في التاريخ القديم لأمم الشرق
«الشرق»: يُعنى بهذا الاسم في علم الجغرافية أحد الجهات الأصلية؛ أي محل شروق الشمس، ولكن في التاريخ تطلق هذه الكلمة على الممالك الواقعة شرقي أوروبا والبحر الأبيض المتوسط، وهي مصر وفلسطين والشام وبلاد العرب وأرض الجزيرة «جزيرة ابن عمرو» وبلاد العجم والهند والصين، وهاتان الأخيرتان يعدُّونهما ضمن البلاد المشرقية في بعض الأحيان.
وقد ذكرنا فيما سلف أن مصر مضى عليها جملة أعصر وأحقاب، وهي حافظة لشوكتها وعظمتها، ثم خضعت لدولة الفرس التي امتدت من نهر الهندوس لغاية صحراء برقة أو ليبيا، ولكن قبل الشروع في ذكر أخبار هذه الدولة العظيمة التي هدمها الإسكندر الأكبر ملك مقدونيا نذكر طرفًا من أخبار الأمم والممالك العظيمة التي تقدمت عليها، واندرجت ضمن هذه الدولة في أيام قيروش وخلفائه، وكانت آسيا الغربية مشتملة على عدة ولايات يحدها شمالًا جبل قوقاز «الجركس» والبحر الأسود، ومن الغرب بحر الروم المُسمى بحر سفيد (البحر الأبيض المتوسط)، وجنوبًا صحراء العرب، وشرقًا السهول العالية لبلاد فارس. وهذه الولايات عبارة عن الدولة العثمانية الواقعة الآن في آسيا.
(١) في تاريخ الآشوريين والبابليين
كانت بلاد آشور عبارة عن الأراضي الواقعة بين أرمانستان والجزيرة وبلادميد وبابل. وسميت هكذا نسبة إلى آشور أو آسور بن سام بن نوح عليه السلام. وكانت بلاد الكلدانيين في جنوب آشور بين بلاد الفرس وجزيرة العرب والخليج الفارسي. وسميت هكذا نسبة إلى كاليدوس بن سام بن نوح عليه السلام.
وأما بلاد بابل بين نهري الدجلة والفرات، وهي المسماة ميزوبوتاميا «أرض الجزيرة»، وهي بين آسيا الصغرى وسوريا «أي الشام»، وسميت هكذا باسم بابيلون أي مدينة البرج، وقيل باب أيل أي مدينة الرب، وقد أسسها في سالف الأزمان نمرود الجبار، وبعد الطوفان نزل أولاد نوح عليه السلام من جبل عرارات «ببلاد القوقاز» إلى الأرض وسكنوا بهذه الأراضي وسموها أرض سنهار، وتناسلوا واجتمعوا على بناء برج عال يحفظهم من إغارة الطوفان، فبنوا برجًا على شاطئ نهر الفرات وعلوا بناءهم، فأخذتهم صيحة فبلبلت ألسنتهم، ودكت برجهم، فتفرقوا شعوبًا في الأرض، فأتى آشور ومن معه وسكنوا شرقي نهر الدجلة، وتناسل منهم قوم الآشوريين، وأتي كاليدوس ومن معه وسكنوا بجوار نهر شط العرب (نهر الفرات)، وتناسل منهم قوم الكلدانيين، وأتى أرامة ومن معه وسكنوا بين نهري دجلة والفرات، وتناسل منهم الأراميون، وأتى ميد ومن معه وسكنوا شرقي أرمانستان بجانب بحر الخزر، وتناسل منه الميديون، وأتى عيلام ومن معه وسكنوا في الوسط بجانب ميد، وتناسل منه العلاميون والفرس. وكلهم من أولاد سام بن نوح عليه السلام، ونزل كنعان بن حام في أرض بابل، ونزل مصرايم أرض مصر.
(١-١) مبدأ سلطنة آشور وبابل
وبعد تفرق بني حام في الأرض تناسلوا، وكثرت ذريتهم في وقت يسير، وكان أول من قام بتدبير مملكة آشور هو «آشور»، فبنى لهم مدينة عظيمة على شاطئ نهر الدجلة، وجعلها قاعدة البلاد، وفي هذا الوقت بنى كاليدوس مدينة «كالدة»، التي هي محلها الآن كربلا، وجعلها قاعدة بلاده، وبنى نمرود أسوار مدينة بابل على شاطئ الفرات، ثم أخذت هذه الأمم في الارتباط والاتحاد؛ واجتمعوا مملكة واحدة تحت إدارة ملك واحد.
وأما ديانة الربانيين والبابليين وغيرهم فكانت أولاد نوح عليه السلام بعد الطوفان قد ضلت عن الحق وعبدت الكواكب ثم عبدت الأصنام، واعتقدوا في الأصنام اعتقادات تامة، فكانوا يعبدون صنم بعل مروداخ أو بعلوس «الشمس»، وكانوا أيضًا يعتقدون الألوهية في بعض الأشخاص والطيور، ويبنون لها الأبنية العظيمة والهياكل، كما كانت تفعل الفراعنة المصرية، وكذلك عبدوا الملكة سمرَّاميس، وقالوا إنها بعد موتها تحوَّلت إلى حمامة، وبعد أن كانت بابل وآشور متفرقة تحت رؤساء جعلوا بلادهم سلطنة واحدة، فكانت هي أقدم ممالك الأرض بعد مصر، وجدُّوا في الفنون والصنائع، والكهنة هم أوَّل من تكلم في علم الفلك، وقسموا الحركة الشمسية إلى بروج، وعرفوا كيفية سير الكواكب وحركاتها وانتقالها، وعرفوا المزاول، ووضعوا أحرف الكتابة التي أخذها الميديون منهم، وسموها بالكتابة المقدسة، ومن الميديين تعلم أهل فارس، وتمهروا في علم الفلك، وأتقنوه للغاية. وكانوا يكتبون أسماء الأدوية المفيدة في ألواح، ويعلقونها في هيكل إله الطب.
(١-٢) في الكلام على ملوك بابل وآشور
ذكر الملك نينوس
وهو أول من انفرد بالحكم في دولة آشور، وكان بطلًا حارب البلاد، واستولى على بلاد ميد وأذربيجان والعراق العجمي والعراق العربي وبلاد بابل وسوريا. وبنى مدينة «نينوى» على نهر الدجلة، وجعل تلك البلاد جميعها مملكة واحدة سلطانية وذلك سنة ٢٠٠٠ قبل المسيح، وأقام مسلات ومعابد كثيرة، وعمل التماثيل في «نينوى»، وامتد حكمه من سواحل بحر الهند إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط (أو بحر الروم).
ذكر الملكة سمرَّاميس
وهي في الأصل من نساء بعض أمراء العساكر، وكانت ذات قوة عظيمة، فلما كان «نينوس» مجدًّا في الفتوحات والغزوات رآها في بعض الوقائع، وهي تحارب محاربة الشجعان، فأعجبه فراستها، فأخذها من زوجها وتزوج بها، وسلم إليها في الأمور، فلما مات نينوس انفردت بعده بالملك، وجدَّت في تشييد المدن وأسوار مدينة بابل الذي كان يمر من وسطها نهر الفرات، وجعلت في وسطها البساتين والهياكل، وبنت هيكلًا عظيمًا ليكون معبدًا للصنم بعل أو بعلوس، وأقامت له تمثالًا من الذهب. وبنت في وسط المدينة برجًا ارتفاعه ستمائة قدم، وفوقه سبعة أبراج ارتفاع كل واحد منها ٧٥ قدمًا، وجعلت في أعلى برج منها معبدًا فيه مائدة من الذهب، وفي أسفل برج معبدًا فيه صنم من الذهب، وبقربه مائدة وكرسيًّا من ذهب، وخارجه مذبحين من ذهب لتقديم القربان، ومن بعد ذلك قامت للغزو والفتوحات ولم تقنع بهذه المملكة المتسعة، بل أرادت أنها تستولي على جميع أراضي الدنيا، فغزت بلاد فلسطين وسواحل مصر والحبش، ثم عادت لمحاربة الهندستان، وكان ملك الهند في ذلك الوقت مجهزًا جيوشه وحصن قلاعه بالعساكر، وكانوا يحاربون على الأفيال، فلما وصلت الملكة سمرَّاميس إلى الهند أمرت بسلخ البقر ذوات الجلود الحمر، فسلخوها وألبسوها للجمال بعد ما فصلوا الجلود على هيئة الأفيال، ولما التقى الجيشان هجم الهنود بالأفيال، وقابلتهم سمرَّاميس برجالها، فانكشفت حيلة الآشوريين، فشددوا عليهم الهنود، فانهزموا وانهزمت سمراميس، وعادت إلى مدينة بابل مهزومة وتركت الحرب حتى قتلها ابنها نيلاس.
ذكر الملك نيلاس
تولى الملك بعد قتل والدته، وذلك سنة ٣٥٠ من التاريخ الطوفاني، وكان ظالمًا لقومه، ضعيف الهمة، يحب الكسل، وترك الأحكام بلذات نفسه، وكان السريانيون قد تعوَّدوا على الغزو والشجاعة، فلما رأوا حال ملكهم أضمروا على أذيته، فمن خوفه على نفسه وضع على محله خفرًا وحفظة خوفًا من الغدر والخيانة، ومكث على ذلك حتى مات، وبعد موته تعدَّت الأمراء على كرسي المملكة، وصاروا يحكمون واحدًا بعد واحد مدة ٨٠٠ سنة، ولكن لم تكتسب المملكة منهم في هذه المدة الطويلة غير الانحطاط والضعف؛ لسوء تدبيرهم، ولم يكن لهم ما يذكرون به في الآثار، ومضت مدتهم بدون منفعة، واستقلت البلاد التي كان فتحها الملك نينوس وسمرَّاميس مثل سوريا والشام وفلسطين، ولم يبقَ تابع لآشور سوى بلاد بابل وبلاد ميد، ومن بعد هذه المدة الطويلة تولى السلطنة الملك سردنفول أو سردنبال الآتي ذكره.
ذكر الملك سردنبال من ٨٠٠–٧٨٩ق.م
تولى ملك آشور وبابل، وكان شابًّا جميل الصورة، ولما حكم ترك الأمور وانتبه إلى لذات نفسه، وكان يمضي أوقاته بالسكر ومجالسة النساء، حتى إنه كان يتخلق بأخلاقهن، وكان يتزين بلبسهنَّ، فكرهته الرعية، فقام سر عسكر الميديين المدعو أرباس وسر عسكر بابل المدعو بيليزيس، واتفقا على خلعه من السلطنة، وجمعا ٤٠٥٠٠ فارس وهجما بهم على آشور وحاصرا سردنبال، فلما يئس من الحياة جمع أمواله ونساءه وخدمه في قاعة من قاعات سرايته، وأشعل فيها النار، واحترقت الدار بما فيها، وحرق نفسه ومن معه. واستقل أرباس بحكم ميد وبيليزيس بحكم بابل، وذلك سنة ٧٨٩ق.م، وزالت الدولة الآشورية الأولى.
(١-٣) الدولة البابلية الأولى وذكر فول من ٧٨٧–٧٤٧ق.م
وبعد خراب مدينة نينوى كان الميديون قد اكتفوا باسترجاع استقلالهم وخروجهم عن طاعة الدولة الآشورية، ولكن القائد البابلي أو الكلداني المدعو باسم فول «بيليزيس المذكور» استولى على الأقاليم الآشورية وجعلها تابعة لبلاد بابل وضم إليها بلادًا أخرى، ثم إن «فول» المذكور نزل على سوريا، وكان السوريون مقتسمين المملكة؛ عشرة أسباط منهم في سوريا، وقاعدة ملكهم مدينة السامرة، وسبطان «يهوذا وبنيامين» كانا يسكنان بلاد فلسطين أو كنعان، وقاعدة ملكهم أورشليم، فلما أغار فول على هذه البلاد وقاتله ملك الأسباط المدعو مخيم الإسرائيلي، وانتصر عليه فول المذكور استولى على أكثر ولايات سوريا حتى دفع له مخيمًا ألف طونولاته من الفضة.
(١-٤) الدولة الآشورية الثانية
ولم تدم غلبة الكلدانيين على البلاد الآشورية إلا لغاية وفاة الملك فول سنة ٧٤٧ق.م، ثم قامت الحروب على قدم وساق بين الآشوريين والكلدانيين مدة ثلاث سنين، وتمت أخيرًا بهزيمة البابليين، وتقلد تجلات فلصر بملك الآشوريين والبابليين بما أنه كان رئيس هذا الهيجان، وذلك سنة ٧٤٤ق.م، ولما حكم تجلات المذكور حارب الأراميين وانتصر عليهم مرارًا، وفي وقتها نزل قوم من الأراميين سكان الجزيرة حاربوا اليهود وانتصروا عليهم، فاستنجدوا بتجلات المذكور فأنجدهم بجيوشه وقاتل الأراميين وحاصرهم مدة في القدس ثم افتتحها وسبى أهلها.
الملك سلمنصر بن تجلات فلصر من ٧٢٧–٧٢٢ق.م
كان ملكًا جبارًا يحب الغزو، ولما حكم أغار على ملوك سوريا وأهلك كثيرًا من الإسرائيليين، وأخيرًا دفع له الجزية يوشع ملك الإسرائيليين بعد ما أسر ملوك الأسباط العشرة، وأدخل مدينة السامرة تحت حكمه وحمل أهلها إلى آشور، وأتى بطائفة من الآشوريين وأسكنهم فيها، ثم نزل على الفنيقيين وقاتلهم، وحاصر مدينة صور تخت ملكها مدة سنة ثم تركها وعاد إلى بلاده، وبهذا الملك انقرضت العائلة الملوكية الآشورية؛ إذ كانوا انقرضوا بالكلية ولم يوجد منهم من يلي المرتبة السلطانية، واجتمع الأعيان وقلدوا بمنصب الملك رئيس الجنود المدعو «سرجون» الآتي ذكره.
ذكر سرجون من ٧٢٢–٧٠٤ق.م
وقد كان هذا الملك من أعظم الملوك أرباب الغزو والجهاد، وإن كانت مدته قد مكثت مدة قصيرة لكنها قد ألفت على وجه التاريخ بهجة عظيمة؛ لأن الملك سرجون في مبادي حكمه كان قد أخذ مدينة «السامرة» وأخربها بالكلية، وحارب الملك سباقون الحبشي ملك مصر وغلبه في واقعة «رافيا» ببلاد الشام سنة ٧٢١ق.م ثم شنَّ الغارة على بلاد أرمينيا حتى أدخلها تحت الطاعة إلا أشياء قليلة منها، وفتح بلاد فلسطين سنة ٧١٠ق.م، وكذلك جزيرة قبرص سنة ٧٠٨، وكانت هذه الجزيرة محكومة في ذلك الوقت بجملة ملوك طوائف صغيرة أصل أكثرهم من اليونان، وفي آخر حكمه اختط مدينة «خورازاباد» بدلًا عن مدينة نينوى من بعد خرابها، ومات مقتولًا في سنة ٧٠٤ق.م؛ حيث قتله جماعة من أرباب الفتن ببابل.
ذكر سنحاريب بن سرجون ٧٠٤–٦٨١ق.م
كان شجاعًا صاحب حروب وغزوات كثيرة، ولما حكم آشور وبابل جهز الجيوش لقتال اليهود، ونزل على فلسطين وقاتل أهلها، فاستعان عليه اليهود بملك مصر سباقون الأتيوبي، فأنجدهم بجيوشه، فكسره سنحاريب — كما تقدَّم — وحاصر بيت المقدس، وكان على اليهود في ذلك الوقت حزقيا الصالح، فلما ضاقت نفوسهم من شدَّة الحصار تضرعوا إلى الله سبحانه وتعالى، واستغاثوا به، وكان فيهم النبي أشعيا، فلما أصبح سنحاريب ورأى جيشه قد تلف منه عدد عظيم خاف على نفسه، ورجع إلى بلاده ودخل نينوى، والتفت إلى تنظيم المباني، وبناء الهياكل والمعابد، وكانت عادته إذا زار الأصنام يسجد لها مدة، ففي يوم دخل هيكلًا بعد ما تبرك بصنمه سجد طويلًا، فدخل اثنان من أولاده وقتلاه، ثم خافا من أخيهما الثالث وكان جبارًا، فهربا إلى جبال الموصل في أرمينيا واختفيا هناك، ثم أتيا إلى بيت المقدس، واستجارا بحزقيا ودخلا في ملته.
ذكر الملك آسارادون بن سنحاريب من ٦٨١–٦٦٨ق.م
حكم آشور وبابل، وأخذ في الغزوات، وكان ملوك الأسباط بعد سنحاريب قد استقلوا بملكهم فنزل عليهم وقاتلهم كثيرًا، ودخل مدينة «السامرة» بالسيف وسبى أهلها، وبعد انتصاره على سوريا، نزل فلسطين وقاتل اليهود، وأسر منشا بن حزقيا ملك اليهود واستولى على كنعان وديار مصر، ثم اعتراه المرض وأحس بالعجز عن القيام بواجب الملك فتنازل عن سرير المملكة لولده البكري المدعو آسور بانيبال في سنة ٦٦٨ق.م.
ذكر آسور بانيبال ٦٦٨–٦٤٧ق.م
كان هذا الملك هو آخر الملوك الآشوريين المجاهدين، وهو الذي يعرف عند اليونان باسم سردانابال الثاني، ومكث مدة ثلاث سنوات متواليات بالديار المصرية وهو يقاتل الملك «طهراقه» ملك الأتيوبيا، وينازعه في مملكة مصر، واستولى على مدينة طيبة «بالصعيد» مرتين، وأسلمها إلى السلب والنهب، ثم انتهى أمره لِأَنْ ترك الديار المصرية؛ حيث رأى أن مُلك مصر يحتاج إلى كثير من المشقة والتعب، وكان له أخ يُدعى «سامو لسموجان» كان عاملًا من طرفه على بابل، فقام عليه وأراد أن يستقل بنفسه، ورفع لواء العصيان، واستعان في ذلك بملك بلاد العرب، وذلك في سنة ٦٦٣ق.م، ووقعت بينهما حروب عظيمة دارت الدائرة فيها على جنود القوم الخوارج، فهزمهم ملك نينوى، وأخذ أخاه أسيرًا ثم أطلق سبيله وعفا عنه، ولما توفي آسور بانيبال تملك على مملكة نينوى ولد له يدعى باسم «آسور ديليلي»، وفي أيامه خرج عليه ملك الميديين «فراوورت»، وأغار على بلاد آشور فقابله «ديليلي» هذا بجيوشه في مضايق الجبال الكائنة بتلك البلاد في سنة ٦٣٥ق.م، وحصلت واقعة وقتل بها الملك «فراوورت» المذكور، وهلكت الجيوش الميدية، وهذه غاية نصرة عسكرية حصلت على يد ملوك الطبقة الثانية بمدينة نينوى، وكان موت الملك آسور ديليلي سببًا في ظهور الفتن والاختلال في بلاد السلطنة الآشورية، فحضر ملك الميديين «سياكزار» بجنوده أمام مدينة نينوى، وحصرها وضيق عليها، وكان العامل الكلداني المدعو «نابو بولصر» قد أثار الفتنة في مدينة بابل، وأعلن لنفسه بالسلطنة فيها، وكادت مدينة نينوى أن تسقط لولا ما حصل في ذلك العصر من إغارة القوم السيتيين «قبائل يأجوج ومأجوج» على بلاد الميديين سنة ٦٢٥، فرجع الملك سياكزار من الحصار، وأراد أن يوقف إغارة هؤلاء الأقوام، ومكثت الإغارة المذكورة مدة ١٩ سنة، وكان الملك «ساروق آسور آفوس» قد قبض على قضيب الملك بمدينة نينوى في تلك المدة، وبعد خروج السيتيين من البلاد الميدية عاد سياكزار إلى ما كان عليه، وحاصر مدينة نينوى، وأخذها بعد قتل الملك «ساروق» وحرق القصور والهياكل العديدة، وصارت مدينة نينوى عبارة عن تلال وأطلال متهدِّمة، وذلك سنة ٦٠٦ق.م وهذا هو خراب مدينة نينوى الأكبر؛ لأنها لم تعد للعمارة مرة أخرى بعد ذلك.
(١-٥) الدولة الكلدانية أو البابلية الثانية
ذكر نابوكودو نوزور ٦٠٧–٥٥١ق.م
وهو المعروف عند مؤرخي العرب باسم بختنصر الجبار، تولى بعد موت أبيه نابو بولصر سنة ٦٠٧ق.م، وهو أشهر ملوك بابل وأعظمهم، ففي مبدأ حكمه نزل بلاد الموصل ودخلها بالسيف ثم حارب الإسرائيليين، ونزع منهم أيالات سوريا، وكانت وقتئذ فلسطين أيالة خراجية يحمل ملكها يهوياقيم الجزية سنويًّا إلى نيخاؤس ملك مصر، فلما فتح بختنصر سوريا حمل إليه يهوياقيم الجزية بدون قتال، فتحول عنه وسار لقتال الفنيقيين، وحاصر مدينة صور، وفي هذا الوقت عصى «يهوياقيم» فعاد إليه بختنصر وأسره وحمله إلى بابل ومعه طائفة من الأحبار «علماء العبرانيين»، وكان منهم دنيال عليه السلام، وعاد بختنصر إلى محاصرة سوريا، وكان قد تولى على اليهود «يخنيو» بن يهوياقيم فعصى على بختنصر، فأرسل إليه وحمله إلى بابل فمات بالطريق، وولى مكانه عمه المدعو صدقيا، فجمع اليهود وعصى على بختنصر بمساعدة ملك مصر المدعو «أبرياس»، فأتى ملك بابل، وقتل خلقًا كثيرًا من اليهود وأسر صدقيا، وكحله بالنار وقتله ونهب أمتعة بيت المقدس وحرقها، ولحق القدس الخراب الأكبر، وهو الخراب الثاني، وذلك سنة ٥٨٨ق.م وتشتت اليهود في البلاد، وأتت منهم طائفة إلى مصر، فاجتمعت بفرعون مصر «نيخاؤس»، فطلبهم بختنصر منه، فأبى وتجهز لمحاربته، والتقيا المصريون والبابليون في مدينة «قرقيش» جهة الفرات، وكُسر «نيخاؤس» ودخل مصر مهزومًا، وعاد بختنصر إلى صور ودخلها بالسيف، ونهبها وسبى أهلها، بعد أن حاصرها مدة ١٣ سنة، وبعد رجوعه إلى بابل تجبر وتنمرد، ودعا الناس إلى السجود لتمثاله، وفي آخر حكمه سُلب عقله، فترك المملكة وخرج إلى الغابات وأقام بها، وصار يقتات بالحشائش، وفي هذه المدة كانت امرأته «نيتوكريس» تدبر الأمور، ثم إنه شُفي من مرضه وعاد إلى المملكة، وحكم سنة واحدة ومات.
ذكر الملك بلطازار
وهو آخر ملوك الدولة البابلية الثانية، تولى ملك بابل وآشور، وعلق على اللذات، فترك الأمور للحكام، وفي ذات يوم جمع أحبابه وندماءه في وليمة أعدَّها لهم، وكان يوم عيد عند البابليين، فبينما هم في حالة الأنس وشرب المدام؛ إذ فاجأهم «قيروش» بجنوده الفارسيين، ودخل المدينة من مجرى النهر على حين غفلة من أهلها، فاتفق أن أحد قواد عسكر العجم المدعو باسم «دارا الميدي» المكلف بهذه الإغارة الليلية قتل بلطازار بيده فكافأه مولاه بأن قلده الولاية السترابية على بابل، وبذلك زالت مملكة آشور وبابل بالكلية سنة ٨٣٥ق.م.
(٢) في تاريخ الميديين والعجم
بلاد ميد عبارة عن أرض أزربيجان، وهي تحدُّ من جهة الشمال ببحر الخزر وبلاد أرمينيا والغرب ببلاد آشور الأصلية، ومن جهة الجنوب ببلاد فارس، ومن جهة الشرق بالبلاد المسماة ببلاد الفرثية، وهي القطر الكائن بشرقي العراق العجمي وغربي خراسان الآن، وجبال الخزر تستر سائر سطح الجهة الشمالية منها، وفي تلك الجهة أيضًا ما يوجد من الأنهار، وذلك غديران يسمى أحدهما باسم فورش أوقور، والثاني يسمى آراس. وقد كانت مدنها الأصلية في سالف الأزمان كل من مدينة إيكباتان — وهي المعروفة الآن بهمدان — ثم مدينة «راجيس» أي مدينة الري الآن.
أما حدود بلاد فارس أو فارستان، فقد كانت في سالف الأزمان عبارة عن الأرض المحصورة ما بين بلاد ميد المذكورة أعلاه والخليج الفارسي من جهتي الشمال والجنوب، وبلاد الكرمان وبلاد بابل من جهتي الشرق والغرب، وفيها من جهتي الشمال والغرب جبال لا يمكن منها الدخول إليها إلا بغاية الصعوبة، وكانت مدنها الأصلية في سالف الأزمان كلًّا من مدينة برسبوليس — ولعلها الآن إتشهيل منار أو إستخر — ثم مدينة «بازار جاد» وهي مدينة «بازا أو فازا».
(٢-١) ديانة الفرس والميديين
وكانت ديانة الفرس تمتاز بصفة روحانية عن ديانة الآشوريين، فإن الفرس كانوا يعترفون بوجود ذات عليَّة لا يحويها مكان، وكانوا يعبدون النار ويعدونها كأشرف العناصر.
واعلم أن الذي أسس دين القوم الفارسيين في سالف الأزمان هو زرادشت، ولم يتحقق تاريخ مضبوط لوقت وجود هذا الرجل، إلا أن الأقرب للصحيح أنه قد كان في القرن الخامس أو السادس والعشرين قبل المسيح عليه السلام، ولا يُعلم شيء ثابت صحيح فيما يتعلق بحياة زرادشت المذكور، غير أنه قد كان هو المنشئ للمذهب الديني الذي اسمه لغاية الآن مشهور، وقد دون أحكامه الدينية في كتاب يعرف الآن باسم «زندوستا»، ولا يُعرف له أيضًا وطن معين، ويقال إنه كان في بلاد بكتريان.
أورموزد وأهريمان
وقد كان أورموزد في اعتقاد زرادشت ومن تبع دينه عبارة عن إله الخير فيقولون بأنه هو الذي خلق الخلق، وهو الروح العاقل الحكيم، ويعبر عنه بروح القدس وأصل الخير، ويتصور عندهم بالنور والشمس، والنار يدعونها بصفة ولده، وأنه خالق كل شيء، وله إله آخر، وهو على الدوام والاستمرار خصم له، وأن إله الخير في نزاع مستمر بقصد أن يتسلطن عليه ويعلو فوقه، وأنه هو الروح الخبيث أو أصل الشر، ويدعونه باسم «أهريمان» ويقال إنه خلق الشر والموت، ولا بد أن يأتي عليه يوم في آخر الزمان يغلبه إله الخير ويعلو عليه، ويستحيل إله الشر إلى حالة العدم، وتعود الخليقة كما كانت قبلُ من الصفو والنقاوة، ويذهب أهريمان المذكور إلى حيث لا يرجع، ويسمى مذهب زرادشت هذا بالديانة المزدية، وأما ديانة المجوس عبارة عن مذهب اعتزال ناشئ عن أصل دين زرادشت، مبني على عقيدة التثنية الإلهية، كدين المزدية، غير أن الفرق بينهما أن المجوس يعتقدون مساواة الأصليين أرموزد وأهريمان اللذين هما إله الخير وإله الشر عندهم، ويتعبدون لعدد عظيم من الآلهة المتعددين والأصنام المعبودين؛ حيث سرى لهم ذلك من ديانة الأمم المجاورة لهم، لا سيما الآشوريين، وهذا أمر مناقض بالكلية لأصل شريعة زرادشت الأصلية.
(٢-٢) ذكر الدولة الميدية
أرباس والدولة الجمهورية الميدية
قد تقدم أن أرباس وفول البابلي قسما المملكة الآشورية قسمين، واستقل كل منهما بقسم، وبعد هذه الفتنة استقر «أرباس» في بلاده الأصلية، إلا أنه لم يكن فيها ملكًا حقيقيًّا، بل كان قائدًا عسكريًّا، ورئيسًا جهاديًّا لملة مرتبة ترتيبًا سياسيًّا أساسيًّا على هيئة ما يُعرف الآن عند الأمم المتأخرين بالحكومة الجمهورية، وبقي الحال كذلك حتى لحقته الوفاة، فاستمر الميديون على تلك الهيئة الجمهورية من بعد وفاته، غير أنهم لم يوجد فيهم من يقوم بأشغالهم، فتفرق شملهم وتمزق حالهم، وبعد زمن قليل قامت الدولة الآشورية من سقطتها في أسرع وقت وأعادت قوَّتها العسكرية، فقامت هذه الدولة وعزمت على إعادة الدول التي كانت خرجت عن طاعتها لولا تعصبات الأمم عليها، وقد كادت بلاد ميد أن تقع في حبالة أسر الدولة العراقية بالثاني، ثم استمروا على ما هم عليه إلى أن اجتمعوا في هيئة دولة واحدة قوية، واتخذوا هيئة الحكومة الملوكية.
ذكر ديجوسيس، ومنشأ ترتيب الملك ببلاد الميديين
كان هذا الملك في مبدأ أمره رجلًا معتبرًا في قومه، فبذل جهده بأن يقضي بالحق بين أهل عشيرته بخلاف سائر القبائل الميدية الأخر، ولما شاهد أهل بلاده حسن سيرته ولَّوْه عليهم قاضيًا، فسلك في جميع أعماله مسلك العدل والاستقامة، واستمروا على ذلك إلى أن ولوه ملكًا عليهم، وبعد ذلك أمرهم بأن يشيدوا له قصرًا يليق بمرتبته ويرتبوا له حرسًا يقومون بحفظ ذاته، فامتثلوا لذلك الأمر، وبنوا له في المكان الذي أشار إليه عمارة جسيمة متسعة حصينة، ودار مملكة جميلة متينة، وأباحوا له أن ينتخب من شاء من جميع أفراد الأمة، ليكونوا لنفسه طائفة حرس ملوكية، وبمجرد أن صعد على سرير الملك أخبر الرعية على أن يبنوا له مدينة ويزينوها بأنواع الزينة ويحصنوها بالقلاع، فأذعنوا إليه كل الإذعان، وشيدوا له ما أمرهم به، وهي المسماة في ذلك الوقت باسم «إيكباتان» وهي مكانها الآن «همدان».
ذكر الملك فراوورت من ٦٥٧–٦٣٥ق.م
ولما مات الملك ديجوسيس تولى بعده ولده المدعو فراوورت، وكان ملكًا مغازيًا محبًّا للجهاد، ولا نعلم شيئًا صحيحًا من أخبار أوائل مدة حكمه غير ما يظهر لنا من أنه كان قد أشغلها بطرد الآشوريين من سائر الأماكن التي كانوا لم يزالوا عليها مستولين من بلاد ميد، ولم يبتدئ في مغازيه الكثيرة إلا في سنة ٦٥٠ق.م، فأطاع أولًا بلاد فارس الأصلية، وكانت في ذلك العصر قد أخذت في أن تتكون في هيئة مملكة متحدة بعد أن كانت قد مكثت مدة مديدة وهي متجزئة إلى عدة قبائل صغيرة متعددة، وكان ملك الفرس المُسمى عند اليونان باسم آشيمينوس هو آخر ملك استقل بمملكة فارس الأصلية، ثم حاربه الملك «فراوورت»، وأدخله تحت طاعته، وإليه نسبت العائلة الأشيمينوسية، وهي التي تسمى عند العرب والفرس بعائلة الكيانية.
ولم تكُ همة هذا الملك قاصرة على فتح تلك الجهات، بل إنه أطاع لدولته سائر الأمم المتوطنين وراء جبال «هندوكوش»، وأدخل أيضًا بلاد بكتريان «وبكترية» وملحقاتها من ولاية «هركانيا» والمرجيان والسوجديان تحت طاعته، وكانت الأمة الأرمينية مذعنة بالتبعة لسلطنته، وحيث كان الملك فراوورت قد استولى على جميع هؤلاء الأمم، وبذلك جعل المملكة الميدية سلطنة جهادية متسعة ودولة عسكرية حربية، وظن أنه يمكنه الاستيلاء على مدينة نينوى، وكانت قامت من سقطتها لسالف بهجتها وعظمتها بعناية الملك ديليلي، وشرع في أن يطيعها لدولته، لكن خاب أمله، وهلك هو وجنوده جميعًا، وذلك في سنة ٦٣٥ق.م.
ذكر الملك سياكزار من ٦٣٥–٥٩٥ق.م
ولما مات الملك فراوورت تقلد ابنه المسمى «سياكزار» بملك الميديين، فكان أكثر حبًّا للجهاد من والده، وفي مبدأ أمره خرجت عن طاعته أمة الفرثيين، فسار إليهم بجيشه وحاربهم وأطاعهم، ثم عزم على تتميم قصد والده، وهو فتح مدينة نينوى، ولحسن تدبيره وسياسته تعاهد مع ملك الكلدانيين، وهو نابو بولصر. وزوج ابنته لابن ملك الكلدانيين المذكور، وهو بختنصر السابق الذكر بشرط أن يقتسما دولة بني آشور، فاجتمع جيش الميديين مع الكلدانيين، وأغاروا على مملكة آشور، وذلك بعد وفاة ملكها «ديليلي» سنة ٦٣٥، وحاصروا مدينة نينوى، إلا أن في ذلك الوقت نزل أقوام عديدة من السيتيين وشنوا الغارة على سائر البلاد الميدية، فرجع الملك سياكزار من الحصار وأراد أن يوقف إغارة هؤلاء الأقوام، فلم يمكنه وانهزم، واضطر لِأَنْ يصير تحت طاعة هؤلاء الأقوام المتوحشين، واستمروا مدة ١٩ سنة يخربون في بلاد آسيا إلى أن وصلوا إلى الديار المصرية، ثم قام الميديون وأشهروا لواء العصيان وطردوا من كان عندهم من هؤلاء الأقوام.
وبعد ذلك قام الملك «سياكزار» وجدد المعاهدة مع نابو بولصر لتنفيذ ما كان قد عقد عزيمته عليه، وتحبب إليه العزم على خراب مدينة نينوى، فقاما لحصار تلك المدينة، وظفرا بها تمام الظفر، وقسما البلاد الآشورية إلى قسمين، فأخذ الميديون جهة الشمال، واستولى البابليون على جهة الجنوب، ثم بعد ذلك بثلاث سنوات — أعني سنة ٦٠٣ق.م — حصلت حروب بينه وبين ملك الليديين، تمت هذه الحروب أخيرًا بالصلح بينهما، وتزوج ابن الملك «سياكزار» المدعو «إستياج» بابنة الملك أليات ملك الليديين.
ذكر الملك إستياج وزوال مملكة الميديين من ٥٩٥–٥٦٠ق.م
وكان إستياج بن سياكزار المذكور قد خلف أباه على سرير الملك في سنة ٥٩٥ق.م، وكان ملكًا ظالمًا، لا فخر ولا مجد له. وكان قد رأى في المنام أنه يعزله عن سرير مملكته ابن بنته المسماة باسم «مندانه»، وكان قد زوجها بولد من ذرية العائلة الفارسية القديمة، يُدعى قمبيز — غير قمبيز الذي فتح مصر — فأراد أن يقتل الطفل الذي ولد لهما عند ولادته وهو «قيروش»، وكلف بهذه المأمورية رجلًا من كبار ضباطه يقال له هرباجوس، وهذه القصة مبنية على ما حكاه أهل فارس نفسهم في حكاياتهم الأهلية ورواياتهم التاريخية، أن هرباجوس المذكور لما أمره الملك إستياج بفعل هذه المأمورية أخذته الرأفة على هذا الطفل، فألقاه عند راع من الرعاة، فلما كبر خرج ذات يوم يلعب مع الأطفال، ويجري صورة رسوم المملكة عليهم، ويلقي الأوامر العلية إليهم، فعرفه الملك بتقاطيع وجهه فأخذه إلى قصره وضمه إلى دولته، وانتقم الملك من هرباجوس المذكور بأن أطعمه لحم ابنه في هيئة لحم جديٍ مشويٍّ، فحقد هرباجوس المذكور، وحمل قيروش على الخروج عن طاعة جده وساعده على ذلك، فعمل الحيلة، وتوصل لأن أشعل نيران الفتنة والعصيان عند أبناء أوطانه الأصليين؛ أعني الأقوام الفارسيين، وكان الملك إستياج قد أساء التدبير؛ إذ قلد هرباجوس هذا برياسة جنده المتوجه لقمع الفتنة لداعي ما كان قد أسرَّه في باطنه من الحقد عليه بما أجراه من ذبح ولده وإطعامه إياه، فترك راية الظفر ومزية الغلبة لرئيس جند القوم الفارسيين على الميديين، فقام الملك بنفسه على رأس جنوده، وأراد أن يدفع الجنود الفارسية فلم ينجح ووقع نفسه في يد أعدائه، وكان قد مكث على سرير السلطنة مدة ٣٥ سنة، وهو آخر ملوك الدولة الميدية.
(٢-٣) تاريخ الفرس القديم
ذكر قيروش ٥٥٩–٥٤٥ق.م
وكانت هزيمة «إستياج» المذكور وافتتاح بلاد ميد أن صار بيد الملك قيروش «كسرى الأول» الولاية السلطنية على سائر البلاد التي كانت تابعة للسلطنة الميدية، وصار له اليد العليا، خصوصًا على الأمم الإرانيين المتوطنين فيما وراء جبال «هندوكوش» وصحارى بلاد القرمان، فبادر بوضع اليد بالفعل عليها، وأجرى رسوم السلطنة بالعمل فيها، وقد كان ذلك الأمر سهلًا عليه؛ إذ كان سائر الملل يميلون إليه.
ولما كانت بلاد بكتريان معرضة لكثرة إغارات الأقوام الأغراب، وتكرر سقوط هؤلاء القبائل المتوحشة عليها بالقتل والنهب، كان أول ما تعلقت به همة الملك «قيروش» أن ابتدأ لقصد الحصول على الأمن فيها بأن حارب القوم التورانيين (المسمين الساسيين) وهم قوم من أقوام «يأجوج ومأجوج» كانوا قاطنين حوالي ينابيع نهر سيحون «سيرداريا»، فغلبهم وانتصر عليهم وأسر ملكهم المسمى «آمورجيس»، وجعل بلادهم سترابية أي محكومة بحاكم يُدعى ستراب «أي مرزبان» بمعنى العامل على إقليم من أقاليم الدولة الفارسية، وفتح البلاد المجاورة لجبال القوقاز بعد أن قاسى فيها مُقاساة عظيمة، وهلك منه أناس كثيرون، وقد أدخل تحت طاعته كلًّا من إقليمي طاغستان والجرج والأقوام المدعوين باسم «الكولشيديين» سكان إقليم كولشيدة، (وهو المعروف الآن بولايتي إيمرسيا ومنغوليا)، وكذا الأقوام الذين كانوا قاطنين في الجبال الكائنة على الساحل الجنوبي الغربي من بحر الخزر وهم المارديون والمكرونيون وأمة الطبرانيين، وهم قوم كانوا مشهورين عند الأمم السالفين من أقدم الأعصار السالفة بعمل المصنوعات المعدنية، وباختراع حديد الصلب كلهم كانوا أطاعوا لصَوْلَته، ودخلوا تحت أسر دولته، وبذلك صار قيروش الفارسي المذكور مستوليًا على سائر الأقطار الكائنة بآسيا الصغرى — بلاد الأناضول الآن — إلى حد نهر قزيل يرموق.
وكان «كريزوس» ملك الليديين — أمة بآسيا الصغرى — معاصرًا لقيروش، وكان هذا الملك مشهورًا بغناوته، فاتفق ذات يوم أنه وجد أحد فلاسفة اليونان المدعو «سولون» في معيته، فسأله: هل يوجد أحد في الدنيا أغنى مني؟ فجاوبه هذا الفيلسوف اليوناني قائلًا: إن الإنسان لا يعد نفسه غنيًّا إلا إذا انقضت باقي أيامه بالسلم. فلم تمضِ مدة من الزمن إلا وقد ثبت كلام هذا الفيلسوف الأجنبي.
وبعد أن أخضع قيروش آسيا الصغرى، هجم على مدينة بابل، ولم يمكنه الاستيلاء عليها؛ بالنسبة للحصون والقلاع المحصنة، فتصنع بحيلة، وهي أنه أمر بتحويل مياه نهر الفرات إلى بحيرة صناعية، فنقصت المياه إلى أن صارت لقرب الرضفة، فدخل الفرس المدينة؛ حيث كانت الأهالي مشتغلة بيوم العيد، فلم يروا إلا مساء دخول الفرس عليهم، واستولى قيروش على المدينة، وقَتل أحد قواده المدعو باسم «دارا الميدي» الملك بلطازار بن نابونيد كما تقدم.
وبعد ذلك بسنتين ترك سبيل القوم العبرانيين الذين كانوا بمدينة بابل مأسورين، وأذن لهم ببناء هيكل أورشليم «بيت المقدس» بالثاني، وذلك سنة ٥٣٦ق.م.
وبعد أن أتمم فتوحاته رجع إلى محاربة الماساجيتيين، أمة من السيتيين، «يأجوج ومأجوج، قوم من الأتراك» كانوا قاطنين حوالي شاطئ بحيرة الخزر، فلم يمكنه إطاعتهم، فتصنَّع الملك بترك معسكره، فدخل جند الماساجيتيين، وشربوا النبيذ الذي تركوه الأعجام فغابت عقولهم، فعاد قيروش ومن معه، وقتلوا خلقًا كثيرًا منهم، فقتل ابن ملكتهم «توميريس»، فأرادت هذه الملكة أن تأخذ بثأر ولدها، فعقدت الحرب والقتال مع ملك فارس، فتم الأمر بنصر الماساجيتيين على الأعجام، وقتل قيروش في أثناء ذلك، ويقال إن «توميريس» المذكورة قطعت رأسه وغمرتها في قربة مملوءة بدم القتلى وهي تقول: «فلأشبعنك من دم البشر الذي كنت ترتوي منه مدة حياتك.» ومات قيروش سنة ٥٢٩ق.م، وترك ولدين الأكبر منهما يُدعى قمبيز، كان قد تقلد من بعده بتاج المملكة الفارسية، والأصغر يدعى «سمرديس» كان قد تقلد بالعمل على ولاية بلاد بكتريان من أعمال سلطنة فارس، بشرط أن لا يدفع لأخيه خراجًا، وإنما يعترف له بالأعلوية السياسية، ولما تولى قمبيز وجد همته لِأَنْ يشهر نفسه بالفتوحات، فقام أولًا لفتح الديار المصرية كما تقدم.
(٣) في تاريخ الليديين
اعلم أن مملكة الليديين كانت مملكة واقعة في غربي آسيا الصغرى، وكان قيروش فتحها بعد أن فتح مملكة الميديين، وكان تختها مدينة «سردوس»، وهي مدينة على ملتقى نهري بكتول وهرموس، وكانت مياه نهر البكتول، تحتوي على صفائح ذهبية، ومن هناك أتت ثروة ملوك ليديا التي طالما بولغ في كثرتها.
(٣-١) ذكر قندول وجيجيس
وقد مكثت هذه المملكة مدة طويلة وهي خاملة الذكر، وكان يحكمها الهرقيليون «أي ذرية هرقول»، وآخر الهرقيليين هو «قندول»، وقد حكى أفلاطون وسيسورون أن أحد رعاة الملك المسمى جيجيس وجد في صورة حصان من نحاس أصفر خاتمًا عجيبًا خاصيته إخفاء من كان حامله عن أعين الناس، فأخذه جيجيس، وبواسطة هذا الطلسم دخل قصر قندول وقتله واغتصب الملك، وهذه القصة رويت عن هيرودوت ورويت بعبارات أكثر قبولًا للعقل من هذه، وهي أن سبب قتل الملك قندول أنه ذات يوم أمر امرأته أن تكشف وجهها على جيجيس، فلما وجدت ما حصل لها من الإساءة؛ حيث كانت هذه العادة مذمومة عند أهل الشرف، فعزمت الملكة على أن تعاقب من أخل بشرفها، وعزمت أن لا تخلي سبيل جيجيس، وقالت له: «إما أن تقتل قندول الملك وإما أن تقتل نفسك»، وبناءً على ذلك قتل الملك وجلس على كرسي الملكة، وذلك سنة ٧٣٨ق.م.
إغارة السميريين على آسيا الصغرى
وكان لليونان جملة نزل على سواسل آسيا الصغرى، وهذه النزل كانت تمنع الليديين من الوصول إلى البحر، فقام جيجيس المذكور، وحارب سكان النزل اليونانية، واستولى على مدينة كلوفون، فلما مات سنة ٧٢٠ق.م قام ابنه المدعو أرديس، وأخذ مدينة بريين وهدد مدينة «ميلته» ثم هلك هو وجيوشه في إغارة السميريين الذين طردهم السيتيون من بلادهم، فأتوا إلى آسيا الصغرى وهجموا عليها هجمة السيل على الأباطح، فأغرقوها في بحر ظلمهم، ودخلوا مدينة «سردوس»، ولا نعلم ما فعلوه هؤلاء الأقوام، لكنهم قد انقرضوا بالحروب شيئًا فشيئًا، وفي سنة ٦١٧ق.م قام «أليات»، وطرد من بقي منهم من بلادهم، وكان في ذلك العصر حصلت إغارة السيتيين على بلاد ميد كما تقدم.
وفي سنة ٦١٠ق.م حصلت بين الليديين والميديين حروب طويلة انتهت بالصلح عندما شاهدوا حادثة كسوف الشمس، وتزوج إستياج بن سياكزار ملك ميد بابنة ملك الليديين «أليات»، وحصل بين الفريقين جملة مواثيق وعهود.
(٣-٢) ذكر كريزوس بن أليات
ولما مات أليات قام بالأمر بعده ابنه «كريزوس»، وهو آخر ملوك هذه الدولة، وكان ملكًا قد اشتهر في الأزمان السالفة والأحقاب الخالية بالغناوة والثروة، فلما علم بأن قيروش هزم إستياج صهره قام لمساعدته كما تقدم، فالتقى مع جيوش الفرس، ووقعت بينهما مقتلة شديدة هلك فيها نفوس عديدة من الطرفين، إلا أنه لم تتحقق النصرة لأيٍّ من الفريقين حتى دخل الليل، فانتهى بذلك الحرب، فعاد كريزوس إلى مدينة «سردوس» التي هي قاعدة سلطنته ومركز حكومته وبعث يطلب المدد من الديار المصرية وبابل ولقدمونيا «ببلاد اليونان» لما كان بينه وبينهم من العهود، وعزم على أن يعود بالحرب في فصل الربيع الآتي، ثم بلغ الخبر ملك الفرس بأن كريزوس اعتمد على طول المدة وفرق شمل جنوده، فبادر في الحال ملك الفرس وحاصر مدينة سردوس، فجمع ملكها ما قدر عليه من العساكر، والتقى الصفان والتحم الجيشان في سهل متسع عظيم مكشوف أمام مدينة سردوس المذكورة عند ملتقى نهري هيلوس وهرموس، وهو النهر المعروف الآن بنهر «شرابات أو القادوس» بالقرب من مدينة أزمير، فهزمت الجيوش الليديون شر هزيمة، وانحصر الملك كريزوس في مدينته أربعة عشر يومًا من ذلك الحصار، هجم ملك العجم بجنوده على تلك المدينة، فدفعهم القوم المحصورