سياسة الدولة في عهد الأمويين
قد رأيت مما تقدم أن سياسة الدولة في أيام الراشدين إنما كان قوامها الجامعة العربية، وعمادها العدل والرفق والأريحية، ففتحوا العالم وأسسوا الدولة الإسلامية، وأخضعوا معظم المعمور في بضع وعشرين سنة، ووجهتهم دينية وسلاحهم التقوى والحق، والعمل بالكتاب والسنة، وغايتهم نشر الدين والتماس الثواب في الآخرة، وحكومتهم بالانتخاب والشورى، وسترى في سياسة بني أمية ما يخالف ذلك من كل الوجوه.
(١) انتقال الخلافة إلى الأمويين
لما طمع بنو أمية في الخلافة، كانت قد أفضت إلى علي بن أبي طالب صهر النبي وابن عمه، والمسلمون يعتقدون أنه أحق الناس بها، لقرابته من النبي وتقواه وشجاعته وعلمه، وسابقته في الإسلام وفضله في تأييده. فتصدى له معاوية بن أبي سفيان، وكان أبوه وإخوته من أشد الناس مقاومة للإسلام عند ظهوره، ولم يسلموا إلا بعد فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة، وإنما أقدموا على ذلك مضطرين، لما رأوا الإسلام قد تأيد في جزيرة العرب ولم يبق سبيل إلى مقاومته.
المنافسة بين بني أمية وبني هاشم
والسبب في طلب معاوية للخلافة متصل بالجاهلية. وذلك أن بني عبد مناف هم أشرف بطون قريش وأكثرهم عددًا وقوةً، وهم فخذان: بنو أمية وبنو هاشم، وكان بنو أمية أكثر عددًا من بني هاشم وأوفر رجالًا، وكان لهم قبل الإسلام شرف معروف انتهى إلى حرب بن أمية والد أبي سفيان وجد معاوية. وكان حرب المذكور رئيسهم في واقعة الفجار قبل الإسلام، وله جاه وشوكة في الفخذين جميعًا، فلما جاء الإسلام، والنبي من بني هاشم شق ذلك على بني أمية وكانوا من أقوى الساعين في مقاومته، فلم يفلحوا ولكنهم حملوا النبي على الهجرة من مكة إلى المدينة، وقد نصره الأنصار هناك وهم من القحطانية حتى استتبَّ له الأمر، وقد مات عمه أبو طالب وهاجر بنوه مع النبي إلى المدينة. ثم لحقهم أخوه حمزة ثم العباس وغيره من بني عبد المطلب وسائر بني هاشم، فخلا الجو لبني أمية في مكة، واستغلظت رياستهم في قريش، وزادت سطوتهم بعد واقعة بدر؛ إذ هلك فيها عظماء قريش من سائر البطون. فاستقل أبو سفيان بشرف أمية بمكة والتقدم في قريش، وكان رئيسهم في واقعة أحد وقائدهم في واقعة الأحزاب وما بعدها. فلما استفحل أمر المسلمين وفتحوا مكة واستأمن أبو سفيان كما تقدم، رأى النبي من حسن السياسة أن يمن على قريش كافة بعد أن ملكهم بالفتح عنوة، فمَنَّ عليهم وأطلق سبيلهم وقال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» وفيهم معاوية، فأسلموا جميعًا.
فلما مات النبي وتولى الخلافة أبو بكر، جاء القرشيون ومعظمهم من بني أمية، وشكوا إليه ما وجدوه في أنفسهم من التخلف عن رتب المهاجرين والأنصار، فقال لهم أبو بكر: «لقد جئتم الإسلام متأخرين، فأدركوا إخوانكم في الجهاد»، فجاهدوا في حروب الردة. ولما تولى عمر بن الخطاب أدرك ما في نفوسهم، فخاف بقاءهم في المدينة، فرمى بهم الروم ورغبهم في الشام، فاستعمل يزيد بن أبي سفيان عليها، فانتقل معه سائر قريش، واستطابوا فاكهة الشام فأقاموا فيها حتى توفي يزيد المذكور، فولى عمر مكانه أخاه معاوية. ولما تولى عثمان سنة ٢٣ﻫ أقر معاوية على الشام، فاتصلت رياسة بني أمية على قريش في الإسلام كما كانت في الجاهلية، وبنو هاشم مشتغلون بالنبوة وقد نبذوا الدنيا.
معاوية وعلي
وكان بنو أمية ينظرون إلى ما ناله بنو هاشم بالنبوة من السلطان والجاه، ويتوقعون فرصة للقبض على أزمة الملك. فلما قتل عمر بن الخطاب وأمر بالشورى، اختار الصحابة عثمان بن عفان وهو من بني أمية، ولا يخلو فوزهم بهذا الانتخاب من دسيسة أموية، وكان عثمان ضعيفًا يؤثر ذوي قرابته في مصالح الدولة، فاغتنم الأمويون ضعفه وتولوا الأعمال واستأثروا بالأموال، فشق ذلك على سائر الصحابة فنقموا عليه، ثم استشهد بعد ذلك على ما هو معروف.
- (١)
الأنصار ويريدون الخلافة لأهل بيت النبي ﷺ جريًا على نصرتهم إياه يوم هجرته.
- (٢)
بنو أمية في الشام ويطلبونها لمعاوية ابن زعيمهم في الجاهلية.
وجمهور الصحابة يرون الحق لعلي، فلم ير معاوية سبيلًا إلى نيل بغيته إلا بالدهاء والتدبير. وكان أدهى أهل زمانه بلا منازع. فنظر في الأمر نظرة رجل يطلب الملك كما يطلبه أهل المطامع وطلاب السيادة في كل عصر بلا علاقة بالدين. وقد ساعده على ذلك أن خصمه عليًّا كان يعتبر الخلافة منصبًا دينيًّا، وهو زاهد في الدنيا لا مطمع له في غير الثواب والحسني. وإن رجال معاوية قد ذهبت منهم حرمة الدين، ونسوا دهشة النبوة وذاقوا لذة الثروة وتعودوا السيادة فاتسعت مطامعهم، فأثمرت مساعي معاوية في اصطناع الأحزاب بقاعدة ذكرها في حديث دار بينه وبين عمرو بن العاص: إذ قال معاوية: «لو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت»، فقال عمرو: «وكيف ذلك يا أمير المؤمنين؟»، قال: «إن هم شدوا أرخيت، وإذا أرخوا شددت».
