الخلافة والسلطة أو الدين والسياسة
لما ظهر الإسلام كان النبي رئيس المسلمين في أمور الدنيا والدين، وهو حاكمهم وقاضيهم
وصاحب شريعتهم وإمامهم وقائدهم. وكان إذا ولى أحد أصحابه بعض الأطراف خوله السلطتين
السياسية والدينية، وأوصاه أن يحكم بالعدل وأن يعلم الناس القرآن. ولكنه ما لبث أن فصل
بين المنصبين فيمن كان يوليهم أمور الرعية، فبعث في السنة الثالثة للهجرة أبا زيد
الأنصاري وعمرو بن العاص ومعهما كتاب منه يدعو الناس إلى الإسلام، وقال لهما: «إن أجاب
القوم إلى شهادة الحق وأطاعوا الله ورسوله، فعمرو الأمير وأبو زيد على الصلاة وأخذ
الإسلام على الناس وتعليمهم القرآن والسنن».
على أن ذلك لم يكن قاعدة عامة؛ لأن الأمير كثيرًا ما كان يتولى الخراج والحرب والصلاة
معًا، كما تولاها يزيد بن المهلب في العراق من قبل سليمان بن عبد الملك
١ ويقال بالإجمال: إن مصالح الدولة الإسلامية بعد أن كانت محصورة في النبي
ﷺ سياسيًّا ودينيًّا تفرعت في أيام الخلفاء إلى عشرات من المناصب، إلا الخلافة
فإنها ما زالت حتى الآن (حوالي سنة ١٩١٠) تشمل الرياسة في أمور الدين والدنيا.
والخلافة في الأصل منصب ديني تولاه الخلفاء الراشدون؛ لإتمام العمل الذي بدأ به النبي
ﷺ، وهو نشر الإسلام والجهاد في سبيله، وكانوا يتولون أمور المسلمين السياسية
أيضًا لما يقتضيه الجهاد من الحرب وأسبابها، كإدارة الجند وتنظيمه لحماية البلاد، ويدخل
في ذلك ولاية الأعمال وجباية الخراج. على أنهم كانوا يفعلون ذلك بصفة دينية، أي: أن كل
ما يعملونه فإلى الدين ينتهي الغرض منه، فكانوا يجندون الرجال ويفتحون البلاد في سبيل
الدين. فلما انتشر الإسلام وتوطدت دعائمه وذهبت الحاجة إلى الجهاد، جاز للرياسة الدينية
أن تستقل عن السيادة السياسية، أو تنقسم الرياسة إلى الخلافة والسلطة، كما حدث في
النصرانية وغيرها.
ولكن الارتباط بين الدين والسياسة في الإسلام يختلف عما في النصرانية؛ لأن النصرانية
انتشرت أولًا في عامة الناس ثم انتقلت إلى رجال الدولة. وأما الإسلام فإنه ظهر أولًا
في
رجال الدولة، وانتقل منهم إلى العامة؛ لأن أقدم أهل الإسلام الصحابة وهم جند المسلمين
وأمراؤهم، نشروا الإسلام في الأرض وجاهدوا في سبيل نصرته بأنفسهم. فلما تأيد الدين
وقامت دولة المسلمين ورغب الأمراء في السلطة الدنيوية، كان منصب الخلافة من أكبر أسباب
تغلبهم، لتأثير الدين على أذهان الناس في تلك الأيام، فقد كانوا لا يجتمعون إلا تحت
رايته وخصوصًا في الشرق، ولا يزالون على ذلك حتى الآن.
على أن أهل التقوى من المسلمين كانوا يجعلون حدًّا فاصلًا بين الخلافة والسلطة، فلما
طلب معاوية السيادة كما يطلبها أهل المطامع بالدهاء والقوة، خالفوه وأبوا مبابعته، فلما
قتل علي وتنازل الحسن عن الخلافة لمعاوية، لم ير المسلمون بدًّا من مبايعته على الطاعة
كما يبايعون الملوك، لكنهم استنكفوا من أن يسموه «خليفة» أو يعترفوا له بسلطة دينية
فسموه «ملكًا»، وهو يأبى إلا أن يجمع الرياستين لعلمه أن الرياسة الدنيوية وحدها لا
تفيد شيئًا — ذكروا أن سعد بن أبي وقاص دخل على معاوية بعد أن استقر الأمر له وقال:
«السلام عليك أيها الملك» فضحك معاوية وقال: «ما عليك لو قلت: يا أمير المؤمنين؟».
