الدولة الفاطمية
(١) الشيعة في المغرب
قد علمت حال الشيعة في أيام بني أمية بالشام وما قاسوه من القتل والصلب، ثم ما كان من حالهم في الدولة العباسية، وخصوصًا في أيام المنصور والرشيد والمتوكل، من الاضطهاد والقتل، فحملهم ذلك على الفرار إلى أطراف المملكة الإسلامية، فهاموا على وجوههم شرقًا وغربًا كما تقدم. وكان فيمن جاء منهم نحو الغرب إدريس بن عبد الله بن الحسن المثنى، أخو محمد بن عبد الله الذي بايعه المنصور ثم نكث بيعته. فأتى إدريس مصر وهي يومئذ في حوزة العباسيين، فاستخفى في مكان أتاه إليه بعض الشيعة سرًّا، ومنهم صاحب البريد فحمله إلى المغرب في أيام الرشيد، فتلقاه الشيعة هناك وبايعوه، فأنشأ دولة في مراكش عرفت بالدولة الإدريسية من سنة ١٧٢–٣٧٥ﻫ، على أن هؤلاء لم يسموا أنفسهم خلفاء.
أما ظهور الشيعة وتغلبهم وارتفاع شأنهم حقيقة فالفضل فيه للدولة الفاطمية، نسبة إلى فاطمة بنت النبي ﷺ؛ لأن أصحابها ينتسبون إليها، وتسمى أيضًا الدولة العبيدية نسبة إلى مؤسسها عبيد الله المهدي. وكان شأن الشيعة قد بدأ بالظهور في المشرق على يد بني بويه في أواسط القرن الرابع للهجرة.
(٢) الشيعة في مصر
وكان حال الشيعة العلوية بمصر يتقلب بين الشدة والرخاء، يتقلب أحوال الخلفاء في بغداد، فإن تولى خليفة يكره العلويين ضيق على الشيعة واضطهدهم والعكس بالعكس، فلما تولى المتوكل واضطهد الشيعة العلوية كتب إلى عامله بمصر بإخراج آل أبي طالب إلى العراق فأخرجهم سنة ٢٣٦ﻫ، ولما قدموا إلى العراق أرسلوهم إلى المدينة واستتر من بقي في مصر على رأي العلوية؛ لأن عمال المتوكل كانوا يبالغون في إظهار الكره للشيعة تزلفًا للخليفة — يحكى أن رجلًا من الجند اقترف ذنبًا أوجب جلده. فأمر يزيد بن عبد الله عامل مصر يومئذ بجلده، فأقسم الرجل عليه بحق الحسن والحسين إلا عفا عنه فزاده تلاتين ضربة. ورفع صاحب البريد إلى المتوكل ذلك الخبر، فورد كتابه إلى العامل أن يضرب الجندي المذكور مائة سوط فضربه، وتتبع يزيد المشار إليه آثار العلويين، فعلم برجل منهم له دعاة وأنصار، فقبض عليه وأرسله إلى العراق مع أهله وضرب الذين بايعوه.
ولما تولى المنتصر بن المتوكل سنة ٢٤٧ﻫ كتب إلى عامله بمصر أن لا يضمن علوي ضيعة ولا يركب فرسًا ولا يسافر من الفسطاط إلى طرف من أطراف مصر، وأن يمنعوهم من اتخاذ العبيد إلا العبد الواحد، وإذا كان بينهم وبين أحد الناس خصومة قبل قول خصمه فيه بغير أن يطالب ببينة. فقاسى العلويون عذابًا شديدًا بسبب ذلك.
ولما استقل أحمد بن طولون بإمارة مصر سنة ٢٥٤ﻫ اضطهد الشيعة؛ لأنه تركي ولأنه على رأي الخليفة العباس، فاقتص آثار العلويين وحاربهم مرارًا. حتى إذا ضعف أمر بني طولون بمصر واختلت أحوال الدولة العباسية في بغداد وتغلب آل بويه عليها في القرن الرابع للهجرة أخذ حزب الشيعة ينتعش ويتقوى. فلما جاءهم جند المعز لدين الله الفاطمي سنة ٣٥٨ﻫ بقيادة جوهر الصقلي كانت الأذهان متأهبة لقبول تلك الدعوة، ففتح جوهر مصر على أهون سبيل، وخطب فيها للعلويين وأقام شعارهم وأزال شعار العباسيين، وبنى مدينة القاهرة وانتقل إليها مولاه المعز لدين الله، وتوالى من دولة الفاطميين بمصر عشرة خلفاء، وجملة خلفائهم منذ أنشأوا دولتهم في أفريقية إلى انقضائها بمصر ١٤ خليفة حكموا من سنة ٢٩٧–٥٦٧ﻫ، وانتقلت مصر منهم إلى الأكراد الأيوبيين.
(٣) سياسة الدولة الفاطمية
(٣-١) أدوار الدولة الفاطمية
مرت الدولة الفاطمية في ثلاثة أدوار تشبه الأدوار التي مرت بها الدولة العباسية، فقد رأيت أن نفوذ الكلمة في الدولة العباسية كان في أوائلها مشتركًا بين العرب والفرس، ثم صار إلى الفرس ثم إلى الأتراك. والفاطميون عرب قامت دولتهم بالعرب والبربر، فكان النفوذ في أولها مشتركًا بين هذين العنصرين، ثم صار إلى البربر ثم إلى الأتراك.
والبربر قوم أشداء، مساكنهم في شمال أفريقية، وقد نصروا الشيعة العلوية في المغرب كما نصرها الفرس في المشرق، وهم قبائل شتى مثل قبائل العرب الرحل، وقد قاسى المسلمون في إخضاعهم عذابًا شديدًا؛ لأنهم ارتدوا عن الإسلام اثنتي عشرة مرة وثبوا فيها كلها على المسلمين، ولم يثبت إسلامهم إلا في أيام موسى بن نصير في أواخر القرن الأول. ولما نقم الناس على بني أمية لتعصبهم على غير العرب كان البربر في جملة الذين خرجوا عليهم وتطاولوا للفتك بهم. وقد سرهم ذهاب دولة الأمويين، ولكن ساءهم انتقالها إلى الأندلس على مقربة منهم؛ لأنهم كانوا يكرهونهم للعصبة فنصروا العلويين نكاية فيهم — إلا من اصطنعهم الأندلسيون بالمال، وللبربر فضل كبير في نشر الإسلام في أواسط أفريقية، مثل فضل الأتراك في نشره في أواسط آسيا، إلى الهند والصين؛ لأن البربر لما ثبت الإسلام فيهم نهضوا لفتح ما وراء بلادهم في أفريقية الغربية فنشروا الإسلام هناك.
فلما قامت الدولة الفاطمية في المغرب كان البربر من أنصارها، لا سيما قبائل كتامة وهوارة وهما من قبائل صنهاجة فأخذوا بيد الفاطميين منذ قيامهم على أيام عبيد الله المهدي أول خلفائهم في أواخر القرن الثالث للهجرة. فلما تأيدت دولتهم اتخذ خلفاء الفاطميين بطانتهم منهم وجعلوهم من أهل الدولة وأول من فعل ذلك أبو عبد الله الشيعي، وظلوا كذلك في خلافة ابنه القائم بأمر الله «سنة ٣٢٢ﻫ»، ثم المنصور بنصر الله «سنة ٣٣٤ﻫ» ثم المعز لدين الله «سنة ٣٤١ﻫ»، وساعدوهم في تملك المغرب كله وإخراجه من البيعة العباسية. وفي أيام المعز لدين الله فتح الفاطميون مصر وبنوا القاهرة ونقلوا دولتهم إليها.
فلما أفضت الخلافة إلى العزيز بالله بن المعز سنة ٣٦٥ﻫ، أراد التشبه بالعباسيين فاصطنع الأتراك والديلم واستكثر منهم وقدمهم وجعلهم خاصته، كأنه خاف على حياته من البربر. فقامت المنافسة بين البربر والأتراك وعظم التحاسد حتى توفي العزيز بالله وخلفه الحاكم بأمر الله سنة ٣٨٦، وكان يقدر فضل البربر، فقدمهم وقربهم فاشترطوا أن يتولى أمورهم ابن عمار الكتامي (من البربر)، فولاه الوساطة وهي كالوزارة عندهم. فاستبد في أمور الدولة وقدم البربر وأعطاهم وولاهم وحط من قدر الغلمان الأتراك والديلم الذين اصطنعهم العزيز. فاجتمعوا إلى كبير منهم اسمه برجوان وكان صقلبيًّا وقد تاقت نفسه إلى الولاية، فأغراهم بابن عمار حتى وضعوا منه فاعتزل الوساطة وتولاها برجوان، فقدم الأتراك والديلم واستخدمهم في القصر. ثم بدأ للحاكم أن يقتل ابن عمار فقتله وقتل كثيرًا من رجال دولة أبيه وجده، فتضعضع البربر وقوي الأتراك.
وكان السلاجقة في أثناء ذلك قد غلبوا على العراق وفارس، وذهبت دولة آل بويه وضعف أمر الشيعة هناك، وولى السلاجقة مماليكهم وقوادهم (الأتابكة) على الولايات، واستقل كل منهم بولايته كما تقدم، ومنهم نور الدين زنكي في الشام. وكان في جملة قواد نور الدين جماعة من شجعان الأكراد، منهم نجم الدين أيوب وأخوه أسد الدين شيركوه، وقد بلغا عنده منزلة رفيعة، وكانت خلافة مصر قد أفضت سنة ٥٥٥ﻫ إلى العاضد بن يوسف، وكان ضعيف الرأي، وقد غلب وزراؤه على دولته وتنافسوا على الاستئثار بالنفوذ، وطال تنافسهم حتى أخربوا البلاد والخليفة لا يستطيع عملًا.
وكان في جملة المنافسين وزير اسمه شاور، قد غلب على أمره فذهب إلى نور الدين زنكي واستنجده على رجل آخر كان ينافسه في الوزارة وهو ضرغام، فاغتنم نور الدين تلك الفرصة للاستيلاء على مصر، وأنجده بأسد الدين شيركوه في جند من المماليك، فرد الوزارة إلى شاور وصار هذا يدفع ثلث خراج مصر إلى نور الدين.
وكانت الحروب الصليبية في تلك الأثناء قد احتدمت، فزاد تداخل نور الدين في شؤون مصر ونائبه فيها شيركوه، ومعه ابن أخيه يوسف بن نجم الدين، وهو صلاح الدين الأيوبي الشهير. ومات شيركوه بمصر سنة ٥٦٤ﻫ فخلفه صلاح الدين في منصب النيابة وهي الوزارة.
وكان صلاح الدين من أهل المطامع الكبرى، فلما قبض على أزمة النيابة، وهي كالوزارة، ورأى ضعف الخليفة أراد مصر لنفسه وليس لأميره نور الدين. فلما مات العاضد آخر الخلفاء الفاطميين، خطب صلاح الدين بالقاهرة للخليفة العباسي ونقل حكومة مصر من الشيعة إلى السنة، وقبض على أزمة الأحكام، واستفحل أمر الصليبيين في تلك الأيام فتولى صلاح الدين أمر حربهم وقام بأعمال لا يزال التاريخ يردد صداها إلى اليوم، أهمها استرجاع بيت المقدس ومد سلطته على الشام وغيرها. وأنشأ الدولة الأيوبية، وهي كردية الجنس سنية المذهب، فعادت مصر إلى ظل الدولة العباسية من حيث البيعة فقط.
وعمد صلاح الدين ومن خلفه من أهله إلى الاستكثار من المماليك الأتراك والجراكسة للجندية، على جاري العادة في تلك الأعصر، حتى إذا كثروا استبدوا بشؤون الحكومة وطمعوا في السلطة. فلما ضعف أمر الدولة الأيوبية قبضوا هم على أزمة الحكومة وأنشأوا بمصر دولتين، عرفتا بدولتي السلاطين المماليك وهما المماليك البحرية والمماليك البرجية، حكمت الأولى من سنة ٦٤٨–٧٩٢ﻫ، والثانية من سنة ٧٨٤–٩٢٣ﻫ وكانتا تبايعان للخليفة العباسي وهو مقيم في بغداد. فلما جاء التتر وفتحوا بغداد سنة ٦٥٦ﻫ وقتلوا الخليفة (المستعصم) فر من بقي من بني العباس، والتجأوا إلى سلاطين مصر على عهد الملك الظاهر بيبرس، فاختار واحدًا منهم قلده الخلافة وبايعه، وبهذا انتقت الخلافة العباسية إلى القاهرة، وظل خلفاء العباسين والبيعة لهم حتى جاء السلطان سليم الفاتح العثماني وفتح مصر سنة ٩٢٣، وكان الخليفة العباسي عامئذ المتوكل على الله آخر خلفائهم، فبايع للسلطان سليم وسلم إليه الآثار النبوية، فانتقلت الخلافة من العباسيين إلى العثمانيين من ذلك الحين.