سياسة بني أمية في الأندلس
اقتدت هذه الدولة في سياستها بالدولة العباسية، مثل سائر الدول التي عاصرتها أو نشأت بعدها. فمؤسسها عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان كان شديدًا مثل جده عبد الملك، نجا من مذبحة أهله من مجلس السفاح سنة ١٣٢ﻫ وهرب من العراق يطلب بلاد المغرب بمساعدة مولى له اسمه بدر، لم يدخر وسعًا في إنقاذه وحمايته في أثناء ذلك الفرار، والمسافة طويلة وأهل البلاد ناقمون على الأمويين. فلما وصل به إلى المغرب سعى له في جمع الأحزاب، فقطع مضيق جبل طارق إلى الأندلس، وفيها من موالي بني أمية نحو خمسمائة رجل، فأخبرهم بقدوم مولاه وحرضهم على نصرته لاستبقاء هذه الدولة هناك، فنصروه وجمعوا كلمة المضرية واليمنية — وجمعها صعب في ذلك العهد. فبعد حروب كثيرة مهدوا له الدولة واستقدموه إليهم، فدخل الأندلس وتولى أمورها سنة ١٣٨ﻫ (٧٥٦م)؛ ولذلك سموه الداخل.
وقد حكم عبد الرحمن أولًا باسم الدولة العباسية، وخطب بها للمنصور نحو سنة، ولم يجسر في بادئ الرأي على إنشاء خلافة أخرى مع وجود الخلافة العباسية؛ لأن النبي ﷺ واحد وخليفته واحد. وكان لعبد الرحمن ابن عم يقال له: عبد الملك بن عمير بن مروان، شديد العصبية للأمويين واسع الأمل في إرجاع خلافتهم، وكانوا يسمونه شهاب آل مروان لشجاعته وسرعة فتكه، وقد حارب في نصرة ابن عمه حروبًا ثبتت له بها الدولة، فحرضه على قطع الخطبة العباسية، ولما آنس منه ترددًا صاح فيه: «اقطعها وإلا قتلت نفسي!» فقطعها ولكنه لم يجسر أن يسمي نفسه خليفة، فكانوا يسمون أمويي الأندلس في أوائل دولتهم الأمراء، ثم سموهم الخلفاء.
(١) الصقالبة
ثم عمد الأمويون بعده إلى استخدام الخصيان الصقالبة، وهم غلمان كان النخاسون يحملونهم من شمالي أوروبا يتجرون ببيعهم في أنحاء العالم، وكان الاتجار بهم رائجًا. والسبب في رواجه أن قبائل السلاف (الروسيين) نزلوا في أوائل أدوارهم شمالي البحر الأسود ونهر الطونة، ثم أخذوا ينزحون غربًا جنوبيًّا نحو أواسط أوروبا، وهم قبائل عديدة عرفت بعدئذ بقبائل السلاف أو (السكلاف) والسرب والبوهيم والدلمات وغيرهم. فاضطروا وهم نازحون أن يحاربوا الشعوب التي في طريقهم، كالسكسون والهون وغيرهم، فتكاثر الأسرى من الجانبين. وكان من عادات أهل تلك العصور أن يبيعوا أسراهم بيع الرقيق، فتألفت لذلك جماعات كبيرة من التجار يحملون الأسرى، عن طريق فرنسا فأسبانيا إلى أفريقيا ومنها إلى الشام ومصر، فلما وقعت هذه البلاد في أيدي المسلمين راجت تلك التجارة. فكان التجار من الإفرنج وغيرهم يبتاعون الأسرى من السلاف والجرمان، من جهات ألمانيا عند ضفاف الرين والألب وغيرهما إلى ضفاف الدانوب وشواطئ البحر الأسود — ولا يزال أهل جورجيا والجركس إلى اليوم يبيعون أولادهم بيع السلع (إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى) — فإذا عاد التجار من تلك الرحلة ساقوا الأرقاء أمامهم سوق الأغنام، وكلهم بيض البشرة على جانب عظيم من الجمال وفيهم الذكور والإناث، إلى أن يحطوا رحالهم في فرنسا ومنها ينقلونهم إلى أسبانيا (الأندلس)، فكان المسلمون يبتاعون الذكور للخدمة أو الحرب، والإناث للتسري. وغلب على أولئك الأرقاء انتسابهم إلى الجنس الصقلي، وكانت كلمة «سلاف» تلفظ عندهم «سكلاف»، فعربها العرب «صقلب»، ومنها «صقلبي وصقالبة»، وأصبح هذا اللفظ عندهم يستعمل للرقيق الأبيض على الإجمال.
(٢) ملوك الطوائف بالأندلس
وبلغت الأندلس إبان مجدها في أيام عبد الرحمن الناصر المتوفى سنة ٣٥٠ﻫ، وكان عاقلًا كريمًا توفرت الثروة في خلافته، وكانت أيامه مثل أيام هرون الرشيد في بغداد من حيث الرغد والرخاء. وخلفه ابنه الحكم المستنصر، وكان محبًّا للعلم والعلماء مثل المأمون بن الرشيد، وبلغت مملكة الأندلس في أيام هذين الخليفتين إلى أوج مجدها سطوة وأبهة وثروة، وأخذ شأن الخلافة بعدهما في الاضمحلال، فاستبد أهل الدولة وجندها بالأحكام، وهم موالي الأمويين من البربر والصقالبة، كما استبد الفرس والأتراك في الدولة العباسية.
وكان العرب في مقدمة رجال الدولة وأهل العصبية، ولهم المقام الرفيع والكلمة النافذة؛ لأن الأمويين أهل عصبية للعرب كما تقدم، فلما استبد الصقالبة والبربر بالمناصب والأعمال أخذت شوكة العرب في الضعف تدريجيًّا، حتى غلب ابن أبي عامر وزير الحكم بن الناصر على أمور الدولة في أيام هشام بن الحكم في أواخر القرن الرابع للهجرة، ومكر بأهل الدولة وضرب بين رجالها وقتل بعضًا ببعض، ومنع الوزراء من الوصول إلى الخليفة، وهو عربي الأصل من اليمنية، فأصبح يخاف الجند على نفسه، فعمل على تفريق جموعهم فبدأ بالصقالبة الخدم بالقصر فنكبهم بدسيسة وأخرجهم من القصر، ثم فتك بالجند الصقالبة وآخر رجال العرب وأسقطهم عن مراتبهم، واستقدم إليه رجالًا من برابرة أفريقية وزناتة وقدمهم واستعان بهم. فانكسرت شوكة العرب في الأندلس من ذلك الحين.
وما زالت الدولة هناك آخذة في الانحلال حتى اقتسمها الولاة البربر وغيرهم، بأسرع مما حدث في الدولة العباسية، لضعف اعتقاد المسلمين بصحة خلافة بني أمية؛ ولأن العباسيين أرسخ قدمًا في الخلافة لقرابتهم من النبي ﷺ، فانقسمت مملكة الأندلس في أوائل القرن الخامس للهجرة إلى إمارات تولاها أصحاب الأطراف والرؤساء، وفيهم العرب والبربر والموالي، فتغلب كل إنسان على ما في يده، فصاروا دولًا صغيرة متفرقة؛ ولذلك سموا ملوك الطوائف. وهاك أشهرهم مع أسماء إماراتهم:
اسم الدولة | اسم المملكة | مدة الحكم |
---|---|---|
بنو حمود | مالقة والجزيرة | ٤٠٧–٤٤٩ﻫ |
بنو عباد | إشبيلية | ٤١٤–٤٨٤ﻫ |
بنو زيري | غرناطة | ٤٠٣–٤٨٣ﻫ |
بنو جهور | قرطبة | ٤٢٢–٤٦١ﻫ |
بنو ذي النون | طليطلة | ٤٢٧–٤٧٨ﻫ |
العامريون | بلنسية | ٤١٢–٤٧٨ﻫ |
بنو هود التجيبيون | سرقسطة | ٤١٠–٥٣٦ﻫ |
ولم تطل سيادة هذه الدول كما رأيت، فغلبت عليهم دولة المرابطين ثم الموحدين، وظل الانقسام متتابعًا بين تلك الممالك، والخصام متواليًا والإفرنج يغتنمون ضعفهم وانقسامهم، ويسترجعون إماراتهم واحدة بعد واحدة وبلدًا بعد بلد، حتى غلبوا على المسلمين وأخرجوهم من الأندلس. وآخر مدينة افتتحها الإفرنج من تلك المملكة غرناطة، وكانت في حوزة بني نصر نسبة إلى يوسف بن نصر من سنة ٦٢٩ﻫ، توالى عليها منهم بضعة وعشرون ملكًا، آخرهم أبو عبد الله محمد بن علي، فاستخرجها الإفرنج من يده سنة ٨٩٧ﻫ، وفر أبو عبد الله، وكان ذلك آخر عهد المسلمين بالأندلس.