سياسة العباسيين في تأييد سلطتهم
(١) القتل على التهمة
(٢) المنصور والدولة العباسية
فبهذا وأمثاله مهد أبو مسلم الخلافة لبني العباس، فساعدهم أولًا على إخراجها من بني أمية إلى أهل البيت، ولم يكتف ببيعة أبي العباس وقتل مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، ولكنه حرضهم على قتل من بقي من بني أمية بالإغراء أو التخويف على ألسنة الشعراء. ويقال: إنه هو الذي أوعز إلى سديف الشاعر مولى بني هاشم أن يقول ذلك الشعر في مجلس السفاح، وفيه سليمان بن هشام بن عبد الملك، وكان السفاح قد أمنه وأكرمه وأمن سائر بني أمية — فيقال: أن سديفًا دخل يومًا على السفاح وعنده سليمان بن هشام فأنشد سديف قوله:
وبعد أن تخلص المنصور من الأمويين، لم يدخر أبو مسلم وسعا في تخليص الدولة من أقربائه آل العباس أنفسهم، وفي جملتهم عبد الله بن علي المتقدم ذكره، وقد طمع في الخلافة فحاربه بأمر المنصور وغلبه، واستولى على ما في عسكره من الغنائم والأسلحة. فأراد المنصور أن يوجه همه إلى بني الحسن منافسيه في الخلافة، فاشتغل خاطره بأبي مسلم وأصبح خائفًا منه على سلطانه، بعد ما بلغ إليه من النفوذ والشهرة والدالة. ولم يكن همه إلا قتله ليفرغ للعلويين، فاتهمه بأنه ينوي إخراج الملك منهم فاستحق القتل عملًا بوصية الإمام.
وظل المنصور وأبو مسلم قدوة لمن جاء بعدهما في الدهاء والفتك. على أنهم لم يكونوا يبطشون أو يفتكون إلا بمن نازعهم على الخلافة، فهذا يقتلونه على الشك. أما أحكامهم فيما خلا ذلك ففي نهاية العدل والرفق، كما سيأتي أما من كان في نفسه مطمع في الخلافة أو ما يتعلق بها فحكمه حكم المجرمين، فكل من يطلب الخلافة لنفسه أو يسعى فيها لأحد كانت حياته في خطر، فإذا دعي للمثول بين يدي الخليفة اغتسل وتحنط استعدادًا للموت.
وكان المنصور أيضًا قدوة لعبد الرحمن بن معاوية، مؤسس دولة بني أمية في الأندلس، وقد فر من العراق فالشام إلى المغرب خوفًا من القتل، فنصره رجاله وخصوصًا مولى له اسمه بدر، سعي في تأييد سلطانه مثل سعي أبي مسلم في الدولة العباسية، فلما استتب له الأمر سلبه كل نعمة وسبحنه ثم أقصاه حتى مات، وفعل نحو ذلك في رؤساء الأحزاب الذين نصروه، وسيأتي الكلام على ذلك.
(٣) سياسة الدولة العباسية في معاملة الرعية
(٣-١) الموالي الفرس
قد رأيت أن الدولة العباسية قامت بالفرس وغيرهم من الرعايا، وفيهم الموالي وأهل الذمة وكانوا ناقمين على دولة بني أمية، فنصروا أهل البيت انتقامًا منها، والجمهور الأهم منهم الفرس.
(٣-٢) الفرس والعرب قبل الإسلام
الفرس أهل سياسة وسلطان، وقد أنشأوا الدول وساسوا الناس ووضعوا الأحكام من قديم الزمان. وضخمت دولتهم وقويت شوكتهم حتى حاربوا اليونان والرومان، ونبغ فيهم القواد والعلماء والحكماء، وترجموا العلم والفلسفة، وكان لهم شأن كبير في التاريخ القديم، واشتهر فيهم فضلًا عن الأسر المالكة والداهقين والأساورة بيوتات شريفة، أشهرها سبعة كان الشرف فيها. وعلى إطلال اصطخر عاصمة الفرس القدماء، وغيرها من بقايا مدنهم القديمة، نقوش كتابية، مثل التي خلفها الفراعنة واليونان والرومان وغيرهم.
وجملة القول: أن العرب كانوا يخدمون الفرس في أيام دولتهم قبل الإسلام، كما خدم الفرس العرب في أيام دولتهم بعد الإسلام، على أن الفرس بلغ من ضخامة سلطانهم وسعة ملكهم قبل الإسلام أن كانوا يسمون أنفسهم الأحرار والأسياد ويعدون سائر الناس عبيدًا لهم، أي: أنهم أصيبوا بما أصاب العرب بعد ذلك، وبما يصاب به غيرهم من الأمم التي توفق إلى السيادة فيغلب عليها الغرور وتترفع عن سواها.