فقال: «تقولها جذلان ضاحكًا؟ والله ما أحب أني وليتها بما وليتها به».
فيظهر من ذلك أنهم كانوا ينزهون الخلافة عن السياسة والدهاء، ويعتقدون أن بني أمية
نقلوا الإسلام من الدين إلى العصبية والسيف ثم إلى الملك البحت.
(١) الخلافة لأزمة للسلطة المطلقة
وفي اعتقادنا أن الحكم المطلق لا يتأيد ويتسع نطاقه ويطول مكثه إلا بالدين أو ما
يقوم مقامه. فما من دولة مطلقة طال حكمها واتسعت مملكتها إلا وفي سلطتها صبغة دينية
تحميها من طمع الطامعين، بأن تجعل لملوكها مزية على سائر الناس. وإذا أريد فصل
الدين عن السياسة فلا بد من تقييد الحكومة بالشورى، وهي أفضل الحكومات وأطولها
عمرًا، وإلا فإنها تنحل سريعًا، ويكفي لانحلالها أن يتولى شؤونها ملك قليل التدبير
ناقص الاختيار فيغتصب ملكه بعض وزرائه أو قواده. وإذا تدبرت تاريخ الدول الإسلامية
رأيت للسلطة الدينية تأثيرًا كبيرًا في طول بقائها واتساع نطاقها — اعتبر ذلك في
الدول التي نشأت في أثناء التمدن الإسلامي من الفرس والترك والكرد والجركس،
كالبويهيين والسلاجقة والأيوبيين وغيرهم من الدول الضخمة، فإن بين ملوكها جماعة من
دهاة الرجال وقهارمة السياسة، ولم تطل أعمارها رغم استقوائها بالخلافة العباسية.
وانظر إلى الدول العربية التي جمعت بين الخلافة والسلطة، كالعباسيين والفاطميين
والأمويين في الأندلس، مع ما طرأ عليها من أسباب السقوط، فقد صبرت وطال جهادها.
وإذا نظرت إلى الدول الأعجمية رأيت أطولها عمرًا وأوسعها ملكًا الدولة التي جمعت
بين السلطتين وهي الدولة العثمانية. وبنو أمية في الشام لو لم يتخذوا لقب الخلافة
ويقبضوا على أزمة الرياسة الدينية ما استطاعوا إلى الحكم سبيلًا، فإنهم إنما حكموا
الناس وأيدوا سلطتهم بما في الخلافة من الصبغة الدينية، وتوفقوا إلى أعوان عرفوا أن
العامة لا تحكم بمثل الدين، فجعلوا همهم تعظيم الخلافة حتى جعلوها فوق النبوة،
وسموا الخليفة «خليفة الله» وقالوا: «خليفة الرجل في أهله أفضل من رسوله في حاجته».
كما تقدم — والعلماء ينكرون ذلك ولا يصدقونه، وأما العامة فكانوا يساقون إلى الطاعة
بالإرهاب، رغم ما كان يعتور صحة خلافة بني أمية من الشكوك.
فلما أفضت الخلافة إلى بني العباس، وهم من بني هاشم ومن أولى الناس بالخلافة، كان
المسلمون أطوع لهم مما لبني أمية، واعتقدوا أن خلافتهم تبقى أبد الدهر حتى يأتي
السيد المسيح
٢ وغرس في أذهان الناس بتوالي الأزمات أن الخليفة العباسي إذا قتل اختل
نظام العالم، واحتجبت الشمس وامتنع القطر وجف النبات.
