في المماليك البحرية
كان ابتداء هذه الدولة في سنة ٦٤٨ﻫ الموافقة سنة ١٢٥١م، وعدد ملوكها ٢٤ ومدة حكمهم ١٣٦، وأول ملوكها عز الدين أيبك زوج شجرة الدر، وسبب استيلائه أن «الأشرف موسى» كان صغيرًا وبلغ أهل مصر قدوم التتار للبلاد، فاجتمعت الآراء على إقامة عز الدين بمفرده، ولما تسلطن شرع في تحصيل الأموال واستخدام الرجال، واستوزر «أبا سعيد هبة الله» وكان أول قبطي تولى الوزارة، وأوجد مكوسًا سماها حقوقًا، ثم إن «عز الدين» لما صفا له الوقت وتمكن وكثرت عساكره هربت جماعة البحرية إلى الشام مع رؤسائهم بيبرس البندقداري وقلاوون الألفي وغيرهما، واستولى على أموالهم، وأبطل ما كان قدَّره وزيره المذكور من المكوس وغيرها، وخطب بنت صاحب الموصل، فلما سمعت بذلك زوجته شجرة الدر تغيرت عليه فعزم على قتلها، ولما بلغها ذلك خافت على نفسها واتفقت مع محسن أغا الجوهري على قتله، فقتلاه في الحمام، فلما بلغ مماليكه قتله، دخلوا على شجرة الدر ليقتلوها فسبقتهم زوجته أم ولده وجواريها فضربوها إلى أن ماتت. وكان المعز أيبك ملكًا شجاعًا حسن التدبير والسياسة، غير أنه كان سفاكًا للدماء، وكانت مدة سلطنته سبع سنوات تقريبًا، وفي مدته ظهرت النار بالمدينة فأحرقت المسجد النبوي.
سيف الدين قطز
ولما قتل عز الدين قام بالأمر بعده ابنه نور الدين علي، وكان سنُّه عشر سنين، وجعل الأمير قطز نائبه، وفي أيامه أخذ التتار بغداد وقتلوا الخليفة المستعصم كما تقدم، وزحفوا على الشام فاستشار الأمير «قطز» الأمراء وقبض على الملك ووالدته وإخوته، واعتقلهم بدمياط ببرج السلسلة، بعد أن حكم سنتين فلم يلبث أن جاء الخبر بأن «هولاكو» حفيد «جنجيس خان» والتتار وصلوا بلاد الشام، واستنجد أهلها بملك مصر فسار بجيوشه والتقى مع التتار بعين جالوت، فهزمهم وغنم منهم كثيرًا، وكان بيبرس البندقداري من أعيان مملكته فساق وراء التتار وطردهم عن بلاده، وكان السلطان وعده بحلب ولم يفِ له، فوقعت الوحشة بينهما انتهت بقتل السلطان وتولى بيبرس السلطنة.
السلطان بيبرس البندقداري
وهو من مشاهير ملوك هذه الدولة، وهو صاحب الفتوحات العظيمة، تولى سنة ٦٥٨ﻫ الموافقة سنة ١٢٦٠م، أصله تركي، اشتراه الملك الصالح «نجم الدين أيوب»، وأعتقه. ولا زالت الأقدار تساعده حتى وصل ما وصل. وكان شجاعًا يباشر الحروب بنفسه، له الوقائع الهائلة مع التتار ثم مع الفرنج، وفتح بلاد النوبة ودنقلة ولم تفتح قبله مع كثرة الغزوات، وجدد عمارة الجامع الأزهر بعد أن خرب، وانقطعت الخطبة منه مدة طويلة، فأعادها كما كانت، وله صدقات وأوقاف كثيرة، وبنى الجامع الكبير بالحسينية، وأكمل عمارة المسجد النبوي من الحريق، وغسل الكعبة بماء الورد بيده، وبنى المدرسة تجاه البيمارستان «النحاسين» بالقاهرة، وقناطر أبي المنجا جهة قليوب، وقنطرة السباع أمام السيدة زينب، ولما خرج لقتال التتار استفتى العلماء في أخذ أموال من الرعية للإعانة بها فأفتوه، إلا النووي فانه امتنع وكلمه كلامًا شديدًا، فغضب عليه وأمره بالخروج من الشام، فخرج إلى بلدة نوى، ثم أمر برجوعه فامتنع وقال: لا أدخلها والظاهر فيها، والظاهر هو أول من رسم موكبي المحمل وكسوة الكعبة بمصر، وذلك سنة ٦٧٥ﻫ الموافقة لسنة ١٢٧٦م، ومات الظاهر بعد أن حكم ١٧ سنة وكسورًا، وخلف الظاهر بيبرس ابنه الملك السعيد «ناصر الدين أبو المعالي محمد بركة» سنة ٦٧٦ﻫ الموافقة لسنة ١٦٧٦م، فلم يمكث إلا قليلًا وخلع سنة ٦٨٧ﻫ، وخلفه أخوه الملك العادل بدر الدين سلامش، فخلع بعد أشهر وبعث به إلى الكرد فسجن مع أخيه.
الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفي
وهو رأس الدولة القلاوونية باعتبار مؤرخي الإسلام؛ ولذلك يسمى بأبي الملوك، وسمي بالألفي؛ لأنه اشتُري بألف دينار، وأصله من مماليك الصالح «نجم الدين أيوب»، وكان شهمًا بطلًا منصورًا في حروبه، وله محاربات ووقائع كثيرة مع التتار، وغزى بلاد النوبة سنة ٦٨٧ﻫ الموافقة سنة ١٢٨٨م، وكان له فيها فتوحات عظيمة، وعاد منها بغنائم جسيمة، وله عمارات كثيرة منها: المدرسة المنصورية، ونقل إلى هذه العمارات أعمدة قلعة الروضة ورخامها، وقد أكثر من شراء المماليك الجراكسة وأسكنهم بالقلعة حتى بلغ عددهم ستة آلاف، وهو الذي بنى بقلعة الجبل دار النيابة في سنة ٦٨٧ﻫ، وكانت تجلس بها النواب إلى أن هدمها ابنه الناصر محمد وأبطل النيابة والوزارة، فبناها بعده الصالح إسماعيل بن الناصر محمد بن قلاوون، وفي سنة ٦٧٩ مات المنصور قلاوون، وأحدث في أيامه وظيفة كتابة السر واللعب بالرمح في موكبي المحمل والكسوة، وأبطل عدة مكوس.
الملك الأشرف صلاح الدين خليل
تولى بعد موت أبيه سنة ٦٩٠ﻫ الموافقة سنة ١٢٩١م. وفي أيامه كانت الحروب قائمة بينه وبين الفرنج في السواحل الشامية فأجلاهم عنها، وفتح عكا وهدمها وجملة حصون، وبعد عودته توجه إلى قوص، ومن هناك سافر إلى اليمن وإلى الكرك ثم عاد إلى مصر. وفي أيامه بلغ عدد المماليك عشرة آلاف، وسمح لهم بالخروج إلى داخل البلد نهارًا ويبيتون بالقلعة ليلًا. وفي سنة ٦٩٢ﻫ الموافقة لسنة ١٢٩٣م بنى بالقلعة قصر الأشرفية، وعمر أيضًا الرفرف وجعله عاليًا، وصور فيه أمراء الدولة، وعقد عليه قبة على عمد وزخرفها، وكان مجلسًا يجلس فيه السلطان إلى أن هدمه الناصر محمد بن قلاوون. والغالب أن محله القصر الأبلق «الطوبخانة الآن». وفي سنة ٦٩٣ﻫ قُتل؛ وسبب ذلك أنه كان خرج إلى الصيد وساق إلى الطرانة فتبعه الأمير بيدره ومعه جماعة فقتلوه هناك، وحكم بعده، وسمى نفسه الملك القاهر فحكم يومًا واحدًا وقُتل، ودفن الأشرف بجوار مشهد السيدة نفيسة.
