الدول الكردية في ظل العباسيين
(١) الدول الصغرى
الأكراد قوم أشداء وأكثرهم أهل بادية وخشونة وجفاء، يقيمون في الخيام وينقسمون إلى قبائل وعشائر وبطون، وهم أقل قبولًا للحضارة من الفرس والترك وغيرهما من الأمم الشرقية التي دانت للإسلام في إبان التمدن الإسلامي، وقد ظلوا أهل ظعن ورحلة في معظم ذلك التمدن. وكانت الدولة تستعين بهم في الحروب البدوية الشبيهة بالغزو كما كانت تستعين بالأعراب، ومقامهم على الأكثر في كردستان وأرمينيا وجزيرة العراق كالموصل وديار بكر، ولا يزال سوادهم هناك إلى الآن.
ونظرًا لتمسكهم بالبداوة والخشونة لم تستخدمهم الدولة العباسية في أعمالها إلا قليلًا، فلم ينبغ فيهم أحد من رجال الإمارة المستقلة أو أهل السياسة والتدبير إلا بعد دهر طويل من عهد ذلك التمدن. وأول من أنشأ دولة كردية مستقلة في الإسلام حسنويه بن حسين البرزكاني، زعيم بعض قبائل الأكراد في كردستان، في أواسط القرن الرابع للهجرة، وامتدت سلطته على معظم تلك المملكة وفيها ديناور (أو الدينور) وهمذان ونهاوند وسرماج وغيرها. وقد اعترف خليفة بغداد بسلطانه ولقب ابنه بعده بناصر الدولة. ولم يطل عمرها كثيرًا فحكمت من سنة ٣٤٨–٤٠٦ﻫ ثم استقل من الأكراد أبو علي بن مروان في ديار بكر سنة ٣٨٠ﻫ، وامتدت سلطته على آمد وآرزان وميافرقين، وبايع خلفه للفاطميين حينًا من الزمن وذهبت دولته سنة ٤٨٩ﻫ.
(٢) الدولة الأيوبية
على أن الأكراد لم يكن لهم شأن يذكر في الإسلام إلا على عهد الدولة الأيوبية من سنة ٥٦٤–٦٤٨، ومؤسسها السلطان صلاح الدين الأيوبي. وهو من أعظم رجال الإسلام تعقلًا وسياسةً وبسالةً وتدبيرًا، أنشأ دولته على أنقاض الدولة الفاطمية بمصر وبايع فيها للعباسيين، وحارب الصليبيين وردهم عن سوريا وأنقذ بيت المقدس من أيديهم، ومآثره أشهر من أن تذكر. وارتفع شأن الأكراد في أيام دولته، وتولوا الإمارات والولايات في مصر والشام وكردستان واليمن وخراسان، ولما مات اقتسم مملكته إخوته وأولاده وأولاد إخوته؛ ولذلك لم يطل حكمها. فغلبهم على معظمها مماليكهم الأتراك، كما غلب الأتابكة ملوكهم السلاجقة قبلهم، فكان للمماليك بمصر دولتان تعرفان بالسلاطين المماليك كما سيجيء.
ومما يحسن التنبيه إليه في هذا المقام أن الإسلام قد أثر في أمم المشرق تأثيرًا خاصًّا وساقها إلى التمدن تدريجًا، فتسابقت إلى إنشاء الدول وتأسيس الممالك باعتبار أسبقيتها في الإسلام، وقربها من العالم الإسلامي. فأول من أسلم من تلك الأمم العرب وأسسوا الدولة الإسلامية العربية، فاحتك بهم أولًا الفرس وهم أقرب أمم المشرق إلى جزيرة العرب فكانوا أسبق الأعاجم إلى إنشاء الدول. ثم جاء الأتراك من وراء بلاد فارس، فلما انتشر الإسلام بينهم أسسوا الدول ونظموا الحكومات. ثم ظهر الأكراد وهم أقرب من الأتراك إلى العالم الاسمي يومئذ، لكنهم تمدنوا بعدهم؛ لأن الأتراك أقرب منهم إلى سياسة الدول. وامتد الإسلام في تركستان وما وراءها من بلاد التتر أو المغول فنهض هؤلاء وأغاروا على بلاد الإسلام للنهب والقتل، لكنهم ما كادوا يحتكون بالعالم الإسلامي حتى أخلدوا إلى النظام وأنشأوا الدول. ويقال نحو ذلك عن تأثير الإسلام في المغرب، خصوصًا قبائل البربر في شمالي أفريقيا كما تقدم.