في تاريخ مصر
اعلم أن تاريخ مصر هو تاريخ أهل الفلسفة والبراعة والقوانين والسياسة، فإن مصر حفظت لرتبتها العلية مدة سبعين قرنًا، ولما دخلت تحت حكم الدولة اليونانية والرومانية لم يزل فضلها باقيًا؛ إذ فاقت من عداها بقوة العلم.
وينقسم تاريخ مصر إلى قسمين عظيمين؛ الأول قبل الإسلام، والثاني بعده. أما قبل الإسلام، فينقسم إلى فرعين؛ أحدهما: الزمن الذي فيه أهل مصر كانت عاكفة على عبادة الأصنام. والثاني: إشهار دين المسيح عيسى عليه السلام. وأما بعد الإسلام فهو معتبر من ابتداء فتح مصر بالإسلام سنة ٢٠ من الهجرة في خلافة سيدنا عمر بن الخطاب إلى عصرنا هذا.
(١) تاريخ مصر قبل الإسلام
- الطبقة الأولى: وأولها العائلة الأولى، وغايتها العائلة الحادية عشرة.
- الطبقة الثانية: وأولها العائلة الثانية عشرة، وغايتها العائلة الثامنة عشرة.
- الطبقة الثالثة: وأولها العائلة الثامنة عشرة، وغايتها العائلة الحادية والثلاثون.
ولنتكلم على تاريخ مصر في سالف العصر على هذا الترتيب فنقول:
(١-١) تاريخ مصر القديم لغاية افتتاحها بالأعجام «أي عصر الفراعنة»
الطبقة الأولى
(أ) العائلة الأولى الطينية
رأس هذه العائلة هو منا المذكور، ومسقط رأسه بمدينة أبيدوس «العربات المدفونة»، وكان في مبدأ أمره قائد الجيوش المصرية في زمن الكهنة «طائفة الحرشسو» ثم قام وحاربهم وأخذ الملك من يدهم وترك مدينة طيبة وأسس مدينة «منف» أو «منفيس» سنة ٥٧٠٠ق.م (الآن البدرشين وميت رهينة) وجعلها مقر دولته وقاعدة سلطنته، ولم يمضِ عليها برهة من الزمن إلا وصارت مركز التمدن والمعارف، وهو الذي سنَّ القوانين ونظم السياسة ورتب الديانة وقسم مصر إلى أقسام كل منها يُسمى «نوم»، وحوَّل النيل عن مجراه الأصلي، ولذلك صنع جسر قشيشة، وجعله يجري في وسط الوادي، وغزى سكان ليبيا، وأدخلهم تحت الطاعة ومات بعد أن حكم ٦٢ سنة، وقد ضربنا صفحًا عن من أخلفه لعدم شهرة أعمالهم، وجملة ملوك هذه العائلة تسعة.
(ب) العائلة الثانية الطينية
أشهر ملوك هذه العائلة الملك «بينوسيريس»، وهو الذي أبدع قانونًا جوَّز فيه للنساء الجلوس على سرير الملك؛ قاصدًا بذلك عدم خروج الملك من العائلة الملوكية، وحاصل هذا القانون أن الملك إذا مات وكان له أولاد ذكور كانوا أحق بالملك، وإن لم يكن له ذكور أو انقرضوا كان أحق بالملك بناته، وأن كل ملك توفي عن زوجة ولم يكن له ولد أو كان له ولد قاصر تولت الملك بعده زوجته بشرط أن لا تتزوج غيره بعد موته، فإن تزوجت غيره من ليس له الحق في الملك لا يجوز لزوجها هذا أن يكون ملكًا، وإنما يكون لذريته منها، فيعطى لهم منصب الملك. وصرح الملك «بينوسيريس» في قانونه أن سلاطة الملوك على رعاياهم هي حقوق وجب عليهم أداؤها نيابة عن المعبودات، وبالَغ في هذا الأمر على زعم أن دماء المعبودات سرت في عروق جسده، وبذا جعل لنفسه السلطة المطلقة على سائر رعيته، ولقب نفسه بابن الشمس المعبودة لهم؛ ليثبت ذلك لنفسه ولمن كان من نسله من الملوك أن لهم القرابة بينه وبين المعبودات، واقتدت به الملوك بعده إلى عهد الرومان.
وأخذ قدماء المصريين من هذا القانون أن كل من أراد تأسيس عائلة ملوكية ووصلها بالعائلة التي قبلها فليتزوج من نساء الملوك أو يأخذ منهن لأولاده لوصل القرابة بينهما.
(ج) العائلة الثالثة المنفية
أول ملوك هذه العائلة هو الملك «نفرقرع»، في مبدأ حكمه خرجت عليه سكان صحراء ليبيا فغزاهم وأدخلهم تحت طاعته حينما شاهدوا حادثة خسوف القمر، لظنهم أن الله غضب عليهم، ولما انتهى الحرب استتبت الراحة وانتشرت العلوم بين العباد، واتسعت دائرة الصنائع والفنون في سائر البلاد. وأما باقي ملوك هذه العائلة لم تعلم لهم آثار مخصوصة، بل تزايدت ثروة المملكة، وتزايدت مبانيها؛ فمن تلك المباني أبو الهول الموجود الآن بين هرمي الجيزة، ويسمونه بشمس الأفقين.
ومنها: الهيكل الموجود بالجهة القبلية من أهرام الجيزة، ويعرف الآن بالكنيسة، وهو من بدائع عصرهم، ومحاسن صنعهم؛ لكونه مبنيًّا بالحجر الصوَّان المنحوت.
(د) العائلة الرابعة المنفية
حكمت هذه العائلة من سنة ٤٩٠٠ق.م إلى سنة ٤٨٠٠ق.م، وأشهر ملوكها الملك خوفو الآتي ذكره.
وأشهر ملوكها أيضًا الملك سبسقاف، وهو أحد المشرعين الخمسة، ورتب الديانة ترتيبًا جديدًا، ودوَّن علم الهندسة، ورصد الكواكب، وسن قانونًا للقرض جوَّز فيه أن كل إنسان له أن يقترض ما يشاء ممن يشاء بشرط أن يرهن جثة أبيه عند المقترض، وأذن له أن يتصرف في قبر المديون حتى يوفيه دينه، فإن لم يوفِّه إياه حرم من الدفن هو وذريته بعد موتهم.
(ﻫ) العائلة الخامسة الأسوانية
لم يكن لها ملوك يستحقون الذكر، فلذلك ضربنا صفحًا عنهم، وعدد ملوكها تسعة.
(و) العائلة السادسة الأسوانية
أشهر ملوك هذه العائلة «ماري ببي أو ماري بيبوس» وهو الذي حارب السودان وأدخلها تحت الطاعة حينما مدوا أبصارهم إلى ملك مصر، واستخرج من جبل الطور معدن النحاس والتوتيا والفيروزج، وتحارب مع عربان جبل الطور الذين كانوا يشنون الغارات دائمًا على أطراف مصر من تلك الجهات، وأجلاهم عن أرضهم، وصنع الطريق الموصل من بندر قنا إلى القصير، واستخرج من وادي الحمامات الذي بتلك الجهة أحجارًا كريمة، خصوصًا الزمرد.
واستولت بعده أخته المسماة نيتوكريس وكانت زوجته أيضًا، وأضمرت على أخذ الثأر من قاتلي أخيها الذي هو زوجها، فشيدت سرايًا تحت الأرض وسلطت عليها ماسورة من النيل، ودعت قاتلي أخيها إليها، فبينما هم على المائدة يأكلون؛ إذ فتحت عليهم ماسورة الماء فأغرقتهم عن آخرهم، ولخوفها على نفسها من الانتقام ألقت نفسها في النار فاحترقت ودفنت بالهرم «الأصغر بالجيزة» حيث تممت بناءه. وكانت مدة حكمها عشر سنين.