وقس على ذلك تصرف علي مع ابن عمه عبد الله بن عباس، وكيف كدره وأخرجه من حوزته بتدقيقه كما تقدم. ولما قتل علي خلفه ابنه الحسن، فرأى نفسه عاجزًا عن منازلة معاوية، فتنازل له عن الخلافة سنة ٤١ﻫ، فرسخت قدم معاوية فيها. وسار بنو أمية بعده على خطته، وسار العلويون على خطة علي، وكان الفوز دائمًا لأهل الدهاء، فقضى العلويون معظم أيامهم خائفين شاردين، ومات أكثرهم قتلًا مع أنهم أهل تقوى ودين وحق، وأولئك على الضد من ذلك — مما يدلك على أن السياسة والدين لا يلتحمان إلا نادرًا، وما التحامهما أيام الراشدين إلا فلتة قلما يتفق مثلها. على أننا لا نعد دولة الراشدين حكومة سياسية، وإنما هي خلافة دينية.
(٢) رغبة بني أمية في السيادة
فرغبة بني أمية في السلطة على هذه الصورة، مع وجود من هو أحق منهم بها، جرهم إلى ارتكاب أمور آلت إلى توجيه المطاعن إليهم. وقد ظهرت هذه الدولة وتغلبت على سائر طلاب الخلافة في أيامهم بشيئين: العصبية القرشية، واصطناع العصبيات أو الأحزاب الأخرى، وهما أساس كل ما ظهر من سياسة بني أمية كما سترى.
(٣) العصبية العربية في عصر الأمويين
(٣-١) العرب وقريش
كانت العصبية العربية في الجاهلية بين القبائل بحسب الأنساب، فلما جاء الإسلام تنوسيت تلك العصبية، واجتمع العرب كافةً باسم الإسلام أو الجامعة الإسلامية، وما زالت الجامعة الإسلامية تشمل العرب على اختلاف قبائلهم وبطونهم طول أيام الخلفاء الراشدين. حتى إذا طمع بنو أمية في الملك، وقبضوا على أزمة الخلافة، استبدوا وتعصبوا للعرب، وحافظوا على مقتضيات البداوة وتمسكوا بعاداتها، فظلت خشونة البادية غالبة على حكومتهم وظاهرة في سياستهم، مع ذهاب مناقب البدو التي ذكرناها. وإنما حفظوا من أحوال جاهليتهم تعصبهم لقبيلتهم «قريش»، وإيثار أهلهم على سواهم. فجاشت عوامل الحسد في نفوس القبائل التي كان لها شأن في الجاهلية وضاع فضلها في الإسلام، وخصوصًا أهل البصرة والكوفة والشام؛ لأن أكثر العرب الذين نزلوا هذه الأمصار جفاة لم يستكثروا من صحبة النبي ﷺ، ولا هذبتهم سيرته ولا ارتاضوا بخلقه، مع ما كان فيهم من جفاء الجاهلية وعصبيتها، فلما استفحلت الدولة إذا هم في قبضة المهاجرين والأنصار، من قريش وكنانة وثقيف وهذيل وأهل الحجاز ويثرب، فاستنكفوا من ذلك وغصوا به لما يرون لأنفسهم من التقدم بأنسابهم وكثرتهم، ومصادمة فارس والروم، مثل قبائل بكر بن وائل وعبد القيس من ربيعة وكندة، والأزد من اليمن، وتميم وقيس من مضر، فصاروا إلى الغض من قريش والأنفة عليهم، فعادت العصبية إلى نحو ما كانت عليه في الجاهلية.
فوقعت الوحشة بين قريش وسائر القبائل من ذلك الحين، وخصوصًا بينهم وبين اليمنية، ومنهم الأنصار. وثبت الأنصار في نصرة أهل البيت ضد أهلهم من قريش مثلما فعلوا في أول الإسلام، إذ جاءهم النبي مهاجرًا فرارًا من أهله. ولما جرت واقعة صفين سنة ٣٧ﻫ بين علي ومعاوية عدوها بين اليمنية «الأنصار» وقريش. فلما احتدم القتال في تلك الواقعة قال رجل يمني من أنصار علي: «أيها الناس هل من رائح إلى الله تحت العوالي (أي: السيوف)؟ والذي نفسي بيده لنقاتلنكم على تأويله (القرآن) كما قاتلناكم على تنزيله»، وتقدم وهو يقول:
(٣-٢) القبائل اليمنية والمضرية
ثم صار أكثر اليمنية شيعة علي وأنصاره، إلا الذين تألفهم معاوية بالعطاء؛ لعلمه أن اكتفاءه بقريش ونحوهم لا يجديه نفعًا، فقَّرب منه قبيلة كلب وتزوج منها بجدل أم يزيد ابنه، واستنصرهم على قتلة عثمان؛ لأن امرأة عثمان كانت كلبية، واستغواهم بالمال فحاربوا معه، ولما فاز في حروبه ورسخت قدمه في الخلافة تقربت منه قبائل كثيرة من مضر واليمن، وظلت كلب على نصرة يزيد ابنه بعده؛ لأنهم أخواله.
فلما مات يزيد وابن الزبير في مكة يطالب بالخلافة، واختلف بنو أمية على اختيار خالد بن يزيد أو مروان بن الحكم (وكلاهما من أمية)، ووقع الخصام بين دعاة ابن الزبير ودعاة بني أمية، كان أنصار ابن الزبير من قيس (مضرية) يدعون لابن الزبير، وأنصار بني أمية بنو كلب (يمنية) يدعون لخالد بن يزيد؛ لأنه ابن أختهم. ونهض أناس من بني أمية فاعترضوا على صغر سن خالد، فأجمعوا على بيعة مروان لشيخوخته على أن تكون الخلافة بعده لخالد. ثم جرت واقعة مرج راهط بين أصحاب مروان وأصحاب ابن الزبير، أي: بين كلب وقيس، وفاز مروان وثبتت قدمه في الخلافة. ثم توفي مروان ولم يفِ لخالد، فخلفه ابنه عبد الملك بن مروان الشديد الوطأة، وظلت كلب معه وقيس مضطغنة عليه، وانقسم العرب في سائر أنحاء المملكة الإسلامية بين هذين الحزبين: قيسية وكلبية، أو مضرية ويمنية، أو نزارية وقحطانية. وقامت المنازعات بينهما في الشام والعراق ومصر وفارس وخراسان وإفريقية والأندلس. وفي كل بلد من هذه البلاد وغيرها حزبان: مضري ويمني، تختلف قوة أحدهما أو الآخر باختلاف الخلفاء أو الأمراء أو العمال. فالعامل المضري يقدم المضرية، والعامل اليمني يقدم اليمنية، ويختلف ذلك باختلاف الأحوال، وله تأثير في كل شيء من تصاريف أحوالهم، حتى في تولية الخلفاء والأمراء وعزلهم، وكثيرًا ما كانت الولاية والعزل موقوفين على الانحياز إلى أحد هذين الحزبين.
