الدور الثاني من ظهور الدولة العثمانية ولا يزال
قد رأيت أن المغول لم ينشؤوا دولة ثابتة في بلاد الإسلام، ولم يكن لهم شأن في التمدن الإسلامي، وإنما علاقتهم بهذا التمدن أنهم جاءوه والدولة الإسلامية في آخر دورها الأول، وفي منتهى التضعضع والضعف بمن حمل عليها من الإفرنج والكرج والأرمن واللان، فزادوها ضعفًا وذهبوا ببقية الخلافة العباسية في بغداد، وعادوا عنها وهي تكاد تكون في حال الاحتضار، وقد تبدد شملها وليس فيها دولة حية تجمع شتاتها، على أن ذلك كان مقدورًا للدولة العثمانية في العصر التركي الثاني، ولدولة شاهات الفرس في العصر الفارسي الثاني، ويتألف منهما الدور الثاني من تاريخ الإسلام. فعاد التتر عن المملكة الإسلامية في أوائل القرن التاسع للهجرة، ومصر في حوزة السلاطين المماليك يتنازعون على السلطة، ويتخاصمون على الكسب، والشام بعضها في أيدي أولئك المماليك، وبعضها في أيدي بعض أعقاب الأيوبيين، حتى يكاد يكون كل بلد مستقلًّا بنفسه. والعراق وبلاد الفرس وما بين النهرين يتنازع عليها الإيلخانية والجيلارية والمظفرية والقراقيونلية والتيمورية وغيرهم. وما وراء النهر وأفغانستان في سلطة المغول التيمورية، وآسيا الصغرى يتنازعها العثمانيون وبقايا السلاجقة. وسائر بلاد المشرق يختصم عليها بقايا التتر أو بقايا الأتابكة. وشمالي أفريقيا كان منقسمًا بين المرينية والحفصية. والأ،دلس لم يبق منها في سلطة المسلمين إلا الدولة النصرية في غرناطة. وجزيرة العرب تحكمها إمارات صغيرة تتحارب وتتعادى. وهذه الدول مع ضعفها واختلال أحوالها تجمعها خلافة أضعف منها، هي بقية الخلافة العباسية في الديار المصرية.
تلك كانت حال العالم الإسلامي من الاضطراب والتضعضع عند تغلب الدولة العثمانية، فجاءت في إبان الحاجة إليها فافتتحت القسطنطينية، وقد يئس المسلمون من فتحها بعد أن حاولوه مرارًا. وحارب العثمانيون أعظم ملوك أوروبا وطاردوهم إلى بلاد المجر، وحاصروا فينا عاصمة النمسا وأخذوا الجزية من الأرشيدوق فردينان، واكتسحوا البحر الأبيض إلى شواطئ أسبانيا، فارتعدت أوروبا خوفًا منهم، وفتحوا المشرق إلى العراق، ثم ساروا جنوبًا غربيًّا حتى فتحوا الشام ومصر، وفيها بقية الدولة العباسية، فتنازل العباسيون لهم عن الخلافة كما تقدم. فامتدت مملكتهم في أيام السلطان سليمان «سنة ٩٢٦–٩٧٤ﻫ» من بودابست على ضفاف الطونة إلى أسوان على ضفاف النيل، ومن الفرات بالعراق إلى مضيق جبل طارق، فاجتمع العالم الإسلامي الغربي تحت جناح الدولة العثمانية. وكان اجتماع الخلافة والسلطة فيها سببًا لطول بقائها أكثر مما تقدمها من الدول الإسلامية، حتى العباسيين مع طول مدة ملكهم؛ لأن سلطتهم أصبحت بعد القرن الثالث من إنشاء دولتهم اسمًا بلا رسم.
ونهض الصفويون من الجهة الأخرى في بلاد فارس وبين النهرين، فأنشأوا دولة شيعية كبرى، ثم انتقلت إلى الدولة الفاجارية وجمعت البلاد الشيعية كما جمعت الدولة العثمانية البلاد السُّنيَّة.