أخي
قيلت في حفلة الأربعين التي أُقِيمت للمرحوم إلياس فيَّاض في التياترو الكبير بيروت سنة ١٩٣٠.
أَأَخِي، بَكُوكَ وَأَبَّنُوكَ وَأَبْدَعُوا
لَكِنَّ قَلْبِي لَمْ يَزَلْ يَتَوَجَّعُ
أُصْغِي إِلَى إِنْشَادِهِمْ فَيَطِيبُ لِي
وَأُفِيقُ مِنْ سِحْرِ البَيَانِ فَأَجْزَعُ
مَا لِي وَلِلْأَيَّامِ فِيكَ أَعَدُّهَا
كُلُّ الزَّمَانِ تَذَكُّرٌ وَتَفَجُّعُ
أَبَدًا أَرَاكَ عَلَى فِرَاشِكَ، وَالضَّنَى
يَسْقِيكَ مِلْءَ كُئُوسِهِ وَيُجَرِّعُ
فَمِنَ النُّعَاسِ عَلَى جُفُونِكَ غَمْرَةٌ
وَمِنَ الشُّحُوبِ عَلَى جَبِينِكَ بُرْقُعُ
وَالجِسْمُ مُنْحَلُّ العَزَائِمِ، مُثْقَلٌ
بِالدَّاءِ، مَكْلُومُ الفُؤَادِ، مُضَعْضَعُ
•••
أَبَدًا أَرَاكَ عَلَى فِرَاشِكَ صَابِرًا
وَيَكَادُ يَعْصِيكَ اللِّسَانُ الطَّيِّعُ
وَتَوَدُّ لَوْ عَادَ الزَّمَانُ مُسَالِمًا
يُعْطِيكَ مِنْ بَسَمَاتِهِ مَا يُمْنَعُ
لِتُعِيدَ عَهْدًا لِلْيَرَاعِ سَمَا بِهِ
لِلزُّهْرِ تَنْظِمُهَا لَنَا وَتُرَصِّعُ
•••
أَبَدًا أَرَاكَ وَأَنْتَ تَنْظُرُ لِي وَفِي
نَظَرَاتِكَ النَّبَأُ الَّذِي لَا يَخْدَعُ
وَتَبِيتُ تَسْأَلُنِي، وَنَبْضُكَ هَارِبٌ
مِنْ أَنْمُلِي، هَلْ فِي شِفَائِكَ مَطْمَعُ؟
وَأَرَى دَبِيبَ المَوْتِ فِيكَ فَأَنْحَنِي
مُتَبَسِّمًا، وَحُشَاشَتِي تَتَقَطَّعُ
•••
أَبَدًا أَرَاكَ، وَيَا لَهَا مِنْ رُؤْيَةٍ
نَزَلَ القَضَاءُ وَكَانَ مَا أَتَوَقَّعُ
قَدْ أُطْبِقَتْ مِنْكَ الجُفُونُ، وَعُطِّلَ
القَلْبُ الحَنُونُ، وَغَاضَ ذَاكَ المَنْبَعُ
فَطُوِيتَ يَا رَسْمَ الحَبِيبِ وَكُنْتَ فِي الـْ
أُفُقِ الرَّحِيبِ مَعَ الكَوَاكِبِ تَلْمَعُ
نَثَرُوا الزُّهُورَ عَلَى السَّرِيرِ وَكَفَّنُوا
جَسَدًا ثَوَتْ فِيهِ المَكَارِمُ أَجْمَعُ
بَلْ هَيْكَلًا هَجَرَ الإِلَهُ مَقَامَهُ
فِيهِ فَأَصْبَحَ وَهْوَ قَفْرٌ بَلْقَعُ
•••
يَا أَيُّهَا الأَلَمُ الَّذِي لَا يَنْتَهِي
يَا أَيُّهَا النِّيرُ الَّذِي لَا يُخْلَعُ
يَا مِنْجَلًا بِيَدِ اللَّيَالِي مُرْهَفًا
يَمْشِي عَلَى آمَالِهَا وَيُقَطِّعُ
إِنْ كُنْتَ ذَا ظَمَأٍ فَهَلَّا تَرْتَوِي
أَوْ كُنْتَ ذَا نَهَمٍ فَهَلَّا تَشْبَعُ
تَلْوِي عَلَى الجَبَلِ الأَشَمِّ فَيَنْحَنِي
وَتَمُرُّ بِالبَحْرِ الخِضَمِّ فَيَخْشَعُ
وَجَمَاجِمُ الأَجْيَالِ تَحْتَكَ تَشْتَكِي
وَإِلَيْكَ مِنْ ظُلُمَاتِهَا تَتَطَلَّعُ
كَمْ غَارَةٍ لَكَ فِي الشَّبَابِ دَفَعْتَهَا
وَاليَوْمَ جِئْتَ وَلَا شَبَابٌ يَدْفَعُ
لَمْ يَبْقَ مِنْ شَمْسِي شُعَاعٌ ضَاحِكٌ
فَانْشُرْ غُيُومَكَ مَا تَشَاءُ وَتَطْمَعُ
•••
يَا شَاعِرَ الإِحْسَاسِ كَمْ مِنْ شَاعِرٍ
بَلَغَ السُّهَا، فِي التُّرْبِ مِثْلُكَ يُودَعُ
يُخْفِي ظَلَامُ القَبْرِ طَلْعَةَ وَجْهِهِ
وَلِرُوحِهِ فِي كُلِّ أُفْقٍ مَطْلَعُ
رَوَّيْتَ عَصْرَكَ بِالدُّمُوعِ فَأَصْبَحْتَ
مِنْهَا كُئُوسُ الشَّاعِرِيَّةِ تُتْرَعُ
وَأَضَفْتَ لِلْقِيثَارَةِ الكُبْرَى بِهَا
وَتَرًا تَرِنُّ عَلَى صَدَاهُ الأَضْلُعُ
مَا أَدْمُعُ الشُّعَرَاءِ غَيْرَ عَوَاطِفٍ
غَنَّوْا بِهَا بُؤْسَ الحَيَاةِ وَسَجَّعُوا
يُغْذَوْنَ مِنْ دَمِهِمْ فَيَسْبِقُ شَاعِرٌ
فِي سَكْبِهِ لَهُمُ وَآخَرُ يَتْبَعُ
وَتُفَرِّقُ الأَقْدَارُ بَيْنَ عِظَامِهِمْ
حَتَّى إِذَا بَلَغُوا الخُلُودَ تَجَمَّعُوا
أَأَخِي عَهِدْتُكَ لِلْقَوَافِي حَافِظًا
عَهْدًا، وَهَذَا يَوْمُهَا أَفَتَسْمَعُ
تَشْتَاقُ مِنْكَ هَزَارَهَا الصَّدَّاحَ فِي النـْ
ـنَادِي وَيُوحِشُهَا الخَطِيبُ المِصْقَعُ
نَظَمَ الوَفَاءُ بَدِيعَهَا لَكَ مِثْلَمَا
قَدْ كُنْتَ تَنْظِمُ لِلْوَفَاءِ فَتُبْدِعُ
مَنْ لِي بِرُوحِكَ أَنْ تُشَارِفَ مَنْطِقِي
وَيَضُمَّهَا نَحْوِي الفَضَاءُ الأَوْسَعُ
لِأَقُولَ فِيكَ وَفِي الثَّنَاءِ عَلَيْهِمُ
شِعْرًا يُرَدِّدُهُ الصَّدَى وَيُرَجِّعُ
أَيْ عُصْبَةَ الأَدَبِ الَّتِي أَحْبَبْتُهَا
حُبِّي لَهُ وَلَعَلَّهُ بِي يَشْفَعُ
حَمَّلْتُمُونِي فِي مُصَابِي مِنَّةً
ثَقُلَتْ عَلَيَّ فَمَا أَقُولُ وَأَصْنَعُ؟
مَلَكَ الأَسَى قَلْبِي، وَأَعْيَا شُكْرُكُمْ
لُبِّي، فَلَيْسَ لَدَيَّ إِلَّا الأَدْمُعُ
١٩٣٠
ومن قصيدة في ختام خطاب:
لِي صَيْحَةٌ حُبِسَتْ بِقَلْبِي الدَّامِي
فَنَسِيتُ مِنْ أَلَمِي بِهَا آلَامِي
وَطَنِي يُهَدِّمُهُ الشَّقَاءُ وَلَا أَرَى
كَفًّا تُطِيحُ بِمِعْوَلِ الهَدَّامِ
الطَّائِفِيَّةُ قَطَّعَتْ أَوْصَالَهُ
وَسِيَاسَةُ الأَحْزَابِ وَالأَرْحَامِ
نَفَخَ التَّعَصُّبَ فِيهِ أَسْوَأُ نَافِخٍ
وَرَمَاهُ بِالتَّفْرِيقِ أَبْشَعُ رَامِ
وَكَوَارِثُ الحَدَثَانِ لَمْ تَتْرُكْ لَهُ
مِنْ جِسْمِهِ الجَبَّارِ غَيْرَ عِظَامِ
إِخْوَانَنَا طَالَ الكَرَى أَفَيَقْظَةٌ
تَجْلُو ظَلَامَ الشَّكِّ وَالأَوْهَامِ
لِنَرَى حَقِيقَةَ مَا يَجُرُّ مِنَ الأَذَى
بُغْضُ القُلُوبِ وَفِتْنَةُ الأَحْلَامِ
مَا أَخْطَأَتْ هَدَفَ المَعَالِي أُمَّةٌ
حَلَّتْ مَشَاكِلَهَا بِغَيْرِ خِصَامِ
أَيَخِيبُ شِعْرِي عِنْدَهَا وَأَنَا الَّذِي
أَرْسَلْتُهُ فِيهَا رَسُولَ سَلَامِ
رَوَّيْتُ مِنْ نَبْعِ الإِخَاءِ قَرِيحَتِي
وَجَلَوْتُ فِي ضَوْءِ الرِّضَى إِلْهَامِي
لِي فِي هَوَى وَطَنِي كِتَابٌ خَالِدٌ
يَبْقَى عَلَى المَكْتُوبِ مِنْ أَيَّامِي
سَجَّلْتُ نَصْرَانِيَّتِي فِي مَتْنِهِ
وَنَشَرْتُ بَيْنَ سُطُورِهِ إِسْلَامِي
فَإِذَا دَعَوْتُ إِلَى الوِفَاقِ فَإِنَّنِي
أَدْعُو بِحَقِّ الحُبِّ وَهْوَ مُدَامِي
أَفْرَغْتُهُ فِي مِقْوَلِي وَيَرَاعَتِي
وَجَعَلْتُ مِنْهُ بِدَايَتِي وَخِتَامِي