الملك الناصر محمد بن قلاوون
تولى سنة ٦٩٣ﻫ وعمره تسع سنين، فأقيم كفيلًا له الأمير «كتبغا المنصور» فقُتل؛ قتله الملك الأشرف، وقبض على بعضهم وولى عقوبتهم بيبرس الجاشنكر، وآل أمرهم إلى أن قطعت أيديهم وأرجلهم وعلقت في أعناقهم، وشهروا في مصر والقاهرة. ثم إن مماليك الأشرف أحدثوا فتنة، قُبض على ثلثمائة نفس منهم، وقطعت أيديهم وأرجلهم وصلبوا بباب زويلة وذلك سنة ٦٩٤ﻫ، ورجع إلى السلطنة وعُزل؛ ورجع ثالثًا ومكث حاكمًا حتى مات سنة ٧٤٠ﻫ، وكانت مدة خلافته ٤٣ سنة دون اعتزاله السلطنة.
الملك العادل كتبغا
هو الملك العادل «زين الدين المنصوري»، أصله من مماليك قلاوون، وحصل في أيامه غلاءٌ مفرط؛ لأن مد النيل قصر حتى أكل الناسُ الجِيَف. وفي زمنه وفد على مصر طائفة من المغول فرارًا من ملكهم غازان يُدعوْن باسم «الأويراتية». فإنه لما تغلب التتار على ممالك الشرق والعراق وجفل الناس إلى مصر نزلوا بالحسينية، وعمروا بها المساكن وأيضًا أمراء الدولة، وصارت من أعظم عمائر القاهرة، وكان السلطان كلما نزل من القلعة إلى الميدان لم يجد أحدًا؛ لقلة الناس وشغلهم بما هم فيه من الغلاء والوباء، واشتد خوفه من الفتنة فأظهر العناية بأمر الأويراتية؛ لأنهم كانوا من جنسه، وكان مراده أن يكونوا أعوانًا له عند الشدائد، فخشوا إيقاعه بهم، فآل الأمر أخيرًا بسببهم وبسبب عدم مسيره إلى بلاد الشام لمحاربة التتار إلى قيام بعض الأمراء عليه، فترك المُلك وفر هاربًا إلى دمشق.
السلطان حسن بن قلاوون
تولى السلطنة وعمره ١٣ سنة، فعهد إلى الأمير منجك اليوسفي بالوزارة، فنقص كثيرًا من مصروف الدولة والرواتب، ومد يده لأخذ الرشوة، وصار يولي الوظائف بمال يأخذه ممن يتولاه، واشتد تحريق النيل، واتفق الرأي على سده من جهة الجيزة لتحويل الماء إلى مصر، ووكل لهذا الأمر وزيره منجك، فجمع أموالًا عظيمة من الرعية، وصنع مراكب وشحنها أحجارًا ورماها في مجرى النيل مما يلي بر الجيزة فلم تحصل ثمرة، وعُزل منجك من الوزارة ثم أعيد إليها ثانيًا، واشتد ظلمه وجمع أموالًا عظيمة، وكثرت حوادثه إلى أن عزل بالثاني، وحُمل إلى الإسكندرية وسُلب ماله، ثم أعيد إليه جزءٌ من ماله. وفي سنة ٧٤٩ﻫ حصل طاعون عم الديار المصرية فخرب البلاد وقتل العباد. وفي سنة ٧٥١ جمع السلطان حسن القضاة والأمراء ورشد نفسه، وبعد أيام قبض على جماعة من الأمراء كان منهم منجك المذكور وحملهم إلى الشام، فتعصبوا وقاموا عليه سنة ٧٥٢ﻫ، وكان رأس الفتنة الأمير «طاز» فقبضوا عليه وسجنوه بالقلعة، فأقام إلى أن أعيد إلى السلطنة ثانيًا سنة ٧٥٥ﻫ، فأقام ست سنين وكسور وقتل سنة ٧٦٢ﻫ. وفي أيامه بني الجامع المسمى باسمه وجامع شيخون ومدرسته بالرميلة.
