وداع الإسكندرية
قِيلت في حفلة التوديع التي أُقِيمت للناظم في النادي السوري في الإسكندرية سنة ١٩٣٠.
لَا تَعْذُلِيهِ إِنْ رَأَيْتِ ذُهُولًا
إِنَّ الفِرَاقَ عَلَيْهِ كَانَ ثَقِيلَا
عِشْرُونَ عَامًا فِي حِمَاكِ طَوَيْتُهَا
وَوَضَعْتُ حُبِّي فَوْقَهَا إِكْلِيلَا
أَمَلُ الشَّبَابِ، وَدَمْعُهُ، وَجِهَادُهُ
خَلَّفْتُ سِتْرَكِ فَوْقَهَا مَسْدُولَا
وَرَجَعْتُ مِنْكِ بِوَحْشَةٍ وَصَبَابَةٍ
زَادُ المُحِبِّ إِذَا أَرَادَ رَحِيلَا
يَا مَبْسَمَ الوَادِي وَدُرَّةَ ثَغْرِهِ
كَمْ أَشْبَعَتْكِ قَصَائِدِي تَقْبِيلَا
فِي جَوِّكِ الصَّافِي وَفَجْرِكِ وَالدُّجَى
وَالرَّوْضِ عَبَّاقِ النَّسِيمِ عَلِيلَا
وَشَوَاطِئٍ أَمْوَاجُهَا سِرْبُ القَطَا
يُسْمِعْنَهَا بَدَلَ الهَدِيرِ هَدِيلَا
كَمْ وَقْفَةٍ لِي فِيكِ أَسْتَوْحِي الهَوَى
وَأُطَارِحُ البَحْرَ الحَدِيثَ طَوِيلَا
وَيَظَلُّ مِلْحُ هَوَائِهِ يُرْوِي دَمِي
حَتَّى يَذُوبَ بِأَدْمُعِي وَيسِيلَا
هَذِي نُجُومُكِ سَوْفَ أَرْصُدُهَا إِذَا
مَا بِتُّ فِي الجَبَلِ الأَشَمِّ نَزِيلَا
لِأَرَاكِ فِي نَجْوَايَ غَيْرَ بَعِيدَةٍ
وَأَرَى لِقُرْبِكِ فِي السَّمَاءِ سَبِيلَا
•••
يَا عَهْدَ أَحْبَابِي عَلَيْكَ تَحِيَّةٌ
هَلْ كُنْتَ إِلَّا مَطْلَعًا وَأُفُولَا
لِي فِي كِتَابِكَ لِلصَّدَاقَةِ حُجَّةٌ
سَجَّلْتُهَا بِيَدِ الوَفَا تَسْجِيلَا
فَقَرَأْتُ مِنْهَا فِي وُجُوهِ أَحِبَّتِي
هَذَا المَسَاءَ حَوَاشِيًا وَفُصُولَا
مَا كُنْتُ أَحْسُبُ لِلْفِرَاقِ حِسَابَهُ
لَوْ لَمْ يَكُنْ قَلْبِي بِهِمْ مَأْهُولَا
لَوْ لَمْ تَكُنْ مِصْرُ الَّتِي أَحْبَبْتُهَا
وَعَشِقْتُ خُضْرَةَ أَرْضِهَا وَالنِّيلَا
فَحَمَلْتُ في نَظَرِي جَمَالًا خَالِدًا
مِنْهَا وَفِي عُنُقِي حَمَلْتُ جَمِيلَا
•••
فِي ذِمَّةِ الخُطَبَاءِ جُهْدُ قَرِيحَةٍ
فَضَحُوا بِهَا يَوْمَ الوَدَاعِ زَمِيلَا
مَا كَان مَغْلُولَ اللِّسَانِ وَإِنَّمَا
تَرَكَ الفِرَاقُ فَؤَادَهُ مَغْلُولَا
وَالشِّعْرُ يَا أُمَرَاءَهُ، لَمْ يَبْقَ لِي
مِنْ بَعْدِكُمْ شَوْطٌ بِهِ فَأَجُولَا
هَذِي قَوَافِيهِ وَتِلْكَ بُحُورُهُ
قَدْ مَلَّكَتْكُمْ عَرْضَهَا وَالطُّولَا
طَلَعَتْ قَصَائِدُكُمْ عَلَيَّ رَوَائِعًا
أَرَأَيْتَ عِنْدَ طُلُوعِهِ الأُسْطُولَا
تَجْرِي قَذَائِفُهُ سُلَافَةَ حِكْمَةٍ
وَيَكُونُ قَصْفُ رُعُودِهِ تَرْتِيلَا
•••
يَا مِصْرُ صُنْتُ هَوَاكِ بَيْنَ جَوَانِحِي
وَتَرَكْتُ بَعْدَكِ مَدْمَعِي مَبْذُولَا
لَوْ لَمْ يَكُنْ لُبْنَانُ قِبْلَةَ نَاظِرِي
لَمْ أَتَّخِذْ يَا مِصْرُ مِنْكِ بَدِيلَا