٣
وكان الخلفاء لا يأنفون من ذلك التفخيم، حتى الرشيد مع تعقله وانتشار العلم في
عصره، فقد ذكروا أنه كان يحتمل أن يمدح بما يمدح به الأنبياء، فلا ينكر ذلك ولا
يرده، حتى قال فيه بعض الشعراء: «فكأنه بعد الرسول رسول»
٤ فكيف يكون حال الخلفاء في عصر الاضمحلال، إذ يقوم الوهم مقام الحقيقة
ويكثر المتزلفون والمتملقون ويكتفي أولو الأمر بالكلام دون الأعمال؟
وإذا شاخت الدولة تمسك أهلها بالعرض وتركوا الجوهر، فلا غرو إذا سموا الخليفة في
أيام المتوكل «ظل الله الممدود بينه وبين خلقه»،
٥ أو قالوا قول ابن هانئ للمعز الفاطمي:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار
فاحكم فأنت الواحد القهار
٦
(١-١) الخلفاء والفقهاء
ويدل ذلك على ما كان للخلافة من المنزلة المقدسة عند عامة الناس، والأصل في
هذا التقديس إنما هو الدين، وتعظيم الخلافة فرع منه؛ ولذلك كان بين الخلفاء
الأوليين وعلماء الدين الإسلامي، كالحفَّاظ والمحدثين والفقهاء، علاقة متبادلة
وكل منهم يتقوى بالآخر — ومعنى ذلك أن الخليفة هو صاحب السيادة الدينية والسلطة
الدنيوية، فهو أمير الناس في السِّلم، وقائدهم في الحرب، وإمامهم في الصلاة،
وهو قاضيهم وفقيههم كما كان النبي ﷺ في أول الإسلام. فلما اتسعت الفتوح
ومست الحاجة إلى تقسيم الأعمال بمقتضى سنة العمران، عمد الخليفة إلى إنابة من
يتولى تلك الأعمال عنه. فالوالي إنما هو نائب الخليفة في العمل الذي يتولاه،
والقاضي نائبه في القضاء، وقائد الجند يتولى قيادته بالنيابة عن الخليفة. وقس
على ذلك سائر المناصب الإدارية والسياسية والقضائية، وكذلك في المهن الدينية،
فالقراء والمفسرون والمحدثون والفقهاء يتولون أعماله بالنيابة عن الخليفة. فكما
يحتاج الخليفة إلى نصرة العمال والقواد والقضاة في تأييد سلطته الدنيوية، فهو
يفتقر أيضًا إلى نصرة الفقهاء والعلماء لتأييد سيادته الدينية؛ ولذلك رأيت
الخلفاء يقربون أهل العلم ولا سيما في أوائل الإسلام (وهم يومئذ الحفاظ أو
القراء)، وكان إليهم المرجع في حل المشكلات الدينية أو القضائية أو الفقهية،
وهي أساس الأحكام السياسية في الدولة الإسلامية؛ ونظرًا لتمسك العامة بالدين
على الإجمال كان للفقهاء تأثير شديد في الدولة، فلا قطع الناس بأمر هام إلا
باستفتائهم حتى في تنصيب الخلفاء، فإذا أنكر الفقهاء بيعة أحدهم أنكرها الناس؛
ولذلك كان الخلفاء يجلون العلماء ويقربونهم ويعولون على مشورتهم في عصر
الراشدين والدولة على سذاجتها لم يلابسها غش ولا دهاء، فإذا نهوا الخليفة أو
الأمير عن عمل انتهى وأخذ بنصيحتهم.
فلما طمع بنو أمية في الخلافة والتمسوها من طريق الدهاء والبطش، كان في جملة
ما أهملوه من قواعد الراشدين الأخذ بأقوال أهل العلم؛ لأنهم لو أطاعوهم ما تيسر
لهم الملك. فقاسى العلماء في أوائل دولة الأمويين عذابًا شديدًا من المقاومة
والضغط، فاضطر بعضهم للإفتاء بما يرضي أهل الدولة وأبى البعض الآخر إلا الحق،
فاضطهدوهم وضيقوا عليهم — بدءوا بذلك من أيام عثمان والعمال يومئذ من بني أمية،
وقد أخذوا يمهدون السبيل لسلطانهم بجمع الأموال والاستئثار بالنفوذ. وفي حكاية
أبي ذر الغفاري مع معاوية بن أبي سفيان دليل ناطق على ما كان من جرأة أهل العلم
على الخلفاء وإنكار الأمويين ذلك. وقد فصلناها في الجزء الثاني من هذا
الكتاب.
فلما استتب الأمر لبني أمية حبست الأفكار وتقيدت الألسنة، ولم يتقدم من
العلماء في مناصب الدولة إلا المتملقون. وبعد أن كان الخليفة لا يعمل عملًا إلا
بمشورة فقهاء المدينة، أغفل بنو أمية المدينة وفقهاءها إلا عمر بن عبد العزيز،
فإنه عاد إلى مشورتهم. فظل الأحرار من الفقهاء في زوايا الإهمال معظم أيام بني
أمية. فلما تسلط العباسيون وأظهروا أنهم يريدون إحياء السنة وتقويم ما اعوج من
سبل الدين في عهد الأمويين، ظهر أهل الأفكار المستقلة من الفقهاء والعلماء
والزهاد، وقربهم الخلفاء وأكرموهم فعادوا إلى جرأتهم في خطاب من يأنسون منه
إصغاء، كما فعل ذلك الرجل بالمنصور وهو يطوف — وقد أشرنا إليها أيضًا في الجزء
الثاني من هذا الكتاب — وكما فعل سفيان الثوري لما استدعاه الرشيد إلى بغداد
ليكرمه ويقربه، فكتب إليه سفيان كتابًا قال فيه: «أما بعد، فإني كتبت إليك
أعلمك أني صرمت حبلك وقطعت ودك، وإنك قد جعلتني شاهدًا عليك بإقرارك على نفسك
في كتابك أنك هجمت على بيت مال المسلمين، فأنفقته في غير حقه وأنفذته في غير
حكمه. ولم ترض بما فعلته وأنت ناء عن حتى كتبت إلي تشهدني على نفسك. فأما أنا
فإني قد شهدت عليك أنا وإخواني الذين حضروا كتابك وسنؤدي الشهادة غدًا بين يدي
الله الحكم العدل. يا هرون! هجمت على بيت مال المسلمين بغير رضاهم … هل رضي
بفعلك المؤلفة قلوبهم والعاملون عليها في أرض الله والمجاهدون في سبيل الله
وابن السبيل …؟ أم رضي بذلك حملة القرآن وأهل العلم (يعني العاملين)؟ أم رضي
بفعلك الأيتام والأرامل، أم رضي بذلك خلق من رعيتك؟».
٧
ودخل سفيان المذكور على المهدي مرة ولم يسلم بالإمارة، فلم يغضب عليه المهدي
بل استعطفه
٨ وكان أكثر الخلفاء الأولين من بني العباس إذا لقوا فقيهًا أو
زاهدًا طلبوا إليه أن يعظهم، فإذا وعظهم بكوا حتى تخضل لحاهم. وأشهر المتعظين
من الخلفاء المنصور والرشيد والمعتصم والواثق، ولهم حكايات مشهورة.
فالفقهاء واسطة السيادة الدينية بين الخليفة والعامة، مثل توسط الأمراء
والقواد في تأييد السيادة الدنيوية، وقد يغني الفقهاء عن الواسطتين جميعًا؛ لأن
عامة المسلمين ينقادون إلى فقهائهم ويستسلمون إليهم كما ينقاد عامة النصارى إلى
كهنتهم. فالخلفاء العباسيون كانوا يحتاجون إلى الفقهاء للاستعانة بهم على إخضاع
العامة وامتلاك قلوبهم، وكذلك كان يفعل السلاطين والأمراء لنفس هذا السبب أو
لسبب آخر. والنفع متبادل بين الفئتين؛ لأن الفقهاء كانوا يكتسبون بتقربهم من
الخلفاء مالًا وجاهًا، ولكن ما يكتسبه الخلفاء منهم أعظم وأبقى. فرسخ احترام
الفقهاء في قلوب العامة وتمسكوا بهم وعظموهم باسم الدين.