(٤) عصبية العرب على العجم
(٤-١) العرب والموالي
فكان العرب يزدادون بأمثال هذه الأقوال افتخارًا على سائر الأمم، وخصوصًا على المسلمين منهم، فكانوا يترفَّعون عنهم ويسمونهم الموالي كما تقدم. ومن أقوال أهل العصبية للعرب على العجم: «لو لم يكن منا على المولى عتاقة ولا إحسان إلا استنقاذنا له من الكفر، وإخراجنا له من دار الشرك إلى دار الإيمان، كما في الأثر — أن قومًا يقادون إلى حظوظهم بالسواحير. وكما قال: عجب ربنا من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل. على أننا تعرضنا للقتل فيهم، فمن أعظم عليك نعمة ممن قتل نفسه لحياتك؟ فالله أمرنا بقتالكم وفرض علينا جهادكم ورغبنا في مكاتبتكم».
وكان الأمويون في أيام معاوية يعدون الموالي أتباعًا وأرقاء. فلما تكاثر الموالي أدرك معاوية الخطر من تكاثرهم على دولة العرب، فهم أن يأمر بقتلهم كلهم أو بعضهم. وقبل مباشرة ذلك استشار بعض كبار الأمراء من رجال بطانته، وفيهم الأحنف بن قيس وسمرة بن جندب، فقال لهما: «إني رأيت هذه الحمراء (يعني: الموالي) وأراها قد قطعت على السلف، وكأني أنظر إلى وثبة منهم على العرب والسلطان، فرأيت أن أقتل شطرًا وأدع شطرًا لإقامة السوق وعمارة الطريق، فما ترون؟». فقال الأحنف: «أرى أن نفسي لا تطيب … أخي لأمي وخالي ومولاي وقد شاركناهم وشاركونا في النسب»، وأما سمرة فأشار بقتلهم وطلب أن يتولى ذلك هو بنفسه، فرأى معاوية أن الحزم في رأي الأحنف فكفَّ عنهم. فاعتبر مقدار استخفاف العرب بسواهم، وكيف يخطر للخليفة أن يقتل شطرًا منهم بغير ذنب اقترفوه كأنهم من الأغنام.
(٤-٢) آثار بني أمية في الإسلام
(٥) العصبية الوطنية في عصر الأمويين
لم يكن للعرب قبل الإسلام جامعة وطنية يجتمعون بها أو يدافعون عنها؛ لأنهم كانوا لا يستقرون في وطن؛ لتغلب البداوة على طباعهم وتنقلهم بالغزو والرحلة. فلما أسلموا وفتحوا البلاد ومصروا الأمصار وابتنوا المدن وأقاموا فيها، تحضروا ونشأت فيهم الغيرة على تلك المواطن والدفاع عنها والتعصب لها، وهي ما عبرنا عنه بالعصبية الوطنية.
(٥-١) تحضر العرب بعد الفتح
وقد تدرج العرب إلى الحضارة تدريجًا، ولم يكن ذلك مقصودًا في بادئ الرأي وإنما سيقوا إليه بطبيعة العمران؛ لأنهم كانوا في صدر الإسلام لا يزالون على بداوتهم، وإذا ساروا للفتح ساقوا معهم أولادهم ونساءهم وإبلهم وسائمتهم كما كانوا يتغازون في أيام جاهليتهم، وإذا فتحوا بلدًا نصبوا خيامهم في ضواحيه والتمسوا المراعي لإبلهم وخيلهم. وقد نهاهم عمر عن الزرع، فكأنه نهاهم عن التحضر رغبة منه في استبقائهم جندًا محاربًا، لا يمنعهم عن الجهاد عقار ولا بناء، ولا يقعدهم عن القتال ترف ولا قصف. فكانوا يقيمون في معسكراتهم بضواحي المدن كما تقيم جيوش الاحتلال في هذه الأيام، وكانوا يعبرون عن ذلك بالحامية أو الرابطة. فكان المسلمون في عصر الراشدين فرقًا تقيم كل فرقة في ضاحية مدينة من المدن الكبرى وتسمى جندًا. وكانت عساكر الشام أربعة أجناد، تقيم في ضواحي دمشق وحمص والأردن وفلسطين ومنها تسمية هذه الأقاليم بالأجناد. وعساكر العراق كانت تقيم على ضفاف الفرات مما يلي جزيرة العرب، في معسكرين صارا بعدئذ مدينتين هما: البصرة والكوفة. وكانت جنود مصر تقيم في معسكر على ضفاف النيل في سفح المقطم مما يلي بلاد العرب، حيث بنيت الفسطاط بعد ذلك.
وكان العرب (أو المسلمون) يقيمون في تلك المعسكرات بأولادهم ونسائهم، لا يختلطون بأهل القرى، حتى إذا جاء الربيع يسرحون خيولهم للمرعى في القرى، يسوقها الأتباع من الخدم أو العبيد ومعهم طوائف من السادات. فإذا فرغوا من رعاية الخيل عادوا إلى خيامهم، وهم إلى ذلك الحين أهل بداوة وغزو، ومركز دولتهم في المدينة وفيها مقر الخليفة وإليها مرجع المسلمين عند الحاجة.
فلما طال مقامهم في تلك المعسكرات، وأفضت الخلافة إلى بني أمية ورغبوا في الشام عن الحجاز، هان على المسلمين إغفال أمر المدينة وسائر الحجاز وطاب لهم المقام في الشام وسائر الأمصار، وأغفلوا وصية عمر فاقتنوا الأرض والضياع وغرسوا المغارس، فتحولت تلك المعسكرات بتوالي الأجيال إلى مدن عامرة، أشهرها البصرة والكوفة والفسطاط والقيروان من المدن التي بناها المسلمون، غير المدن القديمة التي استوطنوها في الشام ومصر والعراق وفارس وغيرها. وما زالوا حتى اقتنوا المغارس والضياع، وابتنوا المنازل والقصور، واشتغلوا بالزرع وتعلموا أشغال أهل المدن من تجارة وصناعة.
تدرجوا إلى ذلك في أعوام متطاولة، لاستغنائهم عن الريع لمعاشهم؛ لأنهم كانوا في صدر الإسلام شركاء فيما يرد على بيت المال من الفيء أو الغنائم من العراق وغيره من البلاد المفتوحة، ولكل مسلم الحق في ذلك الفيء حيثما كان مقامه. فأهل المدينة مثلًا يتمتَّعون بفيء العراق، وكذلك أهل الشام.