(ز) العائلة السابعة والثامنة والتاسعة والعاشرة
اعلم أنه بانقراض العائلة السادسة لا يُعرف شيء من التاريخ بخصوص هؤلاء العائلات، وغاية ما نعرفه هو أن تخت مصر كان في مدينة هرقليوبوليس، وهي المعروفة الآن باسم «أهناس المدينة».
(ح) العائلة الحادية عشرة الطيبية
لم يكن لملوك هذه العائلة شيء من الآثار يستحق الذكر، وعدد ملوكها ستة عشر.
الطبقة الثانية
(أ) العائلة الثانية عشرة
-
ذكر الملك أوزرتسن الأول: وهو صاحب المسلة الموجودة الآن بالمطرية أمام هيكل
الشمس، ويبلغ ارتفاعها ٢٠ مترًا وكسورًا. ومكتوب عليها ما
صورته:
العظيم، معطي الحياة لكل مولود، ملك الصعيد والبحيرة، دام بقاء أوزرتسن ابن الشمس، محب إله بلد الشمس، صاحب التاج، معطي الحياة لكل موجود، صنع هذا الشغل العظيم وأنهاه في يوم عيده الأكبر لتخليد ذكره على ممر الدهور والأعوام.
وأقام مسلة أخرى بقرية بجيج بالفيوم، وقد حارب السودان، وهو أول من بنى أساس هيكل الكرنك بالصعيد بمدينة طيبة، ويُرى اسمه منقوشًا على مبنى قديم جهة الشلال الثاني، ويلقب باسم الملك المنصور على أمة القوس والنشاب، وجلب الذهب من بلاد السودان وجعله في خزينة مدينة «قفط» بالصعيد.
-
الملك أوزرتسن الثالث: كان هذا الملك صاحب حزم وعزم حتى عبدته الناس بعد موته،
وقد جرد جملة تجريدات حربية لمقاتلة العبيد جنوب مصر،
وشيد بوادي حلفة استحكامات لمنع تعدي العبيد على مصر؛
منها: قلعتان يعرف أطلالهما الآن باسم سمنة وقمنة، وكتب
على حجر هناك ما صورته:
إن هذا الحجر هو آخر حدود مصر من جهة الجنوب، ولا يسوغ لأحد من أمة الزنج أن يتجاوزه إلا إذا كانت سفنه مشحونة بالثيران والمعز والحمير.
-
الملك أمنما الثالث: ويُسمى أيضًا «أمنمحعت الثالث»، وهو الذي نظم جسور النيل
وحفر الترع العظيمة وصنع البركة المعروفة عند الجغرافيين
باسم «بركة موريس» بالفيوم، وصنع بوسطها هرمين يعلوهما
صورته وصورة زوجته، وهو الذي بنى هرم اللاهون وحفر الترعة
المعروفة الآن باسم بحر يوسف بالفيوم، وشيد سرايًا بها
١٥٠٠ أودة تحت الأرض و١٥٠٠ فوقها، وأعدها مجلسًا لأعيان
مصر والكهنة ليتداولوا فيها في الأمور السياسية والمنافع
العامة، وهي المعروفة الآن باسم سراي «لبرنت أو التيه أو
البرية» وقد بنى هذا الملك مقياس النيل بوادي حلفة وموجود
أثره إلى الآن، وانتظمت أحوال مصر في مدته واشتهرت
بالعلوم والصنائع وأتقن فن البناء ونحت الأحجار.
وأما العائلة الثالثة عشرة والرابعة عشرة لم يعلم لهما شيء من الآثار، والأولى تختها طيبة والثانية سخا.
(ب) العائلة الخامسة عشرة
هذه العائلة مجهولة الحال أيضًا، غير أن عرب الرعاة أغاروا على مصر في مدة حكمها، ونزعوا الملك منها، وجعلوا تخت حكمهم مدينة منفيس.
الطبقة الثالثة
(أ) العائلة الثامنة عشرة الطيبية ١٧٠٣–١٤٦٢ق.م
- كيفية طرد عرب الرعاة (١٧٠٣ق.م): هي أن هذا الملك تحارب مع عرب الرعاة فانهزم منهم وفر هاربًا إلى بلاد السودان وتزوج بابنة ملكها، فعاد مع عساكر سودانية متحدًا مع قواد العساكر المصرية، وقامت الحروب على قدم وساق بين الطرفين، فانهزمت أمة الهكسوس، والتجأت إلى قلعتهم المسماة أواريس فحاصرهم الملك أحميس بها، وتم الأمر أخيرًا بخروجهم بشرط أن يأخذوا جميع ما يمتلكونه من برِّ مصر، وخرجوا منها واقتفى أثرهم إلى أن أدخلهم أرض كنعان، وتخلفت منهم طائفة مكثت بين صحراء مديرية الغربية وفروع النيل الشرقية، وهم القاطنون الآن حول بركة المنزلة، وحرفتهم صيد السمك وقنص الطيور، واجتهد هذا الملك في تشييد العمارات والمباني الجسيمة، وفي ترميم ما دمرته جماعة الرعاة، ويُرى اسمه منقوشًا في جبل المعصرة، يستفاد منه أن هذا الملك قطع أحجارًا من محاجرها وانتخب أحجارها البيضاء لتشييد جملة هياكل ومبانٍ.
- ذكر مصر وشوكتها بعد أمة الهكسوس: قد علمنا أن الملك «أحميس» هو الذي طرد عرب الرعاة، وقد اعتبره المؤرخون مؤسسًا لذرية ملوكية وهي العائلة الثامنة عشرة لداعي الانقلاب الذي أحدثه لإجلاء جماعة الرعاة من أرض مصر، وكان كل من جلس على سرير الملك بعد «أحميس» المذكور يعرف باسم «طوطوميس» أو «أمنحتب»، وكانوا ملوكًا ذوي غزوٍ وفتوحاتٍ، حتى أدخلوا البلاد تحت طاعتهم وقهروا العباد واستولوا على الممالك الواسعة، وافتتح لهم في تاريخ مصر باب عصر جديد كما هو آتٍ.
- ذكر الملك أمنحتب الأول: لما جلس هذا الملك على سرير الملك بعد «أحميس» وسع حدود مملكته في بلاد الأتيوبيا التي كانت تُسمى باسم بلاد «الكوش»، ومن وقتئذ صارت كلمة الكوش عنوانًا لولي عهد مصر.
- ذكر الملك طوطوميس الأول: لما تولى هذا الملك قويت أطماعه في توسيع دائرة مصر فاستمر يحارب جنوبًا وشمالًا، فتحارب مع أهل الأتيوبيا، وامتدت حكومته إلى محاجر مدينة «إتبو» بوسط النوبة، بدليل وجود اسمه منقوشًا هناك، وفي عصره اتسعت حدود مصر فكانت تمتد جهة الجنوب إلى جبل «إيتا» بالحبشة وجهة الشمال إلى آخر أساكل أهل آسيا، وكانت بلاد الأتيوبيا منبع الثروة المصرية بكثرة بضائعها وصنائعها ومعادنها، وبعد أن أدخل النوبة تحت طاعته ورتب فيها الحكام زحف بجيوشه على القوم القاطنين بين نهر الدجلة والفرات فانتصر عليهم، ولهذا الملك جملة عمارات منها: تشييد جزء من معبد «آمون» بالكرنك، ومسلتان إحداهما بباب المعبد والثانية ضاعت. وفي أيامه جلب المصريون الخيل معهم، ولم تكن معهودة قبل الآن في بر مصر، وتعلموا من «أمة الرطنو» صنع العربات الحربية، وصارت من وقتئذ من المهمات الحربية المصرية، ومع انهزام سكان آسيا وخضوعهم لملك مصر فإنهم حافظوا على قوانينهم ودياناتهم، وانحصرت عبوديتهم في تقديم جزية سنوية لفراعنة مصر.
- ذكر طوطوميس الثاني: في أثناء حكمه أرسل جيوشًا لبلاد الشام والأتيوبيا فبايعوه من غير حرب، وقهر الأقطار السودانية التي كانت قائمة، وأدخلهم تحت طاعته، وصير بلادهم من الشلال الأول إلى بلاد الحبشة ولاية مصرية بعد أن كانت مستقلة، وعيَّن عليها مأمورين من طرفه. وتوفي بدون أولاد ذكور فورثه أخوه طوطوميس الثالث، ولكونه قاصرًا قامت أخته حعتشبسو بالنيابة عنه.
- ذكر الملكة حعتشبسو: وتُسمى أيضًا الملكة حتزو، ولما تولت الملك شرعت في تشييد هياكل ومباني سمتها باسمها، وحافظت على الوجه القبلي والبحري، وأخذت الجزية من سكان سوريا الشمالية، وحاربت بلاد «بون» بجنوب بلاد العرب المشهورة بالأخشاب والذهب والفضة والعطريات؛ وذلك لتوسيع مملكتها؛ ولهذا الغرض عملت في البحر الأحمر مراكب حربية وانتصرت عليهم، ويُرى على حجر بالدير البحري «بالصعيد» أشكال السفن الحربية تشحنها رجال الأعداء منقادين بالحيوانات الغريبة كالظرافات والقردة والنمور، ومن جهة أخرى يُرى أنواع الأسلحة وسبائك الذهب والنحاس، وسفن أخرى تحمل صناديق أنواع الأشجار والعطريات المضمخ أسفلها بالطين؛ لغرسها بمدينة طيبة. ومن أعمالها المسلتان الموجودتان بأطلال الكرنك، ولم تزل إحداهما قائمة الآن وعليها كتابة بالهيروجليفي معناها أنها عملت هاتين المسلتين لبقاء ذكر والدها «طوطوميس الأول»، وكان على رأس كل مسلة إكليل هرمي الشكل من الذهب المغتنم من الأعداء، فلما بلغ أخوها رشده أشركته في الحكم معها إلى أن ماتت.
- ذكر طوطوميس الثالث: لما تولى هذا الملك محا آثار أخته يريد بذلك محو اسمها من الدنيا، وهذا الملك هو مصباح تاريخ مصر، ولما جلس على سرير الملك شرع في إخماد نيران الثورة الناشئة بأرض الشام، وهزم أعداءه في واقعة حربية عظيمة في مدينة مجدوا المعروفة الآن باسم «مجدلة» بالقرب من جبل الكرمل، وسار على طريق أبيه «طوطوميس الأول» لقتال الأعداء، وعبر نهر الفرات وجبال أرض الجزيرة «أو الميزو بوتاميا»، ويقال لها أيضًا جزيرة ابن عمرو، ودخل في مدينة «نينوى» وهو مظفر منصور، واستولى عليها كما استولى على غيرها من البلاد العظيمة، ومما يؤيد ذلك ما وجد منقوشًا على لوح حجر بمعبد الكرنك، وهو محفوظ الآن بدار التحف بالجيزة، يتضمن أخبار وقائع هذا الفاتح وغزواته، يعرف الآن باسم لوح الكرنك الإحصائي، وسُمي بذلك لأنه اشتمل على بيان عدد قتلاه وأسراه في كل واقعة حربية، ثم استولى على أغلب جزائر بحر الروم بمساعدة سفن الفنيقيين «أهل صور وصيدا»، ويستفاد من اللوح المذكور فتحه هذه الواقعة البحرية، ففيه أن أسطوله بعد ما أخضع جزيرتي قبرص وكنديا «كريت» توجه لغزو جزائر الأرخبيل الرومي، وبعد ما فاز بالنصر التام عليها ملك قسمًا عظيمًا من بلاد اليونان وآسيا الصغرى، والمظنون أنه أدخل تحت طاعته سواحل جنوب إيطاليا، ويُفهم منه أنه أخضع سواحل ليبيا وأدخلها تحت الطاعة. وقد بلغت مدة حكمه ٥٤ سنة، وله كثير من الآثار الباقية الآن في كل من مدينة هليوبوليس «المطرية» ومنفيس «ميت رهينة»، ولقصر أبي الحجاج وجزيرة «إلفنتين» بأسوان التي بها القصر المشهور الآن باسم «قصر أنس الوجود»، وجميع ذلك يشهد له بسمو القدر وعلو الشأن.
- ذكر الملك أمنوفيس الثالث: في عصر هذا الملك اشتدت الفتن فشرع في إطفائها، ونقش ذلك على تاج هيكل القصر، وكان هذا الملك ذا وقار ومهابة في زمن الحروب محبًّا للتدبير والسياسة في زمن الصلح؛ وبذا لم تتنازل مصر في أيامه؛ وسعى في تقدم العلوم والصنائع، وقد وجد اسمه منقوشًا على كثير من قطع الأحجار أن هذا الملك قتل من أول سنة من حكمه إلى السنة العاشرة ١٠٢ أسدًا ولم تنطفِ زهرة جنودها، بدليل ما وجد مرسومًا على بعض أحجار بمتحف الجيزة، ولشهرة هذا الملك بالأقطار الغربية سمته اليونان بالممنون، وصنع صنمين عظيمين موضوعين في باب هيكل لقصر أبي الحجاج يعرفان الآن باسم «شامة وطامة»، ولغاية سنة ٢٧م كان لم يلتفت أحد لهما إلى أن حصلت زلزلة فأسقطت جزء أحدهما الأعلى، وشوهد أن هذه القاعدة متى سقط عليها النداء في الصباح سمع لها صوت مستطيل عند شروق الشمس، فكان السياحون من اليونان والرومان يتعجبون من ذلك، إلى أن اعتقدوا أن صورة الملك أمنوفيس هذه هي صورة شمسون أحد أرباب الأتيوبيين، أبوه نيسون وأمه أورور، وأنه هو الذي أعان برياموس على اليونان في حرب «تروادة»، وأنه يشير بالتحية عند طلوع الشمس إلى والدته أورور «أعني الفجر» ثم اعتقدوا فيه اعتقادات غير ذلك، واعتقده غالب السياحيين، فصاروا ينقشون أسماءهم على سيقان هذين الصنمين إلى سنة ١٥٠م؛ حيث وفد على مصر الإمبراطور «أدريان» ملك الرومان وزوجته إلى الصعيد لسماع صوت هذا المعبود، فلما عاين منه ذلك أخذته الرأفة عليه فوضع الجزء الملقى على الأرض فوق قاعدته، فلما امتلأت فوارغه بالمونة، صار لا يسمع له صوت، فاتضح أن صوته الرنان كان ناشئًا عن تأثير النداء والشمس في الحجر، فهي خاصية طبيعية، ومتى ظهر السبب بطل العجب.
- أمنوفيس الرابع: في عصر هذا الملك انتقل تخت المملكة من طيبة إلى
مدينة جديدة اختطها هذا الملك، يعرف مكانها الآن
بمحل يسمى «تل العمارنة» بمديرية «المنيا»، وكان
محافظًا على بلاده جريًا على عادات أبيه، بدليل ما
شوهد على الآثار من أن الأتيوبيين والشام والولايات
الشرقية وجزائر البحر الأبيض المتوسط كانوا يدفعون
له جزية سنوية، وفي مدته تجددت بمصر عبادة الشمس
التي كانت معدومة من قبل عصر هذا الملك، وسبب ذلك
أنه تزوج بامرأة أجنبية كما كانت أمه أجنبية أيضًا،
فدخلت معها عبادة الشمس، ولخوفه على نفسه من الأهالي
رحل من مدينة طيبة، وسكن بالمدينة التي شيدها، وركن
إلى السودان وأهل ليبيا وجعل جيشه منهم، وهدم جميع
هياكل معبودات المصريين، وبمجرد موت هذا الملك قام
المصريون بعزم وحزم وأطفئوا بدعته الدينية، ثم قامت
الحروب الأهلية على قدم وساق مدة الملوك خلفائه
المجهولة لنا أسماؤهم، فخربت البلاد وهدمت العمارنة
وهيكل المعبود «آتن» الإله الجديد، ومحي اسم
«أمنوفيس الرابع» من جميع المباني، وأعيدت عبادة
الإله «آمون» وباقي الآلهة المصرية كما كانت.
وصعد على سرير المُلك بعده ملكٌ يُدعى «حرمحب»، وهو الذي أطفأ نار الفتن وشرع في إدخال السودان تحت طاعته؛ حيث رفع لواء العصيان مدة الاضطرابات الأهلية، وكذا خرج عليه سكان آسيا، فشرع في إخضاعهم ثانيًا، إلا أن الموت حال بينه وبين أغراضه.
(ب) ذكر العائلة التاسعة عشرة القرن ١٤ق.م
- ذكر مآثر الملك سيتوس: ويُسمى أيضًا ستي، اقتدى هذا الملك بأعمال جده «تحتمس الثالث» أو «طوطوميس» في تحصيل سمو القدر لديار مصر، كما تشهد له بذلك الآثار، ففي أول سنة من حكمه حارب بدو مدينة «بيتوم» إلى أن أدخلهم أرض كنعان، ثم توجه إلى بلاد الأرمن والشام، وتحارب معهم حتى هزمهم، ووضع عليهم حكامًا مصريين ومحافظين في جميع الاستحكامات، كغزى وعسقلان. وبعد ذلك حارب الفلسطينيين، ولكن خرجت عن طاعته الجهات المجاورة لنهر الفرات. ومن الآثار: يُستفاد أنه حكم الأتيوبيين، وأوصل نهر النيل بالبحر الأحمر بواسطة ترعة حفرها كان فمها من تل بسطة إلى أن تصب في البحيرات المُرَّة، وأسس استحكامات في شرق مصر وفتح طريقًا في الجبل للقوافل توصل من قرية «أراسيا» بإقليم إسنا إلى معدن الذهب بجبل «أتوكي»، وأحدث عينًا صناعية لشرب المسافرين، ومات وخلفه ابنه «رمسيس الثاني» الآتي ذكره.
- ذكر مآثر رمسيس الثاني سنة ١٤٠٠ق.م: ارتقى هذا الملك صغيرًا على سرير الملك في حياة
والده، ولم تُحسب مدة حكمه إلا من بعد وفاة والده
«ستي» السابق الذكر، وقد سمته اليونان «سيزوستريس»
وهو لقب اشتقوه له من كلمة «سيزوسترع» التي كانت
عنوانًا عامًّا لجميع فراعنة مصر، وقد نسب إليه
الرواة أغلب أفعال أسلافه، وشابوها بقصص خرافية،
ونسبوا إليه أيضًا حروبًا وغزوات من قبيل الأكاذيب
مثل غزوة بلاد فارس، والهند. وقد أفادتنا الآن آثاره
أنه كان من كبار الملوك أرباب الغزو والجهاد، وكانت
أجلُّ غزواته في شمال بر الشام، ومع حداثة سنه أرسله
والده لغزو تلك البلاد، وكان عمره وقتئذ عشر سنين،
فغزاهم وأطاعهم، ثم حارب بلاد الأتيوبيا والقبائل
القاطنة هناك على سواحل النيل، فصارت تتواتر مفاخره
شيئًا فشيئًا إلى أن نال أعظم الفضل، فلما مات والده
اشتغل بالمُلك، وعزم على توسيع بلاده بالفتوحات، ففي
السنة الرابعة من حكمه قامت عليه سكان آسيا
الشمالية، وصاروا إلى أن وصلوا بقرب حدود مصر، فقام
رمسيس بجيشه، فاستظهروا عليه في مبدأ الأمر، ولكن
أخيرًا ظفر بهم، وفي حالة رجوع العساكر المصرية من
هذه الحرب قام الكنعانيون وجيرانهم على الجيوش
المصرية وكذلك الخيتاسيون حتى صار جميع سكان سواحل
نهر الفرات إلى سواحل النيل تقاتل المصريين، وقد
اجتمع المصريون مع أمة الخيتاس في قلعة «كدش» في
وادي الجريت — وهو وادي نهر العاص بجوار عكا — فظهرت
فيه بسالة مفرطة تخلدت في بطون التواريخ، وكانت
سببًا في القصيدة التي ألقاها الكاتب بنتاؤر —
معناها الشاعر اللبيب — المنقوشة على جدران هيكل
الكرنك، ولما تيقن أن الخيتاسيين كمنوا له خلف قلعة
كدش، بعث يستصرخ بجيشه، فأحدق به الأعداء من كل
جانب، فلما عاين خواصه ما حلَّ به تركوا ملكهم في
ساحة القتال وفروا على أقدامهم مدبرين، فعند ذلك
انقض على عسكر الأعداء بمفرده وجال في جموعهم جول
البأس، وصار وهو محدق بالأخطار يبتهل إلى إله مدينة
طيبة المدعو «آمون رع»، ويذكر الهياكل الجليلة
والمعابد العديدة التي أقامها إحسانًا له وهو يقول:
يا أبتي يا آمون! أما لبَّيتُ صوتك ومشيتُ طوع أمرك! أما قرَّبتُ لك القربان العديدة! أما شيدت لجلالتك معبدًا مخلدًا على ممر الدهور والأعوام! أما ملأت بيتك بالأسراء أعدائك! … فأنا أدعوك يا أبتي يا آمون، قد تركتني عساكر الرماة والفرسان الكماة، لكن أنت حسبي يا إلهي من الجيوش المؤلفة والفرسان المتكاثفة والعساكر والجنود والأعلام والبنود.
ثم قال الشاعر المذكور إن الإله لبى نداه، وقبل دعاه، وملأ قلبه بسالة، وملأ قلب العدو خوفًا. فاندفع بعربته ست مرات بين الصفوف، وهزم المئين والألوف، ثم أدركه بقية خواصه، فلما دخل الليل تكاملت عنده عساكره، فباتوا تلك الليلة، وفي الصباح أمر الملك بالحملة على الأعداء، فهجم الفريقان ودارت الدائرة فيها على أمة الخيتاس، ففاز المصريون بالنصر، فطلب ملك الأعداء منه الصلح، وقد مكثت هذه الحرب مدة خمس عشرة سنة، وأخيرًا حصلت عهود بين رمسيس ميامون المذكور وملك الخيتاس كُتبت على لوح من فضة (موجود الآن بالأنتيكخانة بلندرة)، وبعد انقضاء الحرب بالعهود المذكورة شرع رمسيس في تشييد المباني، فشيد بكل مدينة معبدًا لمعبودها، حتى قيل إنه لم يوجد محل قديم بمصر والنوبة إلا وله فيه أثر، وأشهر هذه المباني هيكل مدينة «أبسمبول جنوب مصر» وهو الذي حفر بحيرات التمساح، ومهد الطريق الموصل لاستخراج المعادن من بلاد النوبة، وطهر ترع الوجه البحري وحصن حدود الصحراء بالاستحكامات لمنع إغارة العرب على مصر، ولعدله كانت الأهالي تحبه، وكان إذا أراد التوجه إلى بلد من بلاده قابلته مشايخ البلاد بالملابس العظيمة واضعين على رءوسهم شعورًا جديدة معطرة، واقفين على أبوابها وبأيديهم ورد، وهم ينادون: لقد حصل السرور بمشاهدتك يا رمسيس، دمت بصحة وعافية. ومات بعد أن حكم ستين سنة.
- ذكر مآثر الملك منفطا الأول: وهو ابن رمسيس الثاني، كان هذا الملك مباشر الأحكام
مدة السنتين الأخيرتين من حكم والده، وجلس على تخت
الملك وهو طاعن في السن، وشرع في تشييد المباني
العظيمة بالوجه القبلي والبحري، وفي مبدأ حكمه كانت
البلاد في هدوء وراحة، ثم ابتدأت إغارات الأجانب؛
حيث ظهر في بحر الروم أسطول حامل جمًّا غفيرًا من
مقاتل البربر مثل: السليقيون «قبائل اليونان»، وسكان
جزيرة صقلية «سيسيليا». وأتي على سواحل ليبيا وانضمت
عساكره لعساكر تلك البلاد وهجموا على مصر، وقد دلت
النقوشات البربائية أن مصر لم يدخلها عدو منذ خروج
عرب الرعاة منها؛ فألقى المصريون سلاحهم مدة نصف
قرن، فسقطت همتهم عن استعماله، فلذا لم يوجد عندهم
من يقاومهم، فتقدموا حتى كادوا يدخلون مدينة منفيس،
فقام منفطا بجيشٍ عرمرمٍ وهزمهم واستولى المصريون
على غنائمهم وسلبوا ما كان معهم، وهذه أول واقعة
حربية حصلت بين المصريين والأوروباويين.
وبعد موته حصلت حروب أهلية، لم نقف على تفاصيل حوادث هذه الحقبة المضطربة، والذي نعلمه أنه لم يتيسر لابنه «سيتوس الثاني» أن يجلس على تخت الفراعنة إلا بعد موت أبيه بنحو اثنتي عشرة سنة، ومن المحتمل أنه تعاقب على تخت المملكة اثنان بطريق التعدي، منقوش اسمهما على المباني القديمة، ومن المحقق أن ذرية عرب الرعاة القاطنين بالوجه البحري خلعوا أطواق الطاعة من أعناقهم، وأوقعوا السلب والنهب وأشعلوا النيران واللهيب وتجاروا على ذلك عدة أعوام.
- معاملة المصريين لبني إسرائيل وخروجهم من مصر سنة
١٣٥٠ق.م: كانت عادة الفراعنة استعمال الأسراء في تشييد
المباني والعمارات، وقد تكاثر عدد أولئك الأسراء في
عهد العائلة الثامنة عشرة والتاسعة عشرة، وكان منهم
بنو إسرائيل الذين استعبدهم المصريون واستمروا في
العذاب إلى عهد رمسيس الثاني الذي زاد عليهم في
التشديد، فشيد مدينة «رعمسيس» بعمال إسرائيليين، ومع
شدة ذل الإسرائيليين بأرض مصر نموا وانتشروا،
وأخيرًا أمر فرعون برمي أولادهم في النيل وقت
ميلادهم، وقد نجا موسى عليه السلام بأمر الله على يد
ابنة الملك، ثم بعثه الله رسولًا للإسرائيليين؛
لإنقاذهم من جور المصريين.
وقد ذكرت التوراة أن نبي الله موسى عليه السلام ألزم فرعون الحاكم وقتئذ بعد ما أراه الآية الكبرى أن يسمح لبني إسرائيل بالخروج من مصر؛ حيث كانوا مقيدين بقيد الأسر ورِقِّ العبودية، فقادهم عليه السلام إلى شبه جزيرة جبل الطور، ثم ندم فرعون على تخليصهم من طوق الطاعة فاقتفى أثرهم يقود جيشًا جرارًا، ولحقهم بالقرب من شاطئ البحر الأحمر بقرب الجهة المعروفة الآن بالسويس، فانفلق البحر لموسى وعبر وقومه سالمين، ولما أراد فرعون أن يتبعهم غرق مع قومه.
وقد حمل المؤرخون عبارة التوراة على فرعون منفطا الأول، مع أن النصوص البربائية عارضت هذا القول، وثبتت أنه مات حتف أنفه، فإن صح ذلك كان وقوع هذا الحادث المريع مدة الاضطرابات السابقة أو اللاحقة لحكم سيتوس الثاني ابنه.
(ج) العائلة المتممة للعشرين القرن ١٣-١٢ق.م
(د) ذكر العائلة الحادية والعشرين القرن ١١ق.م
رأس هذه الدولة هو سمنديس، وكان مقر حكومتها مدينة صان الحجر «شرقي الدلتا»، وقد أفنى عمره في حرب ذرية الكاهن حرحور ملك الصعيد بطيبة، وبعد موته استمرت الحروب سجالًا بين ملوك مدينة صا الحجر وملوك طيبة، فكانت جيوش الوجه البحري مؤلفة من جنود الليبيين والأقوام الذين كانوا قاطنين على مصبات النيل، وكادت أن تكون رؤساء هذه الجنود المجمكة مستقلة وبيدهم الحل والربط، وكان شيشاق أو شيشنق أحد رؤساء هذه الجنود، وكان أجنبي الأصل، وهو الذي هدم أركان الدولة الحادية والعشرين، وأسس الدولة الثانية والعشرين وحكم جميع أرض مصر، وفي مدته عاد لمصر رونقها القديم، وأما ذرية حرحور الكاهن فإنها انهزمت أمامه وهربت إلى بلاد الأتيوبيا، وأسسوا دولة مستقلة وجعلوا تختها مدينة «نباتا» بالقرب من جبل البركل في جنوب «دنقلة القديمة»، وكان شيشاق المذكور معاصرًا لسيدنا سليمان عليه السلام ملك بني إسرائيل، وبعد موته بخمسة أعوام هجم شيشاق على سبطي يهوذا وبنيامين، ودخل بيت المقدس الشريف سنة ٩٧٠ق.م، واستولى على جميع خزائن سليمان، ويوجد منقوشًا على جدران معبد الكرنك أسماء المدن التي خضعت لجبروته، ومن أعماله أيضًا إيوان البسائط الباقية آثاره إلى الآن بتلِّ بسطة، وفي أيام خلفائه عادت الفتن كما كانت عليه وكثرت العربدة بين الأكابر والأصاغر، بحيث إن شيشاق الرابع الذي هو آخر هذه الدولة لم يكن ملكًا إلا على مدينة تل بسطة وما جاورها، وما زال الأمر يشتد ونيران الفتن تشتعل إلى أن ظهرت العائلة الثالثة والعشرون من سنة ٨١٠ إلى سنة ٧٢١ التي كان مقرها مدينة «تنيس»؛ حيث انقسم الملك بين عشرين أميرًا مستقلًّا لقب أربعة منهم بالألقاب الفرعونية، فارتفع شأن أحدهم وهو تفنخت المؤسس للدولة الرابعة والعشرين الآتي ذكرها.
(ﻫ) ذكر العائلة الرابعة والعشرين الصاوية القرن ٨ق.م
نسبة إلى مدينة صا الحجر، ورأس هذه العائلة هو «تفنخت» أحد الأمراء العشرين كما تقدم.
وفي مبدأ أمره شرع في نزع هؤلاء الأمراء، فاستعان بالأتيوبيين الذين كان لهم في ذلك الوقت سطوة عظيمة، وكان تختهم مدينة مرو بالأتيوبيا، ولما جعلته الأتيوبيون ملكًا على مصر أخذ في محاربة بعض الملوك المجاورة له إلى أن انتصر عليهم، ثم حارب الأمراء المذكورين فهزمهم وأخذ ما كان بأيديهم ثم توجه إلى الصعيد، فأذعنت له الأمراء بالطاعة إلى أن وصل إلى قسم أرمنت، واستولى عليه، ثم وضع الضرائب على قسم أهناس المدينة التي كانت تحت حكم الأتيوبيين، فلما بلغ ذلك ملك الأتيوبيا «بعنخي» قاتله حتى انتصر عليه، وجعل مصر ملحقة ببلاده، وأبقى لرؤسائها الامتياز، وأبقى «تفنخت» ملكًا عليهم، واستقر في صا الحجر، وبعد موته أخلفه ابنه باخوريس.
(و) ذكر العائلة الخامسة والعشرين الأتيوبية القرن ٧ق.م
حكمت هذه العائلة من سنة ٧١٥ إلى سنة ٦٦٥ق.م، وعدد ملوكها أربعة، ومدة حكمها ٥٣ سنة.
السبب في استيلاء ملوك السودان على مصر هو تغير الأحوال الناشئ من اختلاف الكلمة بين ملوك العائلة الرابعة والعشرين لعدوانهم وبغضهم لبعض، حتى ورد عنهم في التوراة ما معناه: «إن ملوك تنيس صاروا لا عقول لهم، وملوك منف ضلوا وأضلوا قومهم، فقضينا أن نعطي ملك مصر إلى ملك جبار.»
- ذكر مآثر الملك سباقون: لما تولى هذا الملك ملك مصر تلقب بالألقاب الفرعونية، وشرع في تنظيم البلاد، وأحسن التدبير فقوَّى الجسور وشيدها، وحفر الترع وطهرها؛ خوفًا على البلاد من الغرق والشرق، وسعى في تعمير مدينة بسطة، وبنى ما تخرَّب منها ومن منفيس، وأبطل العقوبة بالقتل بالأشغال الشاقة، وعمل معاهدة مع الفنيقيين وبني إسرائيل وأهل فلسطين ضد ملك آشور فأتت عليه بالوبال؛ حيث حاربه ملك آشور، فانهزمت الجيوش المصرية، وهرب الملك سباقون وكانت هذه الهزيمة سببًا لهيجان الوجه البحري عليه وعلى السودانيين، حتى طردوهم إلى طيبة، فقام «استيفانيس» قريب الملك «باخوريس» أو «باكوريس» إلى إعادة نظام حكومة الوجه البحري، وأعلن أنه هو الملك، أما سباقون فانحاز إلى الصعيد، ومات بعد قليل، وترك حكم الأتيوبيا والوجه القبلي لابنه «سباخون» الذي حارب ملوك الوجه البحري انتقامًا لأبيه، فظفر بهم، وحكم كل مصر، ولكن بعد قليل تغلب عليه طهراقه وقتله.
- ذكر مآثر الملك طهراقه: كان هذا الملك رجلًا محاربًا، وفي عصره أغار عليه ملك آشور، وطرده وأرجع الحكومة لأمرائها العشرين، وجعلهم يحكمون تحت رياسة نيخاؤس الأول، ولكن في سنة ٦٦٩ق.م أغار طهراقه على مصر ثانيًا، فحاصره ملك آشور وهزمه، وطرد السودانيين وأرجع الحكم للأمراء السابقين، وعلى ذلك استمرت البلاد طورًا في أيدي السودانيين، وطورًا في أيدي الآشوريين. ومكثت مصر تابعة لملوك الآشوريين مدة من الدهر، ثم عرفوا أن ملك مصر يحتاج لكثير من المشقة والتعب فتركوها، وآلت بعد ذلك إلى نوات ميامون ملك الأتيوبيين.
- ذكر مآثر نوات ميامون: في هذه المدة اضمحلت مملكة آشور، فخرجت مصر من حوزتها، فلما رأى ملك الأتيوبيا ذلك فاجأ المصريين وأغار عليهم، فاستولى على الوجه القبلي بدون معارضة؛ لوجود حزب الأتيوبيين هناك فساعده على ذلك، أما الوجه البحري فاستعمل المقاومة، ولكن أخيرًا انقادت أمراؤه لهذا الملك وقدموا له الطاعة، وحكم كل مصر ثلاث سنوات.
(ز) الفترة بين العائلة الخامسة والعشرين والسادسة والعشرين ٦٦٥ إلى ٦٥٠ق.م
لما انتهت حروب الأتيوبيا، وانجلت بعض عساكرها عن أرض مصر أدت مصر إلى انحطاط قدرها وكسرت شوكتها، وشق على أهلها تحمل حكم ملوك الأتيوبيا مع عدلهم؛ إذ كان أصعب ما على الأمة المصرية الانقياد للأغراب، فتعصبت وجهاء المدن وأعيانها، وتعاهدوا على نزع الملك من يد السودانيين، فقاموا عليهم وطردوهم من الوجه البحري وتقاسموا الملك بينهم، وكانوا اثني عشر حاكمًا، كل واحد يحكم إقليمًا، فسميت حكومتهم بالتقاسيم الاثني عشرية، وكانت عبارة عن جمهورية، وكان بساميتيك من ضمن هؤلاء الأمراء، فاستعان عليهم بعساكر يونانية متطوعة حتى أخذ مصر من يدهم، واستبد بحكمها فصارت مملكة واحدة، وصار هو مبدأ العائلة الصاوية السادسة والعشرين، وبانفراد هذا الملك انفتح لمصر ثانيًا باب مجد جديد، وعاد لها رونقها الأول وشوكتها القديمة، وقد مكثت مدة الدولة الاثني عشرية ١٥ سنة.
(ح) ذكر العائلة السادسة والعشرين الصاوية القرن ٦ق.م
- بساميتيك الأول ٦٥٠–٦١٧ق.م: لما كان هذا الملك أجنبيًّا عن الملك، تزوج ببنت من العائلة المصرية الملوكية، وكانت مصر في مبدأ حكمه قد اعتراها الخراب في حربها مع الآشوريين والأتيوبيين، حتى طُمَّت الترع وتلفت الطرق، فشرع «بساميتيك» — على ما رواه هيرودوت المؤرخ اليوناني — في إحياء مصر، فأصلح الترع والطرق، وأعاد الراحة والأمن، وبث العلوم، وعمر بيوت العبادة، وأصلح ما تهدم من معبد الكرنك وغير ذلك من المنافع العمومية، وسعى في تحسين سياسته مع الممالك المجاورة بجنوب مصر وشمالها، وهي مملكة الأتيوبيا وآشور والقيروان، ولحفظ بلاده شيد قلاعًا في مضايق طرق الشام، وفي ضواحي بركة المنزلة من الجهة الغربية، وفي الشلال الأول، وبعد أن تمم ذلك قام لغزو النوبة فظهر عليها، وبعد ذلك قام لفتح الشام فزحف عليها وملك فلسطين، وأخذ مدينة أشدود واكتفى بذلك، وبعد هذه الفتوحات دهم مصر مصيبة كبرى، وهي أن هذا الملك اقتدى بأسلافه الفراعنة، وجلب إلى مصر الأجانب، فأكرم نزل اليونان وأقطعهم أرضًا على شواطئ بحر الطينة جهة الفرمة، وفي هذا الوقت أيضًا قدم قوم آخرون ورسوا بساحل بحر رشيد، وأسسوا هناك معسكرًا متسعًا، فقويت شوكتهم واختلطوا بالمصريين، وأدخل أطفالهم المدارس المصرية، وكان منهم سولون وفيثاغورث وأفلاطون «بمدرسة عين شمس الآن المطرية» وكان المصريون ينظرون لهم بعين الاحتقار، ويأنفون من الاختلاط بهم، وكانت كراهتهم لهم مضمرة أولًا، ولكن بعد ذلك انكشفت؛ وسبب ذلك أن الملك أنعم عليهم بالرتب، فأصبحت مصر تحت محافظتهم، وأخيرًا لما اشتدَّ غيظ المصريين من ميل الملك للأجانب اجتمع منهم نحو ٢٤٠٠٠٠ نفس شاكي السلاح، وهاجروا إلى بلاد الأتيوبيا، وهناك قابلهم ملكها بالترحاب ثم وطنهم بين البحر الأبيض والأزرق، فنشأت منهم أمة عظيمة اشتهرت بطائفة الأسماط؛ أي حجاب، ولكن سياحي اليونان سمتهم باسم أوتوموليس، وبقي هذا الاسم معروفًا إلى القرن الأول من الميلاد، ومات هذا الملك سنة ٦١١ق.م، ودفن في صا الحجر، وورثه نيخاؤس الثاني.
- ذكر الملك نيخاؤس الثاني ٦١٧–٦٠٠ق.م: تولى هذا الملك طاعنًا في السن، وسلك بهمةٍ ونشاطٍ سلك مشاهير الفراعنة، حتى ألبس مصر ثوب المجد، ووجه همته إلى إتمام السفن الحربية، واعتني بأمرها كثيرًا؛ لأنه كان يريد الاستيلاء على سواحل البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط، فندب لهذا العمل مهندسين من اليونان أنشئوا له معامل بحرية، وغيروا المراكب المصرية القديمة بمراكب حربية جديدة تسير بالمجاذيف، وتسمى بالأغربة، وتشبث أيضًا بمشروع مهم وهو إيصال البحر الأحمر بالبحر الأبيض لقطع برزخ السويس، فحفر ترعة امتدادها أربع مراحل بحرية، وعرضها يسع سفينتين، كان مبدؤها مدينة تل بسطة، وآخرها بركة التمساح، إلا أنه هلك في حفرها ١٢٠٠٠٠ نفس، فتشائم الملك منها وأمر بإبطالها، سيما لما أخبرته الكهنة بأن حظ الانتفاع يكون لأمة أجنبية، وقال أرسطاطاليس إن الملك كف عن عمل الترعة بناءً على إخبار المهندسين له؛ لأن سطح البحر الأحمر مرتفع عن أرض مصر فخاف عليها من الغرق، وبعد ذلك انفتح لهذا الملك مشروع مهم، وهو أنه بلغه من ملاحي صور وقرطاجة أنهم اكتشفوا على سواحل أفريقا بلادًا فيها كثير من الذهب والعاج والأخشاب العجيبة فأمر الملك ملاحي الفنيقيين بأن يذهبوا بسفنهم في طلب تلك البلاد، فطافوا حول أفريقا مدة ثلاث سنين، لكنهم لم يجدوا تلك البلاد، وخاب سعيهم. وفي هذا الوقت كان انحطاط مملكة آشور، فقام نيخاؤس سنة ٦٠٣ بحيش جرار إلى آسيا وهجم على بلاد فلسطين، فقهر ملك يهوذا المدعو يوشيا، وقتله في مدينة مجدو «مجدلة»، وألبس التاج إلى يهوياقيم، وضرب عليه الجزية، وبعد ذلك صار بدون معارض حتى وصل الفرات، مرتبًا الحراس في كل إقليم استولى عليه، ولما أدخل الجهات البحرية تحت طاعته انعطف جهة الجنوب، ونزل بأرض بجوار حمص، وأقام هناك منتظرًا قدوم أهل الشام للتحية عليه، فبلغه تظاهر اليهود عليه، فأحضر ملكهم وعزله وعين بدله وضرب عليه الجزية، وبعد أن استولى على بلاد الشام وفلسطين عاد لمصر، فقام بختنصر ملك بابل وحارب نيخاؤس، وأخذ منه جميع البلاد التي فتحها، وبعد ذلك أراد نيخاؤس أن يسترجع البلاد التي أخذت منه فمات بدون أن يبلغ إربه.
- ذكر الملك واح أبرع أو أبرياس بن بساميتيك الثاني ٥٩٤–٥٧٠ق.م: في عصر هذا الملك استنجد به صدقيا وجاهر بالعصيان على ملك بابل، فقام بختنصر وهزم ملك اليهود، ودخل بيت المقدس الشريف، وبعد ذلك توجه لقتال ملك مصر؛ حيث كان حضر هو وجنوده لإعانة ملك اليهود، فانهزم المصريون بمجرد وصول عساكر بابل، وعاد بختنصر إلى بلاد اليهود، وقتل أولاد صدقيا، فالتجأت اليهود بعد ذلك إلى مصر، فاستقبلهم ملكها وأقطعهم أرضًا بقرب زفتى، وبعضهم سكن صعيد مصر. وبعد أن فرغ ملك بابل من قتال أهل آسيا رجع على مصر وقتل ملكها وأقام عليها حاكمًا من طرفه، وأخذ معه اليهود على ما رواه يوسيفوس المؤرخ اليهودي، ولكن هذه الحادثة نقضت ما قاله هيرودوت المؤرخ اليوناني من أن النصرة كانت للمصريين، وقيل إنه بعد هذه النصرة استنجدت به سكان سواحل ليبيا على قبائل اليونان بالقيروان، فأرسل عليهم جيشًا مركبًا من عساكر مصرية، فانهزم المصريون وقتلوا، ولم ينجُ منهم سوى من هرب لمصر، فتسبب عن ذلك عصيان وثورة من المصريين ضد الملك فأرسل عليهم جيشًا تحت رياسة رجل من الرعاع اسمه أحميس، وبينما كان ينصحهم لردهم عن عصيانهم إذ أقبل عليه أحد الجنود العاصية وألبسه التاج، وقال قد رضيناك ملكًا علينا، فقبل منهم ذلك وقام معهم لقتال الملك، فالتقى الجيش المصري والجيش اليوناني الذي كان مع الملك بقرب مدينة صا الحجر، فانتصرت الجنود المصرية، ووقع الملك في قبضة أحميس فأحسن مثواه وعامله معاملة الملوك، ولكن بعد ذلك طلب المصريون تسليم الملك لهم، فبمجرد ما أخذوه خنقوه.
- الملك آموزيس وهو أحميس الثاني ٥٧٠–٥٢٩ق.م: قال هيرودوت: «لما تولى هذا الملك تزوج بحفيدة الملك بساميتيك الأول، ليؤسس بذلك لنفسه عائلة ذات حق، وحافظ على نفوذ الشوكة المصرية في فنيقيا، وأتم فتوح جزيرة قبرص، وكان ذكي الفطنة، ولخوفه على بلاده من العجم أحسن سياسته مع ملكهم قيروش أو كرش، فتمتع بالراحة ٢٥ سنة، وكانت مملكته في درجة عالية من الثروة، ووسع الترع، وأصلح شأن الزراعة والتجارة، حتى أصبحت مصر به غنية، وقطع الأحجار، وأصلح جميع آثار الكرنك وغيرها، وأصلح الوجه البحري؛ إذ كان متخربًا وقتها، وبعناية هذا الملك صارت مصر في درجة لم تصل إليها غير أيامه، حتى قيل إن مدنها بلغت في عصره ٢٠٠٠٠ مدينة عامرة، وكثرت بها التجارة، خصوصًا مع اليونان الذين كان دائمًا شاملًا لهم بأنظاره، ولحبه لهم تزوج منهم، وقد بلغ عدد اليونان في ذلك الوقت ٢٠٠٠٠٠ نفس، فأعطاهم مدينة نقراطيس، ولعلها «فوَّه»، واشتغلت أولئك اليونان بنقل كل ما يسمعونه من أخبار المصريين إلى البلاد الأجنبية، فقويت أطماع الناس في مصر، وصار يأتيها كثير من الفلاسفة والتجار والعسكر الأغراب المتنوعة، وفي هذا الوقت توفي قيروش ملك العجم، وتولى بعده ابنه قمبيز الذي غزى مصر كما سيأتي، ولخوف قمبيز على عساكره من صحراء العرب قيض الله له رجلًا يونانيًّا يُدعى فانيس، حضر إليه من مصر، فأطلعه هذا اليوناني على حقيقة تلك البلاد، ودله على الطريق الموصل إليها، وبناءً على ذلك عقد قمبيز معاهدة مع العربان الذين كانت لهم اليد على الطريق الموصل للنيل ليأتوا بالماء لجيشه، وعلى ذلك سارت جيوش العجم حتى حلت أمام الطينة، وفي هذا الوقت توفي أحميس وأخلفه «بساميتيك الثالث».»
- الملك بساميتيك الثالث ٥٢٥ق.م: وفي عهد هذا الملك اشتدت الحروب بين العجم والمصريين عند الطينة، وكان من جملة الجيوش المصرية فرقة من اليونان أرباب الجمكية، فأرادوا أن ينتقموا من فانيس الذي ترك أولاده وهرب عند العجم، فأحضروهم إلى المعسكر وذبحوهم بين الصفين وأبوهم ينظر إليهم ويتقطع قلبه حسرة عليهم، ووضعوا دمهم في إناء ومزجوه بالنبيذ وشربوه، وبعد ذلك اقتحمت المقتلة بين الفريقين، واحتال قمبيز على ما قيل بحيلة عجيبة، وهي وضع كثير من القطط والكلاب والحيوانات المقدسة في مقدم جيشه؛ لعلمه بأن هذه الحيوانات هي معبودات المصريين، ولذلك لا يمكنهم أن يرموا سهامهم عليهم، وبهذه الحيلة تقهقر المصريون، ولم يثبت في القتال سوى عساكر اليونان، فانتهت الواقعة بهزيمة المصريين، فأرسل بعد ذلك ملك العجم إلى المصريين رسولًا في سفينة من عنده، يطلب منهم التسليم، فكسر المصريون السفينة وقتلوا من بها، فحضرت العجم قلعة منفيس، وحاصرتها واستولت عليها، وقتلت ابن الملك وكثيرًا من أعيان المصريين، وبذلك خضعت مصر إلى الملك قمبيز، ووقع بساميتيك في الأسر فأبقاه حيًّا، ويقال إنه بعد تسليم «منفيس» أمر قمبيز بإحضار أولاد الملك وبناته بملابس الرق حاملين قدور الماء على رءوسهم، ثم طلب أيضًا أولاد أعيان المصريين الذين حكم عليهم بالقتل ليمروا أمامهم قبل القتل، وكان بساميتيك مشاهدًا لذلك مع إظهار الصبر، وأخيرًا أراد أن يجعله نائبًا على مصر بدله، فقال: «الموت ولا النيابة»، فقتله وسلم حكم مصر إلى إيرندس الفارسي، وبهذا الملك انتهت العائلة السادسة والعشرون، وتليها العائلة السابعة والعشرون الفارسية إن شاء الله.
(١-٢) ديانة قدماء المصريين
كانت الأمة المصرية أعظم الأمم تدينًا، وفضلًا عن تعدد الأصنام التي كانوا يعبدونها فإننا نرى أكابر مصر وحكماءها يعتقدون وحدانية الله، وما عداهم من الأمة فكانت عاكفة على عبادة الأصنام.
أما ديانة المصريين فكانت مؤسسة على عبادة الشمس، وكان لها عندهم أسماء وأشكال مخصوصة حسب سيرها في السماء مدة النهار، وكان لكل مدينة وإقليم إله مخصوص، فكان إله مدينة طيبة «آمون» وغيره، وكان إله مدينة منفيس «بتاح» وغيره. وكانت هذه الأسماء تتغير في بعض الأقاليم، أما عبادة أوزوريس وأبيس وهوروس، فكانت منتشرة أكثر من غيرها، وكثيرًا ما كانت هذه الآلهة تتشكل عندهم بأشكال حيوانات كالطيور والتماسيح وغيرها، وكانت هذه الحيوانات عبارة عن رموز على قدرة الخالق سبحانه وتعالى، وكانوا يعرفون أن العبادة التي تقدم لهذه الآلهة إنما تقدم لله جل شأنه؛ حيث قدمت لصفاته.
وكانت هذه الحيوانات تُعبد في أفخر هياكل البلاد، وتُخدم كخدمة الملوك وتُحنط عند موتها، وتدفن في مدافن عظيمة. وكان أقدس حيوان عندهم هو الثور «أبيس»، ومحل عبادته مدينة منف وهو رمز على الإله بتاح، وكان يُعرف بعلامات مخصوصة عندهم، وكان موته يعتبر مصيبة كبرى على عموم الأمة، ويوم تنصيب غيره يكون يوم عيد عامٍّ، وبعد موته كان يحنط ويُدفن في سيرابيوم «مدفن بسقارة». ومن أهم أركان ديانتهم الاعتقاد بخلود الروح؛ بمعنى أن النفس الصالحة تدوم مع أوزوريس ثلاث آلاف سنة، ثم تعود إلى الأرض وتدخل الجسم الذي خرجت منه، فيسعى ويعيش كما كان أولًا، ويتكرر عليه الموت والبعث عدة مرات حتى يبلغ الدرجة العُظمى وكمال السعادة.
واعتقادهم بخلود الروح هو السبب في حرصهم على أجساد موتاهم وتحنيطهم ودفنهم في المدافن العظيمة والقبور العجيبة والأهرام البازخة أعظم مباني العالم، وكان أمر خلود الروح وتوقف السعادة الأبدية على حسن السيرة.
ولغاية هنا قد انتهى ملخص ما ألقاه من دروس الفراعنة حضرة العالِم الأديب واللوذعي الأريب، أستاذنا أحمد أفندي نجيب مفتش مصلحة الآثار المصرية ومعلم هذا العلم بمدرسة التجهيزية سابقًا.