(٣-٣) استخدام الموالي الفرس
ولا غرو إذا أكرم العباسيون أهل خراسان، بعد أن آثروهم على أهلهم وأبنائهم وقتلوا من خالفهم. ولكن العرب كانوا يستغربون ذلك لأول وهلة، فكانوا إذا جاءوا مجلس الخليفة رأوا الخراسانيين يذهبون ويجيئون ويدخلون على الخليفة كأنهم من أهله، والعرب يقفون ببابه لا يؤذن لهم إلا بمشقة — ذكروا أن أبا نخيلة الشاعر العربي وفد على أبي جعفر المنصور، ووقف ببابه واستأذن فلم يؤذن له، وهو يرى الخراسانية تدخل وتخرج وتهزأ به، فيرون شيخًا أعرابيًّا جلفًا فيعبثون به، فسأله صديق له رآه في تلك الحال: «كيف ترى ما أنت فيه من هذه الدولة؟»، فقال:
وكانت أمور الدولة ترجع إلى الوزراء: يولون ويعزلون، وإذا تولاها أحدهم ولى الأعمال رجالًا من أصحابه أو مريديه، ومن ناحية أخرى تغيرت الأحوال على أهل البلاد، واطمأنت خواطرهم وتفرغوا للعمل في التجارة أو الصناعة أو الزراعة، ونسوا ما كانوا فيه من ضغط بني أمية واستبدادهم، وأطلقت حرية العمل وحرية الدين، وذهبت عصبية العرب، ورتع الناس في بحبوحة الأمن.
ولما استبد الأتراك في الدولة وضعفت شوكة الفرس، بعد المأمون كما سيأتي، ظل الموالي من أصحاب النفوذ في دولة الخلفاء، يعتمد عليهم الخليفة في أموره الخاصة والعامة من الكتابة إلى القيادة، ولم يعد التقدم فيهم للفرس بنوع خاص، ولكنهم أصبحوا أخلاطًا منهم ومن سواهم، وإنما تجمعهم كلمة الموالي ويتفانون في خدمة الخليفة أو الأمير.
(٤) أهل الذمة في الدولة العباسية
لما أخذ الموالي الفرس في تنظيم الحكومة وترتيب دواوينها، أحسوا بافتقارهم إلى من يعينهم على ذلك من أهل الذمة في العراق والشام، وكانوا أهل معرفة في الحساب والكتابة والخراج فضلًا عن العلوم، فأطمعوهم بالرواتب والجوائز وسهلوا لهم أسباب المعيشة وقربوهم وأكرموهم. فاطمأنوا لتلك الدولة وتقاطروا إلى بغداد، وخدموا العباسيين بعقولهم وأقلامهم، بما آنسوه من تسامحهم وإطلاق حرية الدين لهم، فاستخدمهم العباسيون في دواوينهم وولوهم خزائنهم وضياعهم.
ناهيك بمن كان الخلفاء والأمراء يستخدمونهم من أطباء أهل الذمة وحكمائهم وتراجمتهم وكتابهم، وخصوصًا نصارى الشام، فإنهم خدموا التمدن الإسلامي في نقل العلوم من اليونانية والفارسية والسريانية وغيرها إلى اللغة العربية، على ما فصلناه في الجزء الثالث من هذا الكتاب، وبينا ما كان من محاسنة الخلفاء لهم تقديمهم ورعاية جانبهم وإكرامهم، وفيهم النصراني واليهودي والمجوسي والسامري والصابي وغيرهم، والكل راتعون في بحبوحة السكينة والطمأنينة يتكسبون من خزائن الخلفاء والأمراء.
(٤-١) اضطهاد أهل الذمة في العصر العباسي
(٤-٢) تعصب العامة على النصارى
قلنا: إن الخلفاء والأمراء قدموا النصارى في مصالح الدولة، وأغدقوا عليهم الأموال وأكرموهم ورفعوا منزلتهم، وإنهم فعلوا ذلك لاحتياجهم إليهم في إبان ذلك التمدن؛ لنقل العلوم أو الطب أو الحساب أو الكتابة أو غيرها مما تحتاج إليه الدولة في تنظيم شؤونها، لاشتغال المسلمين يومئذ بالرياسة. وكان أولو الأمر من الجهة الأخرى يقدمون المسلمين في المعاملات الرسمية على سواهم من أهل الذمة، كما كان الأمويون يقدمون العرب على غير العرب، فنشأ التحاسد بين عامة المسلمين وعامة المسيحيين. وذلك طبيعي في كل مملكة يتنازع العمل فيها ملتان أو طائفتان، ولا يزال ذلك جاريًا على نحو هذا الشكل إلى يومنا هذا.
نشأ هذا التحاسد أولًا بين العامة ونحوهم من أهل المهن العلمية أو الحرف الصناعية، الذين يحومون حول الخلفاء والأمراء للارتزاق بما يعوزهم من أسباب المدنية، أو يرضيهم من عوامل الرخاء والترف كالشعر والغناء والكتابة والحساب وغيرها. وأما أهل الطبقة العليا (الشرفاء) والأغنياء ورجال الدولة، فقلما كانوا يتعصبون أو يتباغضون، وإنما كانوا ينظرون إلى الرجال من حيث هم بقطع النظر عن مذاهبهم، فالشريف الرضي الذي كتب إلى الخليفة القادر بالله:
رثى أبا إسحق الصابي بقصيدته المشهورة التي مطلعها:
من جانب الشرع الشريف في ديار بكر إلى مطران طائفة كفرة السريان
«أيها المكروه بالنظر والمعتقد، أن يعقوب الكافر من طائفتكم المكروهة حيث إن الملعون قد فطس وهلك؛ فلأجل إدخال جثته الكريهة ضمن الأرض، قد صدر الاسترحام من مرشد محلته وجرى أخذ الخراج، وإن تكن الأرض لا تقبل جثته الخبيثة؛ ولكي لا تكون سببًا لفساد الهواء، قد أعطيناه الرخصة بعنوان الشرع الشريف أن تدفن، ضمن مدينتكم المخصوصة بموجب مذهبكم الباطل إلى زمرة جهنم. اقتضى إعطاء هذه الرخصة لكي لا يكون مانع من طرف أحد في ٢٦ جمادى الأولى سنة ١٢٠٣». انتهى.