(٥-٢) تعصب المدن الإسلامية بعضها على بعض
وقس على ذلك انحياز تلك البلاد إلى الخلفاء باختلاف الأحوال، فأصبح لكل بلد بتوالي الأعوام استقلال خاص وعوائد خاصة تميزه عن سواه، على أنها كانت تمتاز بعضها عن بعض في ذلك من أيام معاوية، فقد سأل معاوية ابن الكواء عن أهل الأمصار فقال: «أهل المدينة أحرص الأمة على الشر وأعجزهم عنه، وأهل الكوفة يردون جميعًا ويصدرون شتى، وأهل مصر أوفى الناس بشر وأسرعهم إلى ندامة، وأهل الشام أطوع الناس لمرشدهم وأعصاهم لمغويهم».
(٦) اصطناع الأحزاب في عصر الأمويين
(٦-١) سياسة معاوية
ومما احتاج إليه بنو أمية في سبيل التغلب لنيل الخلافة اصطناع الرجال واجتذاب الأحزاب، كما فعل معاوية بن أبي سفيان في اكتساب نصرة عمرو بن العاص وزياد بن أبيه والمغيرة بن شعبة، اكتسبهم بالدهاء والعطاء، ثم صار بعد ذلك قاعدة سار عليها بنو أمية في تثبيت دعائم ملكهم، والعلويون أبناء بنت النبي وأحفادها ينازعونهم عليه. على أنه لم يقم في بني أمية رجل مثل معاوية في الدهاء والتعقُّل، مما يعبر عنه أهل هذا الزمان بالسياسة.
(٦-٢) عمرو بن العاص
فبالدهاء ونحوه تمكن معاوية من نيل الخلافة وتوريثها لابنه، ثم صارت في بني مروان من أمية، ولكنه لم يستطع قطع شأفة المقاومين من طلاب الخلافة، وهم كثيرون أهمهم أولاد علي. على أنه كان يسكتهم بالمسالمة والبذل، وكانوا يهابونه ويسكنون إلى سياسته ويتوقعون من الجهة الأخرى رجوع الخلافة إليهم بعد موته.
فلما رأوه نقلها إلى ابنه يزيد، ثار المطالبون بالخلافة في الحجاز والعراق وغيرهما، وكل منهم يزعم أنه صاحب الحق فيها. فاجتمع سنة ٦٨ﻫ أربعة ألوية في عرفات، كل منها لزعيم يطلب الخلافة لنفسه، أحدها لبني أمية، والآخر للعلويين باسم محمد بن الحنفية، والثالث لعبد الله بن الزبير، والرابع لنجدة الحروري من الخوارج. ثم قام غيرهم ولم يفز بالملك إلا بنو أمية، للعصبية العربية واصطناع الأحزاب. وإليك الأسباب التي ساعدتهم على اصطناع الأحزاب، غير ما تقدم ذكره من دهاء معاوية وضعف رأي علي في السياسة.
(٧) بذل المال في عصر الأمويين
(٧-١) العطاء من بيت المال
فمن قبض على بيت المال قبض على رقاب المسلمين، فيجدر بهم أن يتقربوا منه أو يتزلفوا إليه. فإذا قبض عليه رجل حكيم مثل معاوية يعرف كيف يعطي ولمن يعطي، أغناه ذلك عما سواه. فكان معاوية يزيد العطاء أو ينقصه أو يقطعه على حسب الاقتضاء، والغالب أن يبذل الأموال ويضاعف الأعطية حيث يتوسم نفعًا، وأخوف ما كان يخافه في خلافته قيام العلويين أو غيرهم من أهل بيت النبي ينازعونه الخلافة، فبذل لهم العطاء بسخاء.
فبعد أن كان عطاء الحسن والحسين بحسب ديوان عمر ٥٠٠٠ درهم في السنة جعلها معاوية مليون درهم، أي إنه ضاعفها ٢٠٠ مرة، وأعطى مثل هذا المبلغ أيضًا إلى عبد الله بن عباس؛ لأنه ابن عم النبي ويخشى منه. وكذلك عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وغيرهم من كبار أبناء الصحابة أهل النفوذ في الإسلام ممن يقيمون في المدينة. فكان من جهة يتألفهم بالأموال ويشغلهم بالرخاء عن النهوض للمطالبة، ومن جهة أخرى يتألف بهم أهل المدينة؛ لأنهم كانوا ينفقون تلك الأموال في أهلها للتمتع بملاذ الحياة، ومنهم من كان ينفق عطاءه على المغنين والشعراء. وأكثرهم سخاءً وبذلًا من هذا القبيل عبد الله بن جعفر، وهو ابن عم الحسن والحسين، فإنه كان يفد على معاوية في الشام فيدفع إليه عطاءه فيعود إلى المدينة فيفرقه في أهلها. وكان معاوية يعلم ذلك فيقربه ويحسن إليه ليستألف أهل المدينة به.
وقس على ذلك بذل معاوية في تألف القبائل، فقد كان يفرض للقبائل التي تحارب معه، ولو بعدت عن نسبه كاليمن مثلًا، فإنه كان يتألفها بالأموال خوفًا من بطشها، وكان يفرض لها ولا يفرض لقيس وهي أقرب إليه؛ لأنه لم يكن يخاف بأسها، حتى إن أحد رجالها كان يأتي معاوية يطلب منه أن يفرض له فيأبى، كما فعل بمسكين الدارمي، فإنه طلب من معاوية أن يفرض له فأبى، فقال شعرًا يعاتبه فيه ويذكره بما بينهما من النسب، ومن ذلك قوله:
وكانوا يفرضون لأي من جاءهم، ولو كان أعرابيًّا، حتى كان أهل البادية كثيرًا ما يبيعون إبلهم ويأوون إلى المدن يطلبون الفرض لهم. ومع ذلك فأهل الأنفة منهم كانوا يدركون ما وراء ذلك من استعباد النفوس، لغرض يعتقدون أنه ضد الحق، وأنه تأييد لدعوة القائمين على أهل البيت فتعافه نفوسهم. يحكى أن امرأة جيها الأشجعي من أهل البادية حرضت زوجها على الذهاب إلى المدينة ليبيع إبله ويفترض في العطاء، فأطاعها وساق إبله حتى إذا دنا من المدينة شرعها بحوض ليسقيها، فحنت ناقة منها ثم نزعت، وتبعها الإبل، وطلبها ففاتته، فقال لزوجته: «هذه الإبل لا تعقل وتحن إلى أوطانها». ثم قال شعرًا:
(٧-٢) تدقيق علي وبخل ابن الزبير
(٨) الاستكثار من الأموال في عصر الأمويين
(٨-١) عمال بني أمية
(٨-٢) الإسلام والجزية
(٨-٣) الصدقة والرشوة
(٩) الاستخفاف بالدين وأهله
أما بعد فإني لست بالخليفة المستضعف (يعني عثمان) ولا بالخليفة المداهن (يعني معاوية) ولا بالخليفة المأفون (يعني يزيد). ألا وأني لا أداوي هذه الأمة إلا بالسيف حتى تستقيم لي قناتكم. وإنكم تحفظون أعمال المهاجرين الأولين ولا تعملون مثل أعمالهم. وإنكم تأمروننا بتقوى الله وتنسون ذلك من أنفسكم. والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه.
