضباب الحيرة؛ إذ لم أفهم العبارة، وفي الوقت نفسه لم أسأل أستاذي الدكتور لويس عوض أن يفسرها لي، ولكي يهدأ فكري كتبت إليك راجيًا منك البيان …
إن الاعتماد على الثقافة الإنجليزية في قراءة الفلسفة هو تفسير الظاهرة التي قال الدكتور لويس عوض إنه غير قادر على تفسيرها؛ «بالرغم من أن ثقافة العقاد الأجنبية هي الإنجليزية.»
وقد أصاب الدكتور لويس عوض حين قال إن التبويب صعب في هذه الحالة، ولكنه استصعبه لأنه لم يحاول أن يعود به إلى الفرق بين فلاسفة الألمان وفلاسفة الإنجليز؛ وهو مفتاح السر في صعوبة التبويب.
فالمعلوم أن الفيلسوف الألماني، على الأغلب، صاحب مذهب شامل، يفسر الوجود كله ويحاول تطبيقه على جميع ظواهره، وأن يحصر كل تعليل من التعليلات العامة بين مقدماته ونتائجه؛ ولهذا يسهل تبويب الأفكار على حسب هذه المذاهب الشاملة التي تحيط بتفاصيل الرأي بغير استثناء، أو مع استثناء القليل.
أما فلاسفة الإنجليز، فالغالب فيهم أن يكون لكل منهم فكر يسمى باسمه، ويتحرج فيه من التعميم المحيط بجوانب الوجود كله؛ ولهذا تذكر عندهم المذاهب بأسماء أصحابها؛ فيقال: مذهب داروِن ومذهب هيوم ومذهب لوك. في حين أن الأوربيين يذكرون هذه المذاهب بعينها فيقولون: مذهب التطور ومذهب الشكوكية ومذهب المعرفة التجريبية، إلى آخر هذه العناوين التي يسهل فيها التبويب والتقسيم.
وإنني على إجلالي لفلاسفة الألمان، لا أستطيع أن أتقيد بنظام فلسفي واحد يحيط بجميع العلل والتفسيرات، وأرى أن الحقيقة الكونية أوسع وأكبر من أن يحصرها تفكير ذهن واحد، بالغًا ما بلغ من السعة والنفاذ، ولا غنى لنا عن التماس أجزاء الحقيقة حيث كانت هنا وهناك على تعدد المذاهب ومناهج التفكير.
ومع هذا لا أدين بكل ما في مذهب داروِن، ولا بكل ما في مذهب هيوم، أو لوك أو بركلي أو سبنسر أو الإسكندر من المحدثين والأقدمين، فلا يسهل تبويب الرأي الذي أدين به على حسب الأسماء والعناوين.
ومن هنا أصاب الدكتور لويس حين تحدث عن صعوبة التبويب، ولكنه حار فيما هو موجب لزوال الحيرة؛ لأن طريقة الثقافة الإنجليزية في دراسة الفلسفة هي «السبب الذي يبطل العجب» كما يقال.