فأي مسلم أو مسيحي من أهل هذا العصر يطلع على هذا ولا ينكره أو يستغربه؟ ولولا ثقتنا بصدق الناقل لأنكرناه نحن أيضًا. وقد هون علينا تصديقه أن صديقًا آخر مقيمًا في القاهرة أكد لنا وجود رخص كثيرة في بعض البطركخانات بمصر في مثل هذه العبارة. وقد أخذ هذا التعصب في الزوال من بدء هذه النهضة، ومتى نضجت نرجو أن يزول تمامًا بإذن الله.
(٤-٣) تحاسد النصارى
على أنك لو تدبرت ما كان يلحق النصارى من الأذى في إبان التمدن الإسلامي لرأيت سببه في كثير من الأحوال وشاية بعض طوائف النصرانية بالبعض الآخر، كالنساطرة واليعاقبة في العراق. وكثيرًا ما كان أهل النفوذ من النصارى أنفسهم أشد وطأة على أهل دينهم من حكامهم المسلمين، كما كان عيسى بن شهلا الطبيب لما تولى الطبابة. ونال منصبًا في دار الخلافة، فاغتنم تلك الفرصة وبسط يده على المطارنة والأساقفة يأخذ أموالهم لنفسه، حتى إنه كتب إلى مطران نصيبين كتابًا يلتمس منه فيه من آلات البيعة أشياء عظيمة المقدار ويهدده، ومن أقواله له: «ألست تعلم أن أمر الملك بيدي، إن شئت أمرضته وإن شئت عافيته؟»، فبعث المطران بالكتاب إلى الربيع حاجب الخليفة فانتقم الخليفة منه.
فسياسة الدولة العباسية في معاملة الرعايا من المسلمين وأهل الذمة إنما هي المحاسنة والعدل والرفق. وقد أتينا بأمثلة من عدل الخلفاء الأولين من بني العباس ورفقهم في الجزء الثاني من هذا الكتاب. وكانوا يحاسنون الفرس وسائر أهل النفوذ من الموالي على الخصوص، ولاسيما بعد أن صارت الحكومة إليهم وقبضوا على جندها ومالها، فكان الخلفاء يقدمونهم ويكرمونهم ويطلقون أيديهم في شؤون الدولة، فإذا داخلهم شك في إخلاصهم ولو على سبيل الوشاية فتكوا بهم فتكًا ذريعًا، كما اتفق للبرامكة وغيرهم من وزراء العصر العباسي الأول.
(٥) العصبية العربية في العصر العباسي
(٥-١) سياسة التقسيم
على أن المنصور كان همه منصرفًا إلى العرب؛ لأنهم أهل عصبية إذا اجتمعوا تغلبوا على الدولة وفعلوا ما أرادوه، لما يعلمه من جرأتهم في طلب الحق وتقبيح الظلم جهارًا ولا يحملون ضيمًا، وهو كما علمت بما ارتكبه في تأسيس دولته من الغدر والفتك، مما لا تصبر عليه النفوس الأبية. وقد زاده حذرًا منهم ما كان يسمعه من أقوالهم الدالة على إباء الضيم ولو كان فيه ما يسوءه، كما اتفق له وهو في بعض حجاته، وكان يطوف بالكعبة ليلًا، إذ سمع قائلًا يقول: «اللهم أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض، وما يحول بين الحق وأهله من الطمع»، فخرج المنصور إلى ناحية من المسجد ودعا القائل وسأله عن قوله، فطلب أن يؤمنه حتى يقول الحق فأمنه. فقال له: «إن الذي حال بين الحق وأهله هو أنت يا أمير المؤمنين». قال المنصور: «ويحك! وكيف يدخلني الطمع والصفراء والبيضاء في قبضتي، والحلو والحامض عندي؟». فقال الرجل: «لأن الله تعالى استرعاك المسلمين وأموالهم، فجعلت بينك وبينهم حجابًا من الجص والآجر، وأبوابًا من الحديد وحجابًا معهم الأسلحة وأمرتهم ألا يدخل عليك إلا فلان وفلان، ولم تأمر بإيصال المظلوم والملهوف ولا الجائع والعاري ولا الضعيف والفقير، وما أحد إلا وله من هذا المال حق … إلخ».
فهذا وأمثاله نبه المنصور لجرأة العرب، فجعل يفكر في إذلالهم ويستنبط له الحيل، وكان للعرب ديوان خاص لهم فيه الرواتب على أنسابهم ومراتبهم، وفيهم اليمنية والمضرية. فلما فرغ المنصور من تأييد دولته بمقاتلة العلويين والخوارج وغيرهم، وقد بنى بغداد وحصنها وأنشأ فيها منازل الجند، نظر إلى من حوله منهم على الإجمال، فإذا هم ثلاث فرق كبرى: اليمنية والمضرية والخراسانية، فاتفق سنة ١٥١ﻫ أن بعض الجند شغبوا عليه وحاربوه على باب الذهب، وهو قصره في بغداد، فأوجس خيفة من تكرار ذلك؛ لعلمه أن دولته إنما قامت بالجند، فإذا اجتمعوا عليه أخرجوها من يده، وهو يعلم أيضًا أن لكل من هذه الفرق هوى مع بعض دعاة الخلافة العلويين أو غيرهم، فليس أهون عليهم من ردها إلى دولة جديدة.
وكان المهدي بن المنصور قد جاء من خراسان، فقدم عليه أهل بيته من الشام والكوفة والبصرة وغيرها، فهنأوه بمقدمه فأجازها وكساهم، وفعل المنصور بهم مثل ذلك، فقال قثم للمنصور: «قد بقي عليك بالتدبير بقية، وهي أن تعبر بابنك «المهدي» فتنزله في ذلك الجانب من بغداد، وتحول معه قطعة من جيشك، فيصير ذلك بلدًا وهذا بلدًا، فإن فسد عليك أولئك ضربتهم بهؤلاء، وإن فسد عليك هؤلاء ضربتهم بأولئك، وإن فسد عليك بعض القبائل ضربتهم بالقبائل الأخرى» فقبل رأيه واستقام ملكه، وبنى المهدي بلدًا سماه الرصافة — فاستعان المهدي في استبقاء دولته بسياسة التقسيم.
والربيع يتصل نسبه بكيسان مولى الحرث مولى عثمان بن عفان، فجده مولى مولى. ودخل الربيع في جملة موالي المنصور، فولاه حجابته ثم جعله وزيره، وكان المنصور شديد الميل إليه حسن الاعتماد عليه، فسأله يومًا عما يتمناه منه فقال: «أن تحب ابني الفضل». فقال المنصور: «كيف اخترت له المحبة دون كل شيء؟». فقال: «لأنك إذا أحببته كبر عندك صغير إحسانه وصغر عندك كبير إساءته». ومات الربيع في أيام الهادي سنة ١٧٠ﻫ. ولما تولى الرشيد الخلافة واستوزر البرامكة، سقط في يد الفضل بن الربيع لخروج الوزارة من يده، فرام التشبه بهم ومعارضتهم، ولم يكن له من القدرة ما يدرك به اللحاق بهم، فكان في نفسه منهم إحن وشحناء، فسعى بهم عند الرشيد، وكان سعيه من جملة أسباب نكبتهم.
(٥-٢) ذهاب عصبية العرب بذهاب دولة الأمين
(٥-٣) الشعوبية والعرب
وفي أيام المأمون ومن جاء بعده تظاهر الشعوبية بالطعن على العرب، وكان المأمون يقربهم ويجعلهم من بطانته ويجيزهم، ومنهم سهل بن هارون قيم بيت الحكمة، وكان شديد التعصب على العرب — وأبو عبيدة الراوية الشهير، وعلان الشعوبي. وألف الشعوبية الكتب في ذكر مثالب العرب والرد على القائلين بتفضيلهم على سواهم من الأمم.
وقام المتعصبون للعرب فألفوا الكتب في الرد على الشعوبية. ومن أشهر ما ألف في ذلك كتاب «تفضيل العرب» لابن قتيبة، وقد رد الشعوبية عليه في مناظرات يطول شرحها. وعلى أي حال فإن السياسة وطبيعة العمران قضت بذهاب دولة العرب.
(٦) نكبة الوزراء الفرس
(٦-١) الوزراء الفرس قبل البرامكة
قد رأيت أن الخلفاء العباسيين قربوا الموالي الفرس وولوهم المناصب الكبرى، فاتخذوا منهم الوزراء والعمال، فاعتز الفرس وتاقت نفوسهم إلى الاستبداد بالدولة والرجوع إلى ما كانوا فيه على عهد الأكاسرة. وهم يعلمون أن ذلك لا يتيسر لهم في إسلام إلا بصبغة دينية تحت راية الخلافة الإسلامية. وربما كان ذلك الأمل في جملة ما حملهم على التشيع لأهل البيت في أيام بني أمية ونصرتهم في طلب الخلافة.
فلما انتقلت البيعة من العلويين إلى العباسيين وبويع هؤلاء بالخلافة، ثم جعلها المنصور محصورة فيهم دون العلويين، وقاتل آل الحسن وقتلهم بعد أن قتل أبا مسلم وغيره من شيعته، لم ير الفرس بدًّا من الرضوخ لسلطانه خوفًا من بأسه. على أنهم ظلوا على مذهب الشيعة، وتربصوا يتوقعون فرصة يثبون فيها على الدولة أو ينشؤون لأنفسهم دولة شيعية.
