سياسة العرب في عصر الراشدين
(١) الجامعة الإسلامية
(٢) الجامعة العربية
(٣) الانسياح في الأرض
فعمر حرض العرب على فتح الشام والعراق توسيعًا للجامعة العربية، والاستعانة بها على الروم والفرس، ولكنه لم يأذن لهم بفتح ما وراءهما إلا في السنة السابعة عشرة أو الثامنة عشرة، وهو ما يعبرون عنه بالانسياح في الأرض. فكانوا يتطلبون الفتح وقد طابت لهم الغنائم واستلذوا النصر، فإذا استأذنوه في فتح بلد مما وراء ذلك لم يأذن لهم، كما وقع لعمر بن العاص لما أراد فتح مصر، وكان قد عرفها من أيام الجاهلية، فلما فتحت الشام والعراق جاء إلى الخليفة عمر ورغَّبه في فتحها وقال له: «إنك إن فتحتها كانت قوة للمسلمين وعونًا لهم، وهي أكثر الأرض أموالًا وأعجز عن القتال والحرب» فلم يجبه عمر، ولما ألح عليه أطاعه وهو يتردد وقال له: «سر … إني مستخير الله في سيرك، وسيأتيك كتابي إن شاء الله تعالى، فإذا أدرك كتابي آمرك فيه بالانصراف عن مصر قبل أن تدخلها أو شيئًا من أرضها فانصرف، وإلا أن دخلتها قبل أن يأتيك كتابي فامض لوجهك واستعن بالله واستنصره». فسار عمرو بجنده مسرعًا خوفًا من أن يأتيه كتاب الخليفة بالرجوع. فوصله كتابه في بلد قرب العريش خارج حدود مصر، فلم يفتح الكتاب حتى نزل العريش وهي من مصر، ففضَّ الكتاب وإذا نصه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من الخليفة عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص عليه سلام الله تعالى وبركاته، أما بعد فإن أدركك كتابي هذا وأنت لم تدخل مصر فارجع عنها، وأما إذا أدركك، وقد دخلتها أو شيئًا في أرضها فامضِ واعلم أني ممدُّك»، فمضى حتى فتح مصر.
فسياسة عمر بن الخطاب في أوائل دولته كانت تقضي ببقاء العرب محصورين في جزيرة العرب وما يليها من الشام والعراق، وأن يختص قريشًا بالإقامة في المدينة؛ لأنها مركز الإسلام وهم أساسه ومنشأه، على أنه لم يستطع وقف تيار الفتح فلم ير بدًّا من الإذن في الانسياح.
فالعصبية التي قام بها الإسلام هي الجامعة العربية؛ ولذلك كان اللفظان مترادفين في ذلك الحين، وخصوصًا عند الأمم التي خضعت لسلطان المسلمين، فكانوا إذا قالوا: «العرب» أرادوا «المسلمين»، وبالعكس. ولفظ «طيبوتا» عند السريان يدل على العرب والمسلمين على السواء، والفرق بين هذه الجامعة قبل الإسلام وبعده أن العرب كانوا في الجاهلية عصبيات عديدة تختلف باختلاف الأنساب، فأصبحوا بالإسلام عصبية واحدة تجمعها كلمة العرب، وتركوا ذكر الآباء والأجداد عملًا بما يقتضيه روح الإسلام. وكانوا في جاهليتهم يتفاضلون بالأنساب، فأصبحوا في الإسلام يتفاضلون بالتقوى والجهاد في سبيل الدين، فنشأت فيهم جامعات إسلامية فرعية لم يكن لها ذكر من قبل.
(٤) طبقات عربية إسلامية
لما قام النبي ﷺ بالدعوة الإسلامية، احتاج إلى من يسمع دعوته وينصره، فاجتمع حوله جماعة من قبيلته صدقوه ونصروه، وهاجر بعضهم إلى الحبشة وهاجر الآخرون إلى المدينة معه فعُرفوا بالمهاجرين، وهم أقدم الطبقات الإسلامية. ولما جاء المدينة وأقام فيها نصره أهلها وآمنوا بدعوته فسماهم «الأنصار» وهم طبقة أخرى، والطبقتان معًا تسميان «الصحابة» أي: الذين صحبوا النبي أو عرفوه. وتفرع من الصحابة جماعات تعرف كل منها بجامعة خاصة لأحوال خاصة كان لها تأثير في نصرة الإسلام أو نشره. فواقعة بدر كان لها شأن عظيم في تأييد الإسلام، فامتاز الصحابة الذين شهدوها عن سائر المسلمين، ونسبوا إليها فسموا «البدريين» أو «أهل بدر»، وكذلك واقعة القادسية التي كانت عنوان فتح العراق وفارس، فإن الذين شهدوها عرفوا بأهل القادسية. وقد جعل المسلمون لكل من هذه الطبقات أو الجماعات امتيازات خاصة، وفضلوا أهل بدر وأهل القادسية بالعطاء على سائر المسلمين.
ويقال نحو ذلك في من شهد فتح مكة أو سواها من الوقائع الأخرى التي كان لها شأن في الأحزاب الإسلامية، كواقعة الجمل وواقعة صفين، فإن شيعة علي يفضلون من رجالهم الذين شهدوا واقعة الجمل؛ لأنهم انتصروا فيها ويسمونهم «أصحاب الجمل»، وشيعة بني أمية يفضلون «أصحاب صفين» لمثل هذا السبب، وقد زاد معاوية عطاء هؤلاء عن سائر أصحابه.
على أن الصحابة يتفاضلون أيضًا في السبق إلى الهجرة، أو إلى البيعة، ومنهم أصحاب بيعة العقبة وأصحاب الغار. والذين لهم صحبة قبل بيعة الرضوان يفرقون عمن صاحب بعدها، ونحو ذلك مما يطول شرحه. ناهيك بالمناصب التي اقتضتها الأحوال الدينية أو الإدارية، كالحفاظ والقراء والمؤلفة قلوبهم والعمال والقضاة والتابعين وتابعي التابعين وغيرهم.
وكان لكل من طبقات الصحابة المهاجرين والأنصار شأن خاص وحزب خاص، ولا سيما في أيام بني أمية، إذ ذهبت دهشة النبوة وعاد الناس إلى عصبية الجاهلية، فاختصم المهاجرون والأنصار وتذكروا ما كان بين العدنانية والقحطانية من التفاخر — والمهاجرون من العدنانية (مضر) والأنصار من القحطانية (الأوس والخزرج) — فعادوا إلى المنافسة وغلب انحياز كل من الطائفتين إلى أحد الأحزاب التي نشأت في ذلك العهد، فكان الأنصار مع علي ومعظم المهاجرين مع معاوية، وعادوا إلى المهاجرة والمفاخرة بالأشعار وغيرها.
وكان الأنصار أهل المدينة من أشجع الناس وهم أهل الشورى، يعقدون الإمامة، وحكمهم جائز على الأمة وهم شيعة علي وسائر أهل البيت. فلما قام معاوية يطلب الخلافة لنفسه كانوا من أقوى مقاوميه، فكان رجاله يكرهونهم ويسعون إلى إذلالهم، وكثيرًا ما كانوا ينكرون عليهم هذا اللقب — يروى أن بعض الأنصار استأذنوا للدخول على معاوية في إبان خلافته، فدخل الحاجب وقال: «هل تأذن للأنصار؟»، وكان عمرو بن العاص حاضرًا فقال: «ما هذا اللقب يا أمير المؤمنين؟ أردد الناس إلى أنسابهم».