أبو المعالي زين الدين شعبان
تولى سنة ٧٦٤ﻫ، ولقب بالملك الأشرف، وعمره عشر سنين. وكان المتكفل به الأمير «يلبغا العمري». وفي سنة ٧٦٧ﻫ أراد أن يجعل الأمير «طنبغا الطويل» عامله على الشام، وكان هذا الأمير إذ ذاك برأس الوادي، فأرسل إليه كتابًا مع جملة أمراء فلم يمتثل لهذا الأمر واتحد مع الأمراء المرسلين إليه، ورفعوا لواء العصيان، فقام يلبغا وحاربهم وانتصر عليهم بالقرب من الجبل الأحمر بجهة تعرف بقبة النصر وقتل منهم خلقًا كثيرًا. وفي هذه السنة وردت مراكب صاحب قبرص إلى «الإسكندرية»، فقام عليهم نائب الإسكندرية وحاربهم بما عنده من العرب والعساكر، فهزموه ودخلوا المدينة ونهبوها وقتلوا كثيرًا من أهلها، ورحلوا عنها قبل وصول عساكر الملك إليهم الواردة من القاهرة، وبهذا السبب وكثرة فساد مراكب الفرنج في البحر وقطعهم طرق التجارة شرع في إنشاء مراكب حربية، فلما كملت رحل ليتفرج عليها، وعاد إلى «الطرانة» بقصد النزهة، ونصب بها خيامه، وكان مماليك «يلبغا» قد اتفقوا على قتله فهرب ليلًا إلى القلعة، فتوجه المماليك إلى السلطان وأرادوا أن يعينهم، فلم يمكنه غير الموافقة. ولما بلغ «يلبغا» ذلك جمع جموعه واستدعى الأمير «أتوك» أخا السلطان ولقبه بالملك المنصور، وسار به إلى الجزيرة الوسطى والسلطان الأشرف في بر إمبابة، وصاروا يترامون بالنشاب، فسار السلطان وطلع القلعة على حين غفلة، فلما سمع بذلك أصحاب «يلبغا» فارقوه أغلبهم وآل الأمر بالقبض على يلبغا وقتلوه. وكانت داره هي المعروفة الآن «بالحوض المرصود»، وكانت مدة السلطان «زين الدين شعبان» كلها ثورات وتعاظم عليه، وكانت الحروب بالرميلة وبولاق والجزيرة، وجعل للأشراف العمائم الخضر ليمتازوا عن غيرهم. وفي سنة ٧٧٨ﻫ خرج للحج فلما وصل العقبة قام عليه المماليك، فكرَّ راجعًا واختفى بالقاهرة إلى أن قُبض عليه وخُنق ووُضع بزنبيل وأُلقي في بئر. وفي أيامه ولى الكثير من أولاد الناس المناصب السامية والوظائف العالية، وهو الذي بنى المدرسة الأشرفية تجاه القلعة وهدمت في زمن السلطان «برقوق».
زين الدين الملك حاجي
كان عمره وقت تقليده السلطنة عشر سنين، فلم يكن له من السلطنة سوى الاسم فقط، وكان الأمر بيد برقوق الوزير، وكانت المملكة في حالة الاضطراب؛ لأن كل أمير كان يريد الرياسة، وكثرت العربدة في البلاد، واشتدت نيران الفتن، فاتفق برقوق مع خشداشيته، وهجم على باب السلسلة الذي هو باب العزب، أحد أبواب القلعة، واستحضر الخليفة الموجود وهو المتوكل على الله العباسي والقضاة والأمراء، واتفقوا على خلع الملك الصالح حاجي وتولية برقوق، وتقررت بينهم سلطنة برقوق، فكانت مدة سلطنته سنة وكسورًا، فكان من تولى من ذرية الناصر اثني عشر، أقاموا ثلاثًا وأربعين سنة، مع أن الناصر محمد بن قلاوون أقام بها أربعًا وأربعين سنة، ومدتهم جميعًا كانت شدائد حتى اشتد الضرر بالناس، مع أن في مدتهم جددت العمارات الكثيرة بمصر والقاهرة.