وكان الخلفاء يلاحظون ذلك ويحاذرون الوقوع فيه، فيستخدمون الفرس في أكبر مصالح الدولة على حذر. فإذا رأوا من أحدهم ميلًا إلى التشيع عزلوه أو قتلوه؛ ولذلك كان الوزراء يكتمون تشيعهم، والخلفاء يبثون عليهم العيون في منازلهم، كما فعل المهدي بوزيره يعقوب بن داود، وأصله من موالي العرب، وكان في بادئ أمره كاتبًا عند إبراهيم بن عبد الله العلوي الحسني أخي محمد بن عبد الله الذي قام في المدينة وقتله المنصور. وكان يعقوب قد خرج مع محمد هذا على المنصور، ثم رجع في جملة الراجعين، وكتم ميله واتصل بالمهدي فاستخدمه وأحبه كثرًا ووثق به، حتى آخاه وأعلن ذلك في الدواوين، فقال سلم الخاسر في ذلك:
وأحرز يعقوب المذكور نفوذًا عظيمًا، حتى غلب على أمور المهدي وسهل له الإسراف والاشتغال عن مصالح الدولة، وتفرغ هو للعمل، والعرب لا يعجبهم ذلك، فجعلوا يعرضون به بالأشعار ونحوها، والمهدي يسمع أقوالهم ولا يبالي بها — روي أن المهدي حج مرة فمر بمكان عليه كتابة قرأها فإذا هي:
فقال المهدي لمن معه اكتبوا تحته: «على رغم أنف الكاتب لهذا وتعسًا لجده».
فلما لم يجد أعداؤه حيلة في تغيير قلب المهدي عليه تحولوا إلى الوشاية من جهة لا بد للخليفة أن يتنبه لها، فقالوا له: «إن يعقوب يميل إلى العلوية، وأنه كان معهم عند قيامهم على أبيه» فاشتغل خاطره، وكان يعقوب يكتم ذلك عنه، فأراد أن يمتحنه. فدعا به يومًا وهو في مجلس فرشه موردة وعليه ثياب موردة وعلى رأسه جارية جميلة، ثم أظهر المهدي أنه مسرور منه فأهداه المجلس بما فيه والجارية أيضًا، ثم تقدم إليه بمهمة طلب قضاءها — وهي أن رجلًا من العلوية يريد المهدي أن يتخلص منه، فأوصى يعقوب أن يقتله، فوعده بذلك بعد أن أقسم الإيمان. وذهب إلى منزله واستقدم ذلك العلوي وكلمه فرآه لبيبا، وتوسل الرجل إليه أن يحقن دمه، فحن له يعقوب وعفا عنه وأوصاه بالفرار وساعده بالمال. وكانت الجارية في بعض جوانب البيت تسمع ما جرى، فنقلت الحكاية كما جرت. فبعث المهدي حتى قبض على الرجل وخبأه، وأتى بيعقوب فاعترف له بما فعله فحبسه بالمطبق عدة سنين، ولم يخرج إلا في السنة السادسة من خلافة الرشيد، شفع له يحيي بن خالد البرمكي؛ لأنهما من طينة واحدة ومذهب واحد، وكان يعقوب قد عجز فخيره الرشيد في الإقامة حيث يشاء، فاختار مكة فسيروه إليها وتوفي فيها سنة ١٨٧ﻫ وهي السنة التي نكب فيها البرامكة.
(٧) الوزراء البرامكة
(٧-١) مرتبتهم في الدولة
ولما ترعرع هرون عهد المهدي إلى يحيى بتربيته، فشب الرشيد في حجره وكان يدعوه: «يا أبت»، فلما مات المهدي سنة ١٦٩ﻫ في جرجان كان أكبر رجال الدولة المقربين يومئذ يحيى بن خالد والربيع بن يونس. وخاف الرشيد اختلال الأمر إذا علم الناس بموت أبيه وهم في تلك الحال، فاستشار يحيى فأشار عليه برأي كان فيه الصواب، حتى رجعوا إلى بغداد وقد هاج الناس، وفيها الخيزران أم الهادي والرشيد، فبعثت إلى الربيع ويحيى لتشاورهما، فأجابها الربيع ولم يجبها يحيى، وأوصاه أن يقوم بأمر الرشيد كما كان في أيام أبيه ووبخ الربيع.
وأول شيء خطر للهادي بعد قبضه على أزمة الخلافة أن يخلع أخاه الرشيد من ولاية العهد، ويحول الإرث إلى ابنه لتبقى الخلافة في نسله، كما كان يفعل معظم الخلفاء في مثل هذه الحال. فأعلن الهادي عزمه لبعض خاصته فوافقوه، وخلعوا هرون وبايعوا جعفر بن الهادي، وتنقصوا من الرشيد في مجلس الجماعة. فأمر الهادي ألا يسار بين يديه بالحربة، على جاري العادة في المسير بين يدي ولي العهد، فاجتنبه الناس وتركوا السلام عليه، ورضي هو بذلك. ولكن يحيى لم يرض، بل حرضه على التمسك بحقه في ذلك، فوشى بعضهم إلى الهادي أن يحيى يفسد الرشيد عليه، فبعث الهادي إلى يحيى فقال له: «يا يحيى، ما لي ولك؟». قال: «ما يكون من العبد إلى مولاه إلا طاعته». فقال: «لم تدخل بيني وبين أخي وتفسده عليّ؟» فقال: «من أنا حتى أدخل بينكما؟ إنما صيرني المهدي معه، ثم أمرتني أنت بالقيام بأمره فانتهيت إلى أمرك». فطابت نفس الهادي بهذا القول. فاغتنم يحيى رضاءه وقال: «يا أمير المؤمنين إنك إن حملت الناس على نكث الإيمان هانت عليهم أيمانهم، وإن تركتهم على بيعة أخيك ثم بايعت لجعفر بعده كان ذلك أوكد للبيعة»، قال: «صدقت» وصرفه.