(٥) سياسة الخلفاء الراشدين
لم يكن للإسلام في عصر الراشدين دولة سياسية، بل هي خلافة دينية أساس أحكامها التقوى والرفق والعدل، مما لم يسمع بمثله في عصر من العصور. ورجل هذا العصر، بل رجل الإسلام على الإطلاق «عمر بن الخطاب»، فإن ما يروونه من أعماله وأحكامه يندر اجتماعه في البشر، ومناقبه مدونة في الكتب ومشهورة. وأما أبو بكر فلا يقل عظمة عنه، لولا قصر مدة حكمه، ويكفيه من الأثر في الإسلام قتاله أهل الردة؛ إذ رجع بعض الناس عن الإسلام بعد موت النبي، فخاف المسلمون ذهاب دولتهم وهي لا تزال في طفولتها، فشمر أبو بكر عن ساعد الجد وقاتل المرتدين وأيَّد الدين، وكذلك يقال عن علي وعثمان.
(٥-١) أبو بكر
وعصر الراشدين هو في الحقيقة عصر الإسلام الذهبي، ومناقب الخلفاء الراشدين مشهورة بالزهد والتقوى والعدل. فقد أسلم أبو بكر وعنده من ماله أربعون ألفًا، وهي ثروة طائلة يومئذ، أنفقها كلها في سبيل الإسلام مع ما اكتسبه من التجارة. وكان له في خلافته بيت مال ينفق كل ما فيه على المسلمين، ولما مات لم يجدوا فيه غير دينار. وكان منزله في السنح بضواحي المدينة يغدو إليه على رجليه، ويندر أن يركب فرسه. فإذا جاء المدينة صلى في الناس، فإذا جاء العشاء عاد إلى السنح. وكان مع ذلك يغدو كل يوم إلى السوق يبيع ويبتاع، وكانت له قطعة غنم تروح عليه وربما خرج بنفسه فيها. وكان قبل الخلافة يحلب للحي أغنامهم، فلما صار خليفة سمع جارية تقول: «الآن لا يحلب لنا منائح دارنا» فقال: «بلى لعمري لأحلبنها لكم، وإني لأرجو أن لا يغيرني ما دخلت فيه». وبعد خلافته بستة أشهر تحول إلى المدينة وقال: «ما تصلح أمور المسلمين مع التجارة، وما يصلح إلا التفرغ لهم والنظر في شؤونهم». فترك التجارة، فصار ينفق من مال المسلمين ما فرضوه له: ٦٠٠٠ درهم في السنة. فلما حضرته الوفاة وصى بقطعة أرض كانت له، أن تباع ويصرف ثمنها عوض ما أخذه من مال المسلمين.
(٥-٢) عمر بن الخطاب
(٥-٣) عثمان بن عفان
(٥-٤) علي بن أبي طالب
وزد على ذلك أن رجال عمر كانوا مثله غيرة وحمية. وكانت لا تزال فيهم الأريحية والأنفة وحرية البداوة والوفاء، وجاء الإسلام فكمل الأسباب الباعثة إلى الاتحاد والنهضة والقوة.
(٦) انتشار العرب في الأرض
(٦-١) الاستكثار بالتناسل
(٦-٢) انتشار العرب بالفتح
كان العرب في الجاهلية محصورين في جزيرة العرب وما يجاورها من جزيرة العراق وضواحي الشام. فلما ظهر الإسلام اجتمعت كلمة العرب على نصرته، ونهضوا للفتح وأوغلوا في البلاد وفتحوا الأمصار، ولم يكن زجر عمر ليوقف تيارهم فانساحوا في الأرض، حتى نصبوا أعلامهم على ضفاف نهر الكنج شرقًا وشواطئ المحيط الأطلسي غربًا، وضفاف نهر لوار شمالًا وأواسط أفريقيا جنوبًا، وملأوا الأرض فتحًا ونصرًا، واحتلوا مدائن كسرى وقيصر، وأقاموا في المدن وركنوا إلى الحضارة وتعودوا الترف، واختلطت أنسابهم بتوالي الأجيال وضعفت عصبيتهم فضاعت سلطتهم. والقبائل التي قامت بنصرة الإسلام ونشره قبائل مضر وأنصارها من العدنانية والقحطانية، وإليك أسماء القبائل التي مهدت قواعد الدولة الإسلامية ونشرت الدين الإسلامي بالفتح من أول الإسلام:
من العدنانية | من القحطانية | ||
---|---|---|---|
مضر | ربيعة | كهلان | حمير |
قريش | تغلب بن وائل | الأوس والخزرج | قضاعة وبطونها |
كنانة | بكر بن وائل | غسان | كلب |
خزاعة | شكر | الأزد | سليح |
أسد | حنيفة | همدان | تنوخ |
هذيل | عجل | خثعم | بهراء |
تميم | ذهل | مذحج | عذرة وغيرها |
غطفان | شيبان | مراد | |
سليم | تيم الله | زبيد والنخع | |
هوازن | النمر بن قاسط وغيرها | الأشعريون | |
ثقيف | لخم وكندة | ||
سعد بن بكر وعامر ابن صعصعة |
على أن هذه القبائل لم تكن في أوائل الفتح تنزل القرى وتختلط بالناس، بل كانت رابطة ثم اختلطوا وتفرقوا في الأرض، وأنفقتهم الدولة الإسلامية العربية، فنبا منهم الثغور القصية وأكلتهم الأقطار المتباعدة، واستلحمتهم الوقائع وضاعت أسبابهم بتوالي الأجيال حتى خرجت الدولة من أيديهم.
(٦-٣) انتشار العرب بالمهاجرة
(٦-٤) بنو سليم وبنو هلال
(٧) العبيد والموالي في الإسلام
للعبيد والموالي شأن كبير في الدولة الإسلامية، وقد أثروا في سياستها وجندها وفي سائر أحوالها من العلم والأدب والفقه، فلا غرو إذا أفردنا الكلام عنهم فصولًا خاصة.
(٧-١) الرق في الإسلام
والغالب في عامة الجند من المسلمين أن يبيعوا أسراهم ويحرزوا أثمانهم، لعجزهم عن القيام بمعاشهم، فلم يكن يستبقي الأسرى في حوزته عبيدًا إلا الأمراء، حتى يفتديهم أهلهم أو يعتقهم هو لسبب من الأسباب.
وأما القن فهو العبد الذي يشتغل في الأرض، وهو خاص بالقرى، ويسمى المزارع المقيم «فلاحًا فرارًا»، فإذا أقطعت أرضه، أو بيعت لأحد، أو دخلت في ملك أحد بالفتح أو غيره، كان الفلاح تبعًا لها وصار «عبدًا قنا»، إلا أنه لا يرجو أن يباع أو يعتق، ولا يستطيع مولاه ذلك لو أراد، بل هو قنٌّ ما بقي حيًّا، وكذلك أولاده بعده، فإنهم يكونون عبيدًا لمالك الأرض أو مقتطعها، وقد أشرنا إليه في كلامنا عن العبيد في الجاهلية.
(٧-٢) الموالي في الإسلام
والباقون في الأسر إذا اعتنقوا الإسلام نجوا من الرِّق غالبًا، إذ يغلب أن يعتقوهم مكافأة لهم، ومن أعتق منهم صار مولى؛ ولذلك كان الموالي من المسلمين غير العرب، استنكافًا من استرقاق المسلم، ثم أطلقه بنو أمية على كل مسلم غير عربي، فإذا قالوا: «الموالي» أرادوا المسلمين من الفرس وغيرهم الذين كانوا مجوسًا أو ذميين واعتنقوا الإسلام، أو كانوا ممن لازم العرب أو التجأوا إليهم، ويسمونهم «الحمراء» فإذا قالوا: «الحمراء» أرادوا الموالي. والحمراء في القاموس العجم، وهم كل من سوى العرب.