الشاعر والمومياء
الشاعر
:
يُهْنِيكِ نَوْمُكِ يَا ابْنَةَ الأَزْمَانِ
فِي القَفْرِ يَرْعَى لَيْلَكِ الهَرْمَانِ
هَلْ أَنْتِ آسِفَةٌ عَلَى عُمْرٍ مَضَى
أَمْ أَنْتِ نَاعِمَةٌ بِعُمْرٍ ثَانِ
بَدَّلْتِ بِالقَصْرِ التُّرَابَ، وَبِالشَّذَا
مِلْءَ الإِزَارِ، القَارَ فِي الأَكْفَانِ
نَزَعُوا فُؤَادَكِ فَاسْتَرَحْتِ مِنَ الهَوَى
وَسَكَنْتِ بَعْدَ الوَجْدِ وَالخَفَقَانِ
تَمْشِي العُصُورُ وَأَنْتِ وَاقِفُةٌ فَلَا
تَتَأَثَّرِينَ لِنَازِحٍ أَوْ دَانِ
وَتَقُومُ حَوْلَكِ صَيْحَةُ الدُّنْيَا فَلَا
تَرْتَاعُ مِنْكِ لِسَمْعِهَا أُذُنَانِ
المومياء
:
أَمُرِيدَ سِرَّ سَكِينَتِي لَا تَغْتَرِرْ
فَأَنَا بِهَا أَشْقَى وَغَيْرِي الهَانِي
لَا يَنْفُعُ المَيْتَ البَقَاءُ فَلَيْتَهُ
مَا كَانَ فِي الأَحْيَاءِ مَنْ أَبْقَانِي
بَلْ لَيْتَهُمْ طَرَحُوا رُفَاتِي فِي الفَلَا
لِوُحُوشِهَا نَهْبًا وَلِلْعُقْبَانِ
أَوْ فِي التُّرَابِ أَصِيرُ مِنْ أَجْزَائِهِ
وَالرِّيحُ تَذْرِينِي بِكُلِّ مَكَانِ
فَأَعُودُ لِلْكَوْنِ الَّذِي فَارَقْتُهُ
وَيُجَدِّدُ الدَّهْرُ الجَدِيدُ كَيَانِي
تِلْكَ الحَيَاةُ، وَلَيْسَ مَا ضَمَّخْتُمُ
جَسَدِي بِهِ وَكَحَلْتُمُ أَجْفَانِي
فِي ظُلْمَةِ القَبْرِ السَّحِيقِ وَمُهْجَةِ الصـْ
ـصَخْرِ العَمِيقِ يَبِيتُ جِسْمِي العَانِي
لَا النِّيلُ يُرْوِينِي، وَلَا بَدْرُ الدُّجَى
يَوْمًا يُنِيرُ شُعَاعُهُ جُدْرَانِي
جَارِي أَبُو الهَوْلِ المُقِيمُ عَلَى المَدَى
سَهْرَانَ فَوْقَ رِمَالِهِ يَرْعَانِي
أَخَذَ العُصُورَ بِصَدْرِهِ فَكَأَنَّمَا
عَيْنَاهُ فِي الإِعْصَارِ غَائِرَتَانِ
وَأَبِيسُ فِي أَوْجِ الضَّرِيحِ مُحَلِّقٌ
فَوْقِي وَلَا يَقْوَى عَلَى الطَّيَرَانِ١
وَحِيَالَ قَبْرِي كُلَّ آنٍ ضَجَّةٌ
تَطْوِي إِلَيَّ مَرَاحِلَ النِّسْيَانِ
طَوْرًا أَنِينُ العَاصِفَاتِ وَتَارَةً
إِيقَاعُ دَمْعِ العَارِضِ الهَتَّانِ
وَالرِّيحُ تَسْحَبُ فِي العَرَاءِ ذُيُولَهَا
مَا بَيْنَ نَقْعٍ ثَائِرٍ وَدُخَانِ
كُلٌّ يُنَادِينِي فَتَخْفِقُ أَضْلُعِي
لِصَدَاهُ تَحْتَ لَفَائِفِ الكِتَّانِ:
«قُومِي فَقَدْ دَعَتِ العَنَاصِرُ وَالْبَسِي
حُلَلَ الطَّبِيعَةِ وَامْرَحِي بِأَمَانِ
نَحْتَلُّ مِنْ جِسْمِ الوُجُودِ صَمِيمَهُ
وَنُشَارِكُ الأَفْلَاكَ فِي الدَّوَرَانِ
قُومِي لَعَلَّكِ زَهْرَةُ البُسْتَانِ، أَوْ
رُوحٌ تُحَرِّكُ زَهْرَةَ البُسْتَانِ
وَلَرُبَّمَا اتَّخَذَتْ مَحَاجِرُ كَاعِبٍ
مِنْكِ الفُتُورَ لِلَحْظِهَا الوَسْنَانِ
كَمْ مِنْ دَمٍ عَصَرَ المُدَامَ وَأَعْظُمٍ
صَاغَتْ عَنَاصِرُهَا حُلَى التِّيجَانِ
وَمُجَنَّحٍ هَزَّ الغُصُونَ، فَمُذْ هَوَى
رُدَّتْ جَوَانِحُهُ إِلَى الأَغْصَانِ٢
مَا أَنْتِ عَبْرَ الكَوْنِ إِلَّا آلَةٌ
يَعْتَدُّهَا فِي مَعْمَلِ العُمْرَانِ
بَلْ قَطْرَةٌ مِنْ بَحْرِهِ وَشَرَارَةٌ
مِنْ شَمْسِهِ فِي الهَيْكَلِ الإِنْسَانِي»
الشاعر
:
يَا عِبْرَةَ الأَيَّامِ جِئْتُكِ لَاهِيًا
فَرَجَعْتُ مِنْكِ بِحِكْمَةٍ وَبَيَانِ
شَكْوَاكِ لِلْإِنْسَانِ قِائِلَةً لَهُ
لَا تَغْتَرِرْ بِالعِلْمِ وَالعِرْفَانِ
تَبْنِي وَيَهْدِمُكَ الزَّمَانُ وَهَكَذَا
يَبْقَى البِنَاءُ وَلَيْسَ يَبْقَى البَانِي
إِنَّ الحَيَاةَ جِنَايَةٌ، أَفَمَا كَفَى
حَتَّى أَرَدْتَ خُلُودَهَا يَا جَانِ
عَلَّلْتَ نَفْسَكَ بِالدَّوَامِ، فَلَمْ تُدِمْ
إِلَّا الشَّنَاعَةَ فِي مِثَالٍ فَانِ
١
أبيس: طائر مصري لم يَزَلْ منه بقية في أرض مصر، وعلى الأخص
في الصعيد، وكان قدماء المصريين يعقمونه ويقدسونه وينسبونه إلى
رب الحكمة «توت»، ويرسمون هذا المعبود برأس أبيس. وقد اكتشف
الأثريون بصعيد مصر مقبرة جثة محنطة من هذا الطائر.
٢
أي عاد بعد الموت نباتًا.