وتوفي الهادي ولم يملك إلا سنة، وأفضت الخلافة إلى الرشيد، ويحيى أول من بشره بها وأتاه بالخاتم وهو نائم، فعرف الرشيد فضله في ذلك وقال له: «يا أبت أنت أجلستني في هذا المجلس ببركتك ويمنك وحسن تدبيرك، وقد قلدتك الأمر». ودفع إليه خاتمه وجعل إصدار الأمور وإيرادها إليه. وكان يعظمه، فإذا ذكره قال: «أبي» وفي هذه الوزارة يقول الشاعر:
وخلف يحيى أولادًا أحسنهم الفضل في جوده ونزاهته، وجعفر في كتابته وفصاحة لسانه، ومحمد في بعد همته، وموسى في شجاعته وبأسه. وقد تولوا أرفع المناصب وتصرفوا في الدولة، وخصوصًا جعفر والفضل، فضلًا عما اشتهروا به من الجود والسخاء، وكان أبوهم يحيى جوادًا مثلهم، فاشتق الناس من اسمهم فعلًا للسخاء فقالوا: «تبرمك الرجل» أي: جاد وسخا.
ناهيك بما كان من إطلاق يده في خزائن الدولة وفي رقاب الناس. ومع ذلك فإن الرشيد حالما أوجس منه على سلطانه نكبه ونكب سائر أهله نكبتهم المشهورة، واختلف المؤرخون في سببها وهو ما نذكره.
(٨) نكبة البرامكة
(٨-١) الرشيد والشيعة
واشتهر بذلك حتى أصبح الشعراء يتقربون إليه بهجائهم، وكان شعراء العلويين يهجونه لهذا السبب، وهم لا يجسرون على الظهور في حياته. فلما مات ودفن في طوس، قال دعبل بن علي يعرض بما ارتكبه العباسيون جميعًا بقتل العلويين، من قصيدة مدح بها أهل البيت وهجا الرشيد، وأشار إلى اجتماع القبرين في طوس — قبر الرشيد وقبر الرضا — قال:
(٨-٢) الشيعة العلوية بخراسان
وكان الخراسانيون ومن والاهم من أهل طبرستان والديلم — قبل قيام العباسيين — من شيعة علي، وإنما بايعوا للعباسيين مجاراة لأبى مسلم أو خوفًا منه. فلما رأوا ما حل به من القتل غدرًا، غضبوا وتعاقدوا على الأخذ بثأره، ثم رأوا المنصور فتك بالراوندية إخوانهم وهم من أصحاب أبي مسلم، ثم بنى بغداد وتحصن فيها، فتربصوا وإذا هو قد حارب العلويين وبطش فيهم، وفر من بقي من ولد علي إلى أطراف المملكة الإسلامية في خراسان والمغرب، وأخذوا يبثون دعاتهم وينشرون دعوتهم سرًّا، فكان الخراسانيون من أقوى أنصارهم انتقامًا من المنصور، لقتله أبي مسلم وعملًا بتعاقدهم عليه.
فكان العباسيون إنما يخافون على دولتهم من خراسان؛ لأنها شيعة العلويين وأهلها أشداء ولهم رهبة في قلوب الناس، منذ نقلوا الخلافة من بني أمية إلى بني العباس. وكان داعية الشيعة هناك في أيام الرشيد يحيى أخا محمد بن عبد الله الذي حاربه المنصور وقتله. فظهر يحيى هذا في الديلم سنة ١٧٦ﻫ وقويت شوكته حتى خافه الرشيد، فسرح إليه الفضل بن يحيى، فاستنزله الفضل من بلاد الديلم بالحسنى، على أن يشترط ما أحب ويكتب له الرشيد بذلك خطه، فكتب له أمانًا أمضاه الرشيد وجلة بني هاشم، وجاء الفضل ومعه يحيى إلى بغداد، فوفى له الرشيد بكل ما أحب وأجرى له أرزاقًا سنية.
(٨-٣) الرشيد وجعفر
وكان حساد جعفر يراقبون حركاته، وخصوصًا الفضل بن الربيع؛ لأنه كان يرشح نفسه للوزارة بعد أبيه فسبقه إليها أولئك العجم، وكانت له عيون على جعفر فأخبروه بما فعله، فرفع الخبر إلى الرشيد فأنكره، ولكنه انتهر الفضل وأظهر أن جعفر إنما فعله بأمره. ثم بعث إلى جعفر فدعاه إلى الطعام معه، وجعل يلقمه ويحادثه ثم سأل عن يحيى فقال: «هو بحاله في الحبس» فقال: «بحياتي؟» ففطن جعفر فقال: «لا وحياتك …»، وقص عليه أمره وقال: «قد علمت أنه لا مكروه عنده»، فقال الرشيد: «نعم ما فعلت، ما عدوت ما في نفسي». وقد كظم غيظه وعزم على الإيقاع به من ذلك الحين، ولما قام جعفر عنه قال في نفسه: «قتلني الله إن لم أقتلك!» ولكنه مكث يترقب الفرص ويدبر الحيل، لما يعلمه من نفوذ البرامكة بما يبذلونه من الأموال للناس على اختلاف طبقاتهم، حتى بني هاشم أنفسهم.
وكان في جملة حساد البرامكة علي بن عيسى بن ماهان، فسعى بموسى بن يحيى أخي جعفر واتهمه في أمر خراسان، وأعلم الرشيد أنه يكاتبهم ليسير إليهم ويحرضهم على خلع الطاعة، فصدق الرشيد الوشاية فحبسه ثم أطلقه، ولكنه تغير على البرامكة جميعًا وظهر ذلك في بعض معاملاته. فكان يحيى بن خالد مثلًا يدخل على الرشيد بغير إذن، فعرض الرشيد في بعض حديثه استهجانه ذلك فكف يحيى عنه. وكان يحيى إذا دخل على الرشيد قام له الغلمان، فأوصى الرشيد مسرورًا خادمه ألا يقوموا له، فشعر يحيى بهذا التغير وتناقل الناس خبر ذلك، ولبثوا يتوقعون شرًّا يصيب البرامكة وليس من يجرؤ على إخبارهم به. على أنهم كانوا يعرضون في أثناء الغناء بما يخافون عليهم — ومن ذلك ما كان يغنيه ابن بكار أحيانًا:
وكان للرشيد عيون على البرامكة في منازلهم ودواوينهم، يحصون عليهم أنفاسهم فلا يخلو أن تبدر منهم بادرة تلميحًا أو تصريحًا، والوشاة يعظمونها له.
فلما كانت السنة التي نكبوا فيها (سنة ١٨٧ﻫ) كان الرشيد قادمًا من الحج وقد صمم على الفتك بجعفر، فأظهر رضاءه عنه وولاه كورة خراسان، أراد بذلك أن يطمئنه ليأخذ الخاتم منه بحجة الولاية، وخلع عليه وعقد له لواءً وعسكرًا بالنهروان، فضرب الناس مضاربهم هناك ومكثوا يتأهبون للسفر، وفيهم نخبة من أصحاب جعفر، وبقي هو ببغداد يتأهب للحاق بهم.
وكان له صديق من الهاشميين غيور عليه اسمه إسماعيل بن يحيى، قد علم ما في نفس الرشيد على جعفر وأهله، فأراد أن يتوسط في إصلاح ما بينهما، فجاء جعفر في أثناء تأهبه للخروج إلى خراسان، وخلا به وحادثه في شؤون شتى حتى تطرق إلى الموضوع الذي جاء من أجله، فقال له: «يا سيدي أنت عازم على الخروج إلى بلدة كثيرة الخير واسعة الأقطار عظيمة المملكة، فلو صيرت بعض ضياعك لولد أمير المؤمنين لكان أحظى لمنزلتك عنده». فلما سمع جعفر قوله غضب كان ما يجول في نفس الرشيد لم يخطر بباله وقال: «والله يا إسماعيل ما أكل الخبز ابن عمك إلا بفضلي، ولا قامت هذه الدولة إلا بنا. أما كفى أني تركته لا يهتم بشيء من أمر نفسه وولده وحاشيته ورعيته، وقد ملأت بيوت أمواله مالًا، وما زلت للأمور الجليلة أدبرها حتى يمد عينه إلى ما ادخرته واخترته لولدي وعقبي بعدي، وداخله حسد بني هاشم وبغيهم ودب فيه الطمع؟» والله لئن سألني شيئًا من ذلك ليكونن وبالًا عليه!» كأنه يهدده بذهاب خراسان. فلما سمع إسماعيل تهديده ورأى غضبه، خرج من عنده واحتجب عنه وعن الرشيد؛ لأنه صار متهمًا عندهما.
(٩) الأمين والمأمون أو العرب والفرس
فسار المأمون مع أبيه والفضل معهما، واهتم الفضل في أثناء الطريق بتأييد أمر المأمون، فأخذ له البيعة على كل من في عسكر الرشيد من القواد وغيرهم، وأقر له الرشيد وهو في طوس والأمين في بغداد، وله عيون مع الرشيد أشدهم غيرة عليه الفضل بن الربيع، وزير الرشيد بعد البرامكة. فلما بلغ الأمين اشتداد المرض على أبيه بعث إلى ابن الربيع وغيره يستحثهم على بيعته. فلما مات الرشيد هناك سنة ١٩٣ﻫ احتال ابن الربيع على من كان في ذلك العسكر، والمأمون غائب في مرو وحرضهم على اللحاق بالأمين، فأطاعوه رغبة منهم في الرجوع إلى أهلهم وأولادهم في بغداد، وأغفلوا العهود التي أخذت عليهم للمأمون، وحملوا ما كان في عسكر الرشيد إلى الأمين، وتمت البيعة له. ثم حسن الفضل بن الربيع للأمين أن يخلع أخاه المأمون من ولاية العهد، ففعل.
(٩-١) الفضل بن سهل وعلي الرضا
فلما بلغ المأمون موت أبيه، ورجوع رجاله إلى أخيه بالأموال والأحمال، وقد نكثوا عهده، خاف على نفسه فجمع خاصته بمرو وشاورهم في الأمر، وأظهر لهم ضعفه وأنه لا يقوى على أخيه، فنشطوه ووعدوه خيرًا. وقال له الفضل بن سهل: «أنت نازل في أخوالك وبيعتك في أعناقهم، اصبر وأنا أضمن لك الخلافة»، فاطمأن خاطر المأمون بهذا الوعد الصريح، وقال له: «قد صبرت وجعلت الأمر إليك فقم به» وسماه ذا الرياستين، أي: رياسة السيف ورياسة القلم.
فلما بلغ ذلك الخبر إلى بغداد ضج الهاشميون وأتباعهم، وأعظموا الأمر وامتنعوا عن البيعة لعلي المذكور، وقالوا: لا تخرج الخلافة من ولد العباس، وقد تحققوا أن تلك البيعة إنما هي دسيسة من الفضل بن سهل، فأنكروا ولاية أخيه الحسن بن سهل على بغداد. وأقروا أخيرًا على خلع المأمون وبيعة عمه إبراهيم بن المهدي، فبايعوه ولقبوه «المبارك»، وبعث الهاشميون إلى المأمون يهددونه بالقتل إذا بقي على عزمه.
(١٠) الأسرار في الدولة العباسية
(١١) اختلاط الأنساب بعد الإسلام
قد رأيت ما كان للعرب من العناية في حفظ أنسابهم حتى كانوا يحتقرون من لم يكن مولودًا من أبوين عربيين، فإذا كان أبوه غير عربي سموه المذرع، وإن كانت أمه أعجمية سموه الهجين. وإذا كانت أمه أمة استعبدوه، فإذا أنجب اعترفوا به، وإلا ظل عبدًا، والعرب لا تورث الهجين، وهو من قبيل احتقارهم غير العرب كما تقدم.
(١١-١) أبناء الإماء
على أن بني أمية ظلوا يحتقرون أبناء الإماء، تعصبًا للعرب على العجم، فبلغ عبد الملك يومًا أن علي بن الحسن تزوج جارية له وأعتقها، فكتب إليه يؤنبه فأجابه علي: «إن الله رفع بالإسلام الخسيسة وأتم النقيصة وأكرم به من اللؤم، فلا عار على مسلم، وهذا رسول الله ﷺ قد تزوج أمته وامرأة عبده»، فلما تلا عبد الملك جوابه قال: «إن علي بن الحسين يشرف من حيث يتضع الناس». على أن العرب أصبحوا بعد الإسلام يرفعون من شأن الهجناء، اعتمادًا على أن النسب ليس من قبيل الأم، وإنما النسب للآباء عملًا بقول الشاعر:
وكان العرب في صدر الإسلام بهذا الاعتبار طائفتين، فيهم من يحقر أبناء الإماء وفيهم من لا يجعل لنسب الأم قيمة — ذكروا أن عبد الملك بن مروان سابق ولديه سليمان ومسلمة، فسبق سليمان فقال عبد الملك:
وهاك ما قاله حاتم الطائي:
(١١-٢) الخلفاء الهجناء
أما بنو العباس فقامت دولتهم بالموالي، وقد ضعفت في أيامهم العصبية العربية لكثرة الاختلاط، فأصبحوا لا يعتدون بالأم على الإطلاق، وكان أكثر خلفائهم من بني الإماء من إبراهيم الإمام فما بعده، وفيهم الإماء من الفرس والترك والروم والأكراد والبربر والأحباش والزنج وغيرهم، وإليك أسماء بعض خلفاء بني العباس من أبناء الإماء:
اسم الخليفة | جنس أمه | اسم الخليفة | جنس أمه |
---|---|---|---|
إبراهيم الإمام | بربرية | المأمون | فارسية |
المنصور | بربرية | المنتصر بالله | حبشية رومية |
الرشيد | حرشية | المستعين بالله | صقلية |
إبراهيم بن المهدي | زنجية | المعتز | جارية؟ |
المهتدي | رومية | المستضيء | أرمنية |
المقتدر | تركية | الناصر | تركية |
المكتفي | تركية |
وقس على ذلك الخلفاء من الدول الأخرى. فإن المستنصر بالله الفاطمي أمه أمة سودانية، وعبد الرحمن الداخل الأموي أمه بربرية. ناهيك بأبناء الخلفاء الذين لم يتولوا الخلافة حتى في صدر الإسلام، فإن محمد بن الحنفية أمه جارية سندية سوداء.
فإذا كان هذا حال اختلاط النسب في الخلفاء، فكيف في سائر طبقات الناس؟ فالنسب العربي لم يكن خالصًا إلا في الجاهلية وصدر الإسلام إلى أواسط الدولة الأموية، وظل بعد ذلك محفوظًا من حيث الآباء فقط، أما من حيث الأمهات فإنه اختلط اختلاطًا عظيمًا. ونحن نعلم الآن أن الولد يرث من أمه كما يرث من أبيه، وربما كان من حيث الأخلاق أقرب إلى أمه مما إلى أبيه. فالعرب بعد القرن الثاني للهجرة قل فيهم الدم العربي الخالص، إلا في البادية أو حيث لم يكثر اختلاطهم بالأعاجم. فضلًا عما أثر فيهم من طبائع الأقاليم التي نزلوها وعادات أهلها.
فالعرب الحضر في القرن الثالث للهجرة هم غير العرب في صدر الإسلام، فكيف في حضر هذه الأيام وقد توالى فيهم الاختلاط والتزاوج؟ ناهيك بمن يتعرب وينتسب إلى البلاد، فأهل الشام ومصر والعراق والمغرب مثلًا يعدون من العرب، وهم في الحقيقة أخلاط من العرب والترك والديلم والجركس والروم والفرس والأرمن والكرج وغيرهم، ولكن الرجل إذا نزل بعض هذه البلاد عد في بادئ الرأي غريبًا، فإذا قطنها وتناسل فيها كان أولاده مولدين، فإذا توالت عليهم الأجيال سموًّا عربًا.