حريق الأستانة
أقامت جمعية التآخي العثماني التي أُنْشِئت في الإسكندرية بعد إعلان الدستور برئاسة حمادة باشا؛ حفلةً خيريةً لمنكوبي حريق الأستانة، وكانت المطربة الشهيرة ليلى لزمي قد انقطعت عن الغناء منذ زمن وأَبَتِ الاشتراك في أية حفلة سمر، ولكنها قبلت الظهور في تلك الحفلة تبرُّعًا منها وخدمةً للخير، فكان الإقبال عليها عظيمًا، وتكلَّم الناظم باسم الجمعية وهو عضو فيها:
مَا لِي أَرَى هَذِي الجُمُوعَ سُكَارَى
أَأَدَرْتِ لَحْظًا أَمْ أَدَرْتِ عُقَارًا
يَا رَبَّةَ الصَّوْتِ الجَمِيلِ تَرَفَّقِي
فَلَقَدْ فَتَنْتِ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَا
إِنِّي أَرَى أَوْتَارَ عُودِكِ حَرَّكَتْ
فِي كُلِّ قَلْبٍ لِلْهَوَى أَوْتَارًا
قُولِي بِرَبِّكِ لِي فَإِنِّي حَائِرٌ
وَلَكَمْ فَتًى مِثْلِي بِمِثْلِكِ حَارَا
أَنَشَأْتِ مَا بَيْنَ المَلَائِكِ طِفْلَةً
أَمْ كَانَ شُحْرُورُ الرُّبَى لَكِ جَارَا؟
غَنَّيْتِ أَفْرَاحَ الحَيَاةِ لِتُسْعِدِي
قَوْمًا غَدَتْ أَفْرَاحُهُمْ أَكْدَارًا
أَشْجَاكِ فَقْرُهُمُ وَأَنْتِ غَنِيَّةٌ
فَأَزَحْتِ عَنْ ذَاكَ الخِبَاءِ سِتَارًا
وَبَذَلْتِ لِلْأَسْمَاعِ صَوْتَكِ بَعْدَمَا
شَاقَ القُلُوبَ وَتَيَّمَ الأَفْكَارَا
أَطْلَقْتِ ذَاكَ الطَّيْرَ مِنْ أَقْفَاصِهِ
فَاليَوْمَ يُخْجِلُ شَدْوُهُ الأَطْيَارَا
وَاليَوْمَ يَخْفِقُ قَلْبُ سَامِعِهِ فَلَا
يَدْرِي أَيَحْمَدُ أَمْ يَذُمُّ النَّارَا
•••
أَحَرِيقَ إسْلَامْبُولَ هِجْتَ لَوَاعِجَا
وَجَعَلْتَ أَعْيَادَ السُّرُورِ قِصَارًا
هِيَ جَنَّةُ الدُّنْيَا وَأَنْتَ أَرَيْتَنَا
فِيهَا الجَحِيمَ تُعَذِّبُ الأَبْرَارَا
هَجَرُوا البُيُوتَ وَقَدْ تَدَاعَتْ فَوْقَهُمْ
فَإِذَا نَظَرْتَ ظَنَنْتَهُمْ أَحْجَارًا
تَخَذُوا الظَّلَامَ دِثَارَهُمْ فِي عُرْيِهِمْ
فَإِذَا مَضَى لَبِسُوا النَّهَارَ دِثَارًا
فَكَّتْ يَدُ الدُّسْتُورِ قَيْدَ إِسَارِهِمْ
فَإِذَا هُمُ بِيَدِ الشَّقَاءِ أَسَارَى
•••
دَارَ السَّلَامِ سَلِمْتِ لِلْعَلْيَا وَلَا
أَخْلَى الزَّمَانُ مِنَ الرِّضَى لَكِ دَارًا
كَمْ مَسَّ جَانِبَكِ اللَّهِيبُ فَلَمْ تَرَيْ
كَاليَوْمِ إِخْوَانًا وَلَا أَنْصَارًا
لَكِ مِنْ وَرَاءِ البَحْرِ أَحْرَارٌ غَدَوْا
يَتَعَشَّقُونَ رِجَالَكِ الأَحْرَارَا
جَمَعَ التَّآخِي بَيْنَهُمْ فَغَدَا لَهُمْ
دِينًا تَيَمَّنَ بِالهِلَالِ شِعَارًا
فَتَعَدَّدَتْ أَنْسَابُهُمْ وَتَوَحَّدُوا
فَهُمُ يَهُودٌ مُسْلِمُونَ نَصَارَى
•••
اليَوْمَ أَنْتِ أَعَنْتِهِمْ فِي أَمْرِهِمْ
وَقَضَيْتِ يَا لَيْلَى لَهُمْ أَوْطَارًا
يَفْنَى الزَّمَانُ وَفَضْلُ صَوْتِكِ خَالِدٌ
فَنْيًا يَطُوفُ بِهِ الصَّدَى الأَقْطَارَا
وَيَشُوقُنَا كَالغَابِ أَوْ كَالمَوْجِ أَوْ
كَاللَّيْلِ لَمْ نُدْرِكْ لَهُ أَسْرَارًا
فَإِلَيْكِ يَا لَيْلَى الثَّنَاءَ مُضَاعَفًا
مِنِّي القَصِيدَ وَمِنْهُمُ الأَزْهَارَا
أَنْتِ انْثُرِي الأَلْحَانَ دُرًّا بَاهِرًا
وَأَنَا بِنَثْرِكِ أَنْظُمُ الأَشْعَارَا
١٩٠٨