(٩-١) استهانة بعض الأمويين بالمقدسات
(٩-٢) الخلافة والنبوة في رأي بعض العمال
فلا غرو بعد ذلك إذا قيل لنا: أن الوليد بن يزيد، سكير بني مروان، رمى القرآن بالنشاب وهو في مجونه وسكره. فقد ذكروا أنه عاد ذات ليلة بمصحف فلما فتحه وافق ورقة فيها وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَىٰ مِن مَّاءٍ صَدِيدٍ فأمر بالمصحف فعلقوه وأخذ القوس والنبل وجعل يرميه حتى مزقه ثم قال:
وقس على ذلك ما ارتكبه الأمويون من قتل أبناء علي وصلبهم والمثلة بهم، غير من قتلوه من التابعين وأهل الصلاح صبرًا، وأكثرهم إقدامًا على ذلك عاملهم الحجاج بن يوسف.
(١٠) الفتك والبطش في عصر الأمويين
(١٠-١) بسر بن أرطاة وقتل الأطفال
وترى مما دار بينهما أن الذي جر عبد الملك إلى هذا الغدر كثرة الطامعين في السلطة، ولا رادع لهم من عند أنفسهم كما كانوا في عصر الدين والتقوى، فأصبح القوي يأكل الضعيف ومن سبق إلى قتل صاحبة ملك، وهي سياسة الفتك. وقد نفعتهم هذه السياسة في تأييد سلطانهم، ثم صارت سنة فيمن ملك بعدهم من بني العباس وغيرهم. وآخر حادثة جرت من هذا القبيل فتك محمد علي باشا بالمماليك، وقد عمد بنو أمية إلى ذلك استعجالًا للنصر وتخلصًا من أسباب النزاع، فإذا خرج عليهم خارج جعلوا همهم قتله، لعلمهم أنه إذا قتل تفرق أصحابه، وإذا لم يتفرقوا استرضوهم بالأموال أو نحوها.
(١٠-٢) خزانة الرؤوس
(١١) الموالي وأحكامهم في عصر الأمويين
(١١-١) تكاثر الموالي
(١١-٢) نقمة الموالي على العرب
والمولى إذا آنس من مولاه رضاء ومحاسنة استهلك في نصرته، وكان لسيده ثقة فيه، حتى خلفاء بني أمية فقد كانوا يقربون جماعة من مواليهم، يعهدون إليهم بمهامهم ويرفعون منزلتهم ويستشيرونهم في أمورهم، والموالي يخلصون لهم ويستميتون في الدفاع عنهم، كما كان موالي بني هاشم يستميتون في نصرة مواليهم، وكانت تقوم المفاخرات بين الحزبين، وأشهرها مفاخرات سديف وسياب وقد تقدم ذكرها.
(١١-٣) زواج الموالي بالعربيات
فتزويج المولى بالعربية بالغ الأمويون في تقبيحه تعصبًا للعرب على سواهم، وهو عندهم أقبح من زواج العربي بغير العربية. ولكن ذلك لم يكن محرمًا في الدين ولا اعتبره أهل التقوى، فعلي بن الحسين بن علي المعروف بزين العابدين — وهو أحد الأئمة الاثني عشر ومن سادات التابعين — كانت أمه سلامة بنت يزدجرد آخر ملوك الفرس، فلما توفي أبوه زوجها بثريد مولى أبيه وأعتق جارية له وتزوجها، فكتب إليه عبد الملك بن مروان يعيره بذلك. فكتب إليه زين العابدين: «لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، وقد أعتق رسول الله صفية بنت حيي بن أخطب وتزوجها، وأعتق زيد بن حارثة وزوَّجه بنت عمته زينب بنت جحش».
فالإسلام يرفع منزلة المولى، وأما الأمويون فرأوا تحقيره باعتبار أنه غير عربي، وشاع ذلك في أيامهم وأصبح الناس يعيرون بمصاهرة الموالي. ومن أشعارهم في رجل من بني عبد القيس بالبحرين زوج ابنته من أحد الموالي قول أبي بجير يؤنب آل عبد القيس لتزويجهم الموالي ومنهم الزارع والتاجر قال:
وجملة القول: أن تعصب بني أمية للعرب جرهم إلى تحقير غير العرب وخصوصًا الموالي، فنقم هؤلاء عليهم وكانوا أكبر المساعدين في إخراج الدولة من أيديهم.
(١٢) أهل الذمة وأحكامهم في عصر الأمويين
(١٢-١) عهود أهل الذمة في أول الإسلام
الذمة في اللغة العهد والأمان والضمان، وأهل الذمة هم المستوطنون في بلاد الإسلام من غير المسلمين. قيل لهم ذلك؛ لأنهم دفعوا الجزية فأمنوا على أرواحهم وأعراضهم وأموالهم، وأكثرهم من النصارى واليهود، وقد دعاهم القرآن «أهل الكتاب» نسبة إلى الكتاب المقدس التوراة والإنجيل، وقد أثنى عليهم وأوصى بهم خيرًا. وفي الحديث النبوي أقوال كثيرة بمحاسنة أهل الذمة، وخصوصًا قبط مصر، فقد رووا عن النبي ﷺ أنه قال: «إذا افتتحتم مصر فاستوصوا بالقبط خيرًا، فإن لهم ذمةً ورحمًا» إشارة إلى أن أم إسماعيل أبي العرب منهم، وقال: «الله الله في أهل الذمة، أهل المدرة السوداء، السحم الجعاد، فإن لهم نسبًا وصهرًا».
وفي تاريخ الفتوح عهود كثيرة كتبت لأهل الذمة، عاهدهم المسلمون فيها بحمايتهم وتسهيل أعمالهم، في مقابل ما يؤدونه من الجزية، ككتاب النبي ﷺ إلى صاحب أيلة (في العقبة)، وإلى أهل أذرح في أثناء غزوة تبوك في السنة التاسعة للهجرة. وهاك كتاب النبي ﷺ إلى صاحب أيلة:
وهاك كتابه إلى أهل أذرح وأهل مقنا:
واقتدى بالنبي ﷺ قواده في أثناء الفتح بالشام ومصر والعراق وفارس، وكتبوا العهود لأهل الذمة على نحو ما تقدم في مقابل الجزية — منها عهد خالد بن الوليد الذي كتبه لأهل الشام، وهذا نصه:
وإليك صورة عهد أبي عبيدة إلى أهل بعلبك:
وقس عليه عهود سائر الفاتحين، مثل عمرو بن العاص وسعد بن أبي وقاص وغيرهما، في مصر والعراق وفلسطين وفارس وأفريقية والأندلس وغيرها، على أنهم كانوا يشترطون في الجزية أن يؤديها أهل الذمة عن يدٍ وهم صاغرون.