وكان الخلفاء يذعنون للعامة باسم الدين أيضًا. حتى إنهم كثيرًا ما كانوا
يضطرون إلى مسايرة بعض الناس في بعض اعتقاداتهم الدينية، ولو كان ذلك الاعتقاد
مخالفًا لما في نفوسهم أو مناقضًا للواقع، كما فعل المهدي إذ جاءه رجل بنعل زعم
أنها نعل النبي
ﷺ، فقبلها المهدي منه وأجازه عليها مع اعتقاده كذبه،
وإنما خاف إن كذبه أن يحمل العامة قوله على الفتور في الدين.
٩
ولم يكن للخلفاء بد من إظهار التقوى والقيام بالفروض الدينية؛ لئلا يفسد
عليهم العامة ويحتقروا سلطانهم ولو كان الخليفة لا يعتقد ذلك. ذكروا أن الوليد
بن يزيد الأموي مع اشتهاره بالخلاعة والتهتك، كان إذا حضرت الصلاة يطرح ما عليه
من الثياب المصبغة والمطيبة، ثم يتوضأ فيحسن الوضوء ويؤتى بثياب بيض نظاف من
ثياب الخلافة، فيصلي فيها أحسن الصلاة بأحسن قراءة وأحسن سكوت وسكون وركوع
وسجود، فإذا فرغ عاد إلى تلك الثياب.
١٠
(١-٢) الدول الإسلامية والخلافة
فلهذا السبب كان الأمراء الذين يستقلون عن الدولة العباسية بالإدارة والسياسة
لضعف الخليفة عن حربهم لا يستطيعون الاستقلال عنه بالدين، إذ لا يستغنون عن
بيعته لتثبيت سلطانهم. فإذا أراد أحدهم الاستقلال بولاية أو فتح بلد أو إنشاء
إمارة لنفسه، بعث إلى الخليفة في بغداد يبايعه ويطلب منه أن يعطيه تقليدًا أو
عهدًا بولاية ذلك البلد، أو أن يلقبه ويخلع عليه، وإذا أبى الخليفة أن يجيبه
غضب وعد ذلك تحقيرًا له، وقد يجرد عليه الجند ليكرهه على تثبيته.
فالإمارات أو الممالك التي استقلت عن الدولة العباسية، في فارس وخراسان
وتركستان وما بين النهرين والشام ومصر وبلاد المغرب وغيرها، قبل قيام الدولة
الفاطمية، كان أصحابها يخطبون لخليفة بغداد ويبعثون إليه بمال معين في العام،
مع أنهم في أمن من سطوته، وإنما يريدون أن يرضى العامة عن سلطانهم.
وكذلك كان شأن الأجناد الأتراك وأمرائهم، فقد كانوا مع استبدادهم بخلفاء
بغداد قتلًا وخلعًا لا يجسرون على استبقاء منصب الخلافة خاليًا يومًا واحدًا،
لاعتقادهم أنه بدون الخليفة لا تستصلح العامة. حتى الملوك أو السلاطين الذين
تسلطوا على بغداد وقبضوا على كل شيء فيها وأصبح الخليفة آل في أيديهم، مثل آل
بويه وآل سلجوق، فقد كانوا يحاربون الخليفة ويجردون عليه الجيوش، حتى إذا ظفروا
به وغلبوه بايعوه وأكرموه ورفعوا مقامه وتبركوا به. فعضد الدولة البويهي ملك
بغداد واستبد بها، وهو شيعي على غير مذهب الخليفة. وكان يغالي في التشيع ويعتقد
أن العباسيين غصبوا الخلافة من مستحقيها، فلم يكن ثمة باعث ديني يدعوه إلى طاعة
خليفة بغداد، ومع ذلك فإنه بايعه وعظم شأنه، وأعاد من أمر الخلافة ما قد نسي،
وأمر بعمارة دار الخلافة والإكثار من الآلات، وعمارة ما يتعلق بالخليفة وبطانته
وأكرمه غاية الإكرام.
١١
وكان الخلفاء من الجهة الأخرى يعرفون حاجة الأمراء المسلمين إلى رضاهم، فإذا
ساءهم أحد منهم هددوه بالخروج من بغداد، فيضطر إلى استرضائهم؛ لأن خروجهم بغضب العامة
١٢ويجرئهم على خلع الطاعة، لتقديسهم شخص الخليفة وتنزيهه عن الخطأ —
ولذلك لم يكن من سبيل إلى نزع سلطته أو الاعتراض عليها إلا من وجه ديني، فكان
الذين يقومون على الخلفاء يجعلون سلاحهم الدين، فيلبسون الصوف ويدعون إلى
المعروف أو يعلقون في أعناقهم المصاحف
١٣ أو نحو ذلك مما يحرك عواطف العامة. وإذا أراد أحد الخلفاء أن يصلح
ما بينه وبين العامة أصلحه بالتقوى. فلما ضمن الفضل بن سهل الخلافة للمأمون
أوصاه بإظهار الورع والدين؛ ليستميل القواد
١٤ ولما رأى أبو مسلم الخراساني أهل اليمن في مكة قال: «أي جند هؤلاء
لو لقيهم رجل ظريف اللسان غزير الدمعة» يريد تحريك عواطفهم الدينية بالوعظ
والبكاء. فلم يكن للممالك الإسلامية بد من خليفة تبايعه ليثبت ملكها. وقد يستاء
بعض الأمراء المستقلين من خليفة بغداد فيكظم ولا يخلع بيعته إلا إذا رأى خليفة
آخر يبايعه. فلما قامت الدولة الفاطمية بالمغرب ومصر خلعت كثير من البلاد بيعة
خليفة بغداد وبايعت للفاطميين في القاهرة. ولما تغلب السلطان صلاح الدين
الأيوبي على مصر، وذهبت الدولة الفاطمية منها، فأول شيء فعله أنه خطب بجامع
القاهرة للخليفة العباسي في بغداد، وطلب المنشور منه والخلع عليه. وكانت
الخلافة العباسية في غاية الاضمحلال والضعف، وهو في غنى عن بيعتها، ولكنه علم
أنه إذا لم يبايع الخليفة فلا يرضى عنه الناس.
وكذلك فعل السلاطين المماليك الذين ملكوا مصر بعد الدولة الأيوبية، فإنهم
بايعوا للعباسيين وكانت الخلع تأتيهم من بغداد إلى القاهرة بتثبيت سلطتهم. فلما
سطا التتر على بغداد وفتحوها سنة ٦٥٦ﻫ، وقتلوا الخليفة العباسي المستعصم بالله
توقف شأن الخلافة، فاضطربت أحوال مصر وبذل سلاطينها جهدهم في إيجاد خليفة يبايعونه،
١٥ ولو أعوزهم خليفة ولم يجدوه ربما اختلقوا واحدًا ليحكموا العامة به
١٦ على أنهم ما زالوا يبحثون عن بقية الخلفاء العباسيين الذين كانوا
في بغداد، حتى ظفروا بالهاربين منهم فاستقدموهم إلى القاهرة، وفرضوا لهم
الرواتب واحتفلوا بها احتفالًا عظيمًا، وبالغوا في احترامهم وإكرامهم
١٧ مع علمهم أن أولئك الخلفاء لا يغنون عنهم شيئًا، ولكنهم خافوا
اختلال دولتهم بدونهم. وظل ملوك الهند وغيرهم من ملوك الإسلام بالأطراف البعيدة
يبايعون للخليفة العباسي بالقاهرة، ويطلبون التقليد منه أو المنشور لإثبات
سلطتهم على يد السلاطين المماليك،
١٨ فما الذي بعث أولئك الملوك على طلب التقليد من خليفة لا ينفع ولا
يشفع لولا ما يتوقعونه من أثر ذلك في أذهان العامة؟ ولا ننكر أن بعضهم كان يطلب
بيعة الخليفة تدينا، ولكن الكثيرين كانوا يطلبونها لاستصلاح العامة بها.
(١-٣) الخلافة في غير قريش
ومما يستحق النظر والاعتبار أن ملوك المسلمين غير العرب، على اختلاف مواطنهم
وأجناسهم ولغاتهم ودولهم، من الفرس والأتراك والأكراد والبربر والجركس وغيرهم،
مع ما بلغوا إليه من سعة الملك وعز السلطان، ومع حاجتهم إلى السيادة الدينية
لتستقيم دولتهم وتجتمع الرعية على طاعتهم، لم يخطر لأحد منهم أن يطلب الخلافة
لنفسه قبل انتقال الإسلام إلى طوره الثاني، بعد تضعضعه بفتوح المغول، ولا
ادعاها أحد من العرب غير قريش. وأول سلطان غير عربي بويع بالخلافة السلطان سليم
العثماني.
على أن الذين قويت شوكتهم في عهد ذلك التمدن، من الأمراء المسلمين أو القواد
غير العرب، كانوا إذا طمعوا في السيادة الدينية أو الخلافة انتحلوا لأنفسهم
نسبًا في قريش، كما فعل أبو مسلم الخراساني لما رأى من نفسه القوة على إنشاء
الدولة، وربما طمع في الخلافة فانتحل لنفسه نسبًا في بني العباس، فقال: إنه ابن
سليط بن عبد الله بن عباس.
١٩
وأما الملوك أو السلاطين الأعاجم فلما ضخمت دولهم في أواخر العصر العباسي،
ورأوا اضمحلال الخلافة وتقهقرها تمنوا الاستغناء عنها، ولكنهم لم يروا سبيلًا
إلى ذلك إلا أن يستبدلوها بخلافة أخرى. على أن بعضهم طمع في النفوذ الديني من
طريق الانتساب إلى الخليفة بالمصاهرة. وأول من فعل ذلك عضد الدولة بن بويه
المتوفى سنة ٣٧٢ﻫ، فإنه حمل الطائع لله الخليفة العباسي في أيامه أن يتزوج
بابنته، وغرضه من ذلك أن تلد ابنته ولدًا ذكرًا فيجعله ولي عهده، فتكون الخلافة
في ولد لهم فيه نسب
٢٠ ولم يوفق إلى مراده.
ولما أفضت السلطة إلى السلاجقة، تقدموا في هذا الطريق خطوة أخرى، فعمدوا إلى
التقرب بالمصاهرة أيضًا، ولكن على أن يتزوج السلطان طغرل بك السلجوقي ابنة
الخليفة، وهو يومئذ القائم بأمر الله، فخطبها إليه ووسط قاضي الري في ذلك،
فانزعج الخليفة لهذا الطلب أيما انزعاج، إذ لم يسبق أن يتزوج بنات الخلفاء إلا
أكفاؤهم بالنسب. وكانت يد السلطان قوية والخليفة لا شيء في يده، فأخذ في
استعطافه؛ ليعفيه من إجابة طلبه، فأبى السلطان إلا أن يجاب. وحدثت أمور يطول
شرحها خيف منها على الدولة، فاضطر الخليفة إلى القبول — فعقد له عليها سنة
٤٥٤ﻫ، وهذا ما لم يجر مثله قبله؛ لأن آل بويه لم يطمعوا في ذلك ولا تجاسروا على
طلبه مع مخالفتهم للخليفة في المذهب
٢١ إذ يكفي من الخليفة تنازلًا أن يتزوج بنات الملوك لا أن يزوجهم
بناته، ولم ينل هذا الشرف أحد قبل طغرك بك. ومع ذلك فإنه لما دخل إلى عروسه في
السنة التالية، قبل الأرض بين يديها وهي جالسه على سرير ملبس بالذهب، فلم تكشف
الخمار عن وجهها ولا قامت له، وظل أيامًا يحضر على هذه الصورة وينصرف. على أنه
لم يوفق لإتمام ما أراده؛ لأنه توفي في تلك السنة. أما المبايعة بالخلافة لغير
العرب فلم تنلها دولة إسلامية قبل العثمانيين، فلما فتح السلطان سليم مصر وجد
فيها آخر الخلفاء العباسيين الذين كان السلاطين المماليك قد استقدموهم، فتنازل
له عن الخلافة سنة ٩٢٣ﻫ.