أما شروط الصلح فكانت تختلف شدةً ورفقًا باختلاف البلاد والأحوال التي فتحت بها، فصلح مصر يختلف عن صلح الشام، وصلح الشام غير صلح العراق.
(١٣) العهدة النبوية
هذا كتاب كتبه محمد بن عبد الله إلى كافة الناس أجمعين، رسوله مبشرًا ونذيرًا ومؤتمنًا على وديعة الله في خلقه؛ لئلا يكون للناس حجة بعد الرسل وكان الله عزيزًا حكيمًا، كتبه لأهل ملة النصارى ولمن تنحل دين النصرانية، من مشارق الأرض ومغاربها قريبها وبعيدها فصيحها وعجمها معروفها ومجهولها، جعل لهم عهدًا فمن نكث العهد الذي فيه وخالفه إلى غيره وتعدى ما أمره، كان لعهد الله ناكثًا ولميثاقه ناقضًا وبدينه مستهزئًا وللعنته مستوجبًا، سلطانًا كان أم غيره من المسلمين — وإن احتمى راهب أو سائح في جبل أو واد أو مغارة أو عمران أو سهل أو رمل أو بيعة، فأنا أكون من ورائهم أذبُّ عنهم من كل غيرة لهم بنفسي وأعواني وأهلي وملتي وأتباعي؛ لأنهم رعيتي وأهل ذمتي وأنا أعزل عنهم الأذى في المؤن التي يحمل أهل العهد من القيام بالخراج، إلا ما طابت له نفوسهم، وليس عليهم جبر ولا إكراه على شيء من ذلك، ولا يغير أسقف من أسقفيته ولا راهب من رهبانيته ولا حبيس من صومعته ولا سائح من سياحته، ولا يهدم بيت من بيوت كنائسهم وبيعهم، ولا يدخل شيء من مال كنائسهم في بناء مساجد المسلمين ولا في بناء منازلهم، فمن فعل شيئًا من ذلك فقد نكث عهد الله وعهد رسوله. ولا يحمل على الرهبان والأساقفة ولا من يتعبد جزية ولا غرامة، وأنا أحفظ ذمتهم أينما كانوا من بر أو بحر في المشرق أو المغرب والجنوب والشمال، وهم في ذمتي وميثاقي وأماني من كل مكروه، وكذلك من ينفرد بالعبادة في الجبال والمواضع المباركة لا يلزمهم مما يزرعونه لا خراج ولا عشر، ولا يشاطرون لكونه برسم أفواههم، ولا يعاونون عند إدراك الغلة، ولا يلزمون بخروج في حرب وقيام بجبربة، ولا من أصحاب الخراج وذوي الأموال والعقارات والتجارات مما هو أكثر من اثني عشر درهما بالجملة في كل عام، ولا يكلف أحد منهم شططًا ولا يجادلون إلا بالتي هي أحسن، ويحفظونهم تحت جناح الرحمة، يكف عنهم أذية المكروه حيثما كانوا وحيثما حلوا — وإن صارت النصرانية عند المسلمين فعليها برضاها ويمكنها من الصلاة في بيعها، ولا يحال بينها وبين هوى دينها، ومن خان عهد الله واعتمد بالضد من ذلك فقد عصى ميثاقه ورسوله، ويعاونون على مرمة بيعهم ومواضعهم، وتكون تلك مقبولة لهم على دينهم وفعالهم بالعهد، ولا يلزم أحد منهم بنقل سلاح بل المسلمون يذبون عنهم، ولا يخالف هذا العهد أبدًا إلى حين تقوم الساعة وتنقضي الدنيا. ا.ﻫ.
والغالب في اعتقادنا أن النبي ﷺ إذا كان قد أعطى عهدًا للنصارى والرهبان عمومًا فهو غير هذا العهد، أو لعله كان مختصرًا وطولوه، أو تنوسي وضاع أصله فكتبوه من عندهم، أو أن النصارى وضعوا هذا العهد من عند أنفسهم لغرض سياسي، إذ لم يذكر خبر هذا العهد أحد من مؤرخي الفتوح أو غيرهم من كُتَّاب المسلمين في الأزمنة الأولى، فضلًا عما في عبارته وألفاظه مما لم يكن معروفًا في صدر الإسلام، وخصوصًا في السنة الثانية للهجرة.
(١٤) عهد عمر
ويذكرون أيضًا عهدًا يعرف بعهد عمر بن الخطاب لأهل الشام، أشار إليه غير واحد من مؤرخي المسلمين، وقد أورده بعضهم بنصه منهم أبو بكر محمد بن محمد بن الوليد الفهري الطرطوشي المالكي المتوفى سنة ٥٢٠ﻫ، أورده في كتاب «سراج الملوك» نقلًا عن عبد الرحمن بن غنم الأشعري المتوفى سنة ٧٨، وإليك صورة العهد المذكور برواية ابن غنم قال:
فنرى لأول وهلة تناقضًا بين هذه المناقب ونص هذا العهد، فيتبادر إلى الذهن أنه موضوع بعد عصر عمر بأزمان، كما قلنا عن نص العهدة النبوية، ولكن حاله يختلف عن حالها بما يرجح صحته. فلننظر أولًا في صحة نسبته إلى عمر، ثم في سبب التناقض الظاهر بينه وبين مناقبه.
(١٥) نسبة هذا العهد إلى عمر
- (١)
أن العهد المذكور وارد في كتب المسلمين بنصه الأصلي بطريق الإسناد، فالطرطوشي وإن كان من أهل القرن السادس للهجرة، فإنه أورد نص العهد بطريق الإسناد إلى الراوي الأصلي، على عادة المؤرخين المحققين في أوائل الإسلام، مما يدل على أنه نقله من كتاب قديم.
- (٢)
أن «سراج الملوك» الذي أورد نص هذا العهد هو من كتب الأدب والسياسة المهمة، وليس من كتب الفكاهة، ومؤلفة من أكبر علماء الأندلس، صحب أبا الوليد الباجي وأخذ عنه مسائل الخلاف وأجاز له، وقرأ الفرائض والحساب والأدب، وجاء بغداد ومصر وتفقه على أبي بكر الشاشي وعلي أبي أحمد الجرجاني، وأتى الشام وسكنها ودرس بها وكان إمامًا فقيهًا عالمًا زاهدًا ورعًا. وكان مع ذلك متعصبًا على النصارى يرى تحقيرهم، واتفق أنه دخل على الأفضل شاهنشاه ابن أمير الجيوش بمصر وبجانب الأفضل رجل نصراني فوعظ الأفضل حتى بكى ثم أنشد:
يا ذا الذي طاعته قربةوحقه مفترض واجبإن الذي شرفت من أجلهيزعم هذا أنه كاذبوأشار إلى النصراني فأقامه الفضل من موضعه١٣٨ ولعل تعصبه هذا حمله على إثبات هذا العهد في كتابه، مع رغبة أكثر الذين سبقوه في إغفاله لما توهموا فيه من المغايرة لمناقب الخلفاء الراشدين. ولا يقال: أن الطرطوشي وضع هذا العهد من عند نفسه؛ لأن من كان في منزلته من الزهد والتقوى ينزه نفسه عن الكذب. - (٣) إن أكثر مواد هذا العهد واردة في كتب الفقه من أحكام أهل الذمة، كما وردت في هذا العهد بمعناها الحرفي تقريبًا١٣٩ وأكثر هذه الأحكام كتب قبل زمن الطرطوشي. ناهيك بما جاء من ذلك في كتب السياسة والإدارة، وبعضها أشار إلى هذا العهد إشارة صريحة وأورد بعض نصه. فقد جاء في كتاب الأحكام السلطانية للماوردي المتوفى سنة ٤٥٠ﻫ (أي: قبل الطرطوشي بخمس وسبعين سنة) بباب الجزية والخراج قوله: «وإذا صولحوا — النصارى — على ضيافة من مر بهم من المسلمين ثلاثة أيام مما يأكلون، ولا يكلفهم ذبح شاة ولا دجاجة، وتبيت دوابهم من غير شعير، وجعل ذلك على أهل السواد دون المدن — إلى أن قال — ويشترط عليهم في عقد الجزية شرطان: مستحق ومستحب، أما المستحق فستة شروط:
- (١)
أن لا يذكروا كتاب الله تعالى بطعن فيه ولا تحريف له.
- (٢)
أن لا يذكروا رسول الله ﷺ بتكذيب له ولا ازدراء.
- (٣)
أن لا يذكروا دين الإسلام بذم له ولا قدح فيه.
- (٤)
أن لا يصيبوا مسلمة بزنا ولا باسم نكاح.
- (٥)
أن لا يفتنوا مسلمًا عن دينه ولا يتعرضوا لماله ولا دمه.
- (٦)
أن لا يعينوا أهل الحرب ولا يؤووا أغنياءهم.
فهذه الستة الحقوق ملتزمة فتلزم بغير شرط، وإنما تشترط إشعارًا لهم وتأكيدًا لتغليظ العهد عليهم، ويكون ارتكابها بعد الشرط نقضًا لعهدهم. وأما المستحب فستة أشياء:- (١)
تغيير هيئاتهم بلبس الغيار وشد الزنار.
- (٢)
أن لا يعلوا على المسلمين في الأبنية.
- (٣)
أن لا يسمعوهم أصوات نواقيسهم.
- (٤)
أن لا يجاهروهم بشرب الخمر ولا بإظهار صلبانهم.
- (٥)
أن يخفوا دفن موتاهم.
- (٦) أن يمنعوا من ركوب الخيل عتاقًا وهجانًا إلخ.١٤٠
فقول الماوردي هذا يكاد يكون نص عهد عمر حرفيًّا بعد الترتيب والتبويب.
فالعهد المذكور كان معروفًا قبل كتاب سراج الملوك. ويؤيد ذلك أن ابن الأثير أشار إليه إشارة تدل على اعترافه بفحواه وبنسبه إلى عمر، كقوله في حوادث سنة ٤٨٤ﻫ: «وأخرج توقيع الخليفة بإلزام أهل الذمة بالغيار، ولبس ما شرطه عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب».١٤١
- (١)
- (٤)
أن الخلفاء الأولين في القرون الأولى للإسلام كانوا إذا أرادوا تجديد عهود أهل الذمة، ولا سيما النصارى، فرضوا عليهم مثل فحوى هذا العهد من تغيير الزي ونحوه. مما يدل على اتصال هذا العهد بالقرن الأول، وأقدمهم عمر بن عبد العزيز الخليفة التقي المشهور باقتفائه آثار سميه وجده لامه عمر بن الخطاب، وهو أول خليفة أموي أراد رد النصارى إلى ما شرطه عليهم عمر، وكانوا قد أغفلوا أكثر شروطه وخصوصًا من حيث اللباس، وتشبهوا بالمسلمين بلبس العمامة، فأمرهم أن يضعوا العمائم ويلبسوا الأكسية ولا يتشبهوا بشيء من الإسلام. وقس على ذلك سائر الخلفاء الذين اضطهدوا النصارى، فإنهم كانوا يرجعون إلى فحوى عهد عمر كما سترى.
(١٦) عهد عمر ومناقبه
أما ما يظهر من التناقض بين هذا العهد ومناقب عمر ففيه نظر، ولا بد في بيانه من المقابلة بين مناقب عمر وفحوى ذلك العهد:
(١٦-١) مناقب عمر بن الخطاب
(١٦-٢) فحوى عهد عمر
وفحوى العهد المذكور يرجع إلى أربعة شروط أولية وهي:
-
(١)
ألا يحدث النصارى معبدًا.
-
(٢)
أن ينزلوا من يمر بهم من المسلمين ثلاثة أيام.
-
(٣)
ألا يؤووا في كنائسهم جاسوسًا ولا يكتموا غشًّا للمسلمين.
-
(٤)
ألا يقلدوا المسلمين بشيء من اللباس أو الركوب أو تعلم القرآن، أو نقش اسمهم بالعربية على أختامهم.
وأنه بغير هذه الشروط لا يكون لهم أمان على أنفسهم وذراريهم وأموالهم، فالشرط الأول ينطبق على رغبة عمر في تأييد الإسلام ونشره كما تقدم.
والشرط الثاني تستلزمه حال المسلمين في بلاد الفتح، فقد كانوا غرباء بين أهل الذمة، والعرب أهل ضيافة ولم يكن أهل تلك البلاد يألفون تلك العادة، فجعلها عمر شرطًا واجبًا عليهم رحمة بالمسلمين في أسفارهم للحرب وغيرها.
أما الشرطان الثالث والرابع فلا بد في تطبيقهما على أخلاق عمر من مقدمة صغيرة …
(١٧) نصارى الشام وقيصر الروم
أما العهد الذي نحن بصدده فقد أعطى لنصارى الشام على الخصوص، وكأنه اختصهم بالتضييق. فهو لم يفعل ذلك إلا لسبب دعاه إليه. والغالب في اعتقادنا أنه اشترط هذه الشروط صيانة لبلاد الشام من رجوع الروم إليها بمساعي أهلها النصارى، إذ يكونون عيونًا للروم على المسلمين، لما بينهم وبين الروم من الرابطة الدينية، وهي أقوى الجامعات في الشرق من أقدم أزمانه إلى هذا اليوم. فكل طائفة من الطوائف الشرقية تفضل أن يحكمها حاكم من مذهبها ولو كان ظالمًا، على أن تخضع لحاكم من غير دينها ولو كان عادلًا. وفي التواريخ شواهد كثيرة تؤيد هذا القول حتى في عصرنا الحاضر، مع ما دخل نفوس المشارقة من التسامح الديني. فإن كل طائفة من أهله تفضل أن يحكمها ابن دينها، لا تبالي بعدله أو ظلمه. النصراني يفضل حاكمًا مسيحيًّا، والمسلم يفضل حاكمًا مسلمًا، فكيف بتلك العصور والدين مرتبط بالسياسة؟
ونصارى الشام أذعنوا للجزية، ودخلوا في سلطان المسلمين، وظلوا على ما كانوا فيه من حيث الدين وطقوسه، يقيمون الصلاة في كنائسهم كما كانوا يقيمونها قبل الإسلام، يأتيهم القسس والأساقفة من القسطنطينية أو أنطاكية، ولسانهم لسان دولة الروم، ومعتقدهم مثل معتقدها. وقد بينا في غير هذا المكان أن الفتح الإسلامي كان في صدر الإسلام احتلالًا عسكريًّا، ولم يكن المسلمون يتعرضون للمسيحيين في شيء من طقوسهم الدينية ولا أحوالهم الشخصية ولا أحكامهم القضائية، وكانوا يعترفون لصاحب القسطنطينية بسيادته في ذلك على نصارى الشام. فإذا حدث ما يمس هذه السيادة احتج ملك الروم على الخليفة، وخصوصًا من حيث الكنائس. وكان الخلفاء يراعون عهودهم في هذا الشأن، حتى إذا استفحل أمر بني أمية خرقوا حرمة تلك العهود كما خرقوا سواها مما أقره الراشدون.
وكان بعض نصارى الشام لا يدخرون وسعًا في هذا السبيل، فينقلون أخبار المسلمين إلى الروم، وإذا جاء جواسيس الروم آووهم في منازلهم وأعانوهم في استطلاع الأخبار. فربما دخل النصراني بين المسلمين وهو في مثل لباسهم، وقد نقش اسمه بالعربية على خاتمه مثلهم، وحفظ شيئًا من القرآن ليوهم المسلمين أنه منهم. والشام لم يتم فتحها بعد، وعمر لا يزال يخاف انتقاضها لبعدها عن مركز الخلافة. فخوفًا من مثل ذلك اشترط على أهلها أن لا يتشبهوا بالمسلمين في شيء من اللباس أو الركوب وغيره، وأن لا يؤووا أحدًا من جواسيس الروم، ولا يكتموا غشًّا للمسلمين.
فالأرجح عندنا أن عمر كتب عهدًا لنصارى الشام (أو استكتبهم عهدًا) إن لم يكن هذا نصه فهو فحواه، ولا يستبعد وقوع بعض التغيير في نصه بعد ذلك. أن السبب فيما حواه من الشدة خوفه من نصارى الشام؛ لأنهم أقرب نصارى الشرق إلى كنيسة القسطنطينية. أما القبط فقد كانوا أعداء تلك الكنيسة، وهم الذين واطأوا المسلمين على الروم وسهلوا لهم الفتح. وأنه لم يفعل ذلك للتضييق على النصارى تعصبًا للدين أو كرهًا للنصرانية. ثم أطلق المسلمون هذا العهد على سائر أهل الذمة.
(١٨) الأمويون وأهل الذمة
على أن الخلفاء من بني أمية كانوا إذا قربوا نصرانيًّا أو يهوديًّا طلبوا إليه أن يدخل في الإسلام، فلا يمنعه من الرفض مانع، إلا من يغضب الخليفة عليه ولم يكن يحتاج إليه فينتقم منه، كما أصاب شمعلة وكان من رهط الفرس نصرانيًّا، فدخل على بعض خلفاء بني أمية فقال له: «أسلم يا شمعلة» قال: «لا والله لا أسلم أبدًا، ولا أسلم إلا طائعًا إذا شئت» فغضب وأمر فقطعت بضعة من فخذه وشويت بالنار وأطعمها. أما الأخطل فإن عبد الملك قال له مرة: «ألا تسلم فنفرض لك في الفيء ونعطيك عشرة آلاف؟» قال: «كيف بالخمر؟» قال: «وما نصنع بها؟ وإن أولها لمر وآخرها لسكر» فقال: «أما إذا قلت ذلك فإن بين هاتين لمنزلة ما ملكك فيها إلا كلعقة من الفرات بالإصبع» فضحك.
(١٩) الخلاصة
ومنهم يزيد ابن عبد الملك المتوفى سنة ١٠٥ﻫ ويسمونه خليع بني أمية، فقد تولى الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز وسار في طريق غير طريقه، فشغف بجاريتين اسم إحداهما سلامة والأخرى حبابة فقطع معهما زمانه وغنت يومًا حبابة:
فطرب يزيد ثم قال: «أريد أن أطير» وأهوى ليطير فقالت: «يا أمير المؤمنين لنا فيك حاجة» فقال: «والله ل أطيرن» فقالت: «على من تدع الأمة؟» قال: «عليك» وقبل يدها، فخرج بعض خدمه وهو يقول: «سخنت عينك فما أسخفك!». وخرج يومًا ليتنزه في ناحية الأردن ومعه حبابة، وبينما هما في الشراب رماها بحبة عنب فدخلت حلقها فشرقت ومرضت وماتت. فتركها ثلاثة أيام لم يدفنها، حتى أنتنت وهو يشمها ويقبلها وينظر إليها ويبكي، فكلموه في أمرها حتى أذن بدفنها، وعاد إلى قصره كئيبًا حزينًا وسمع جارية له تتمثل بعدها:
على أن العرب أعظموا تهتك بني أمية من أيام يزيد بن معاوية، واستغربوا البيعة له، فكيف بعد الذي شاهدوه من يزيد والوليد وغيرهما، حتى قال بعض الشعراء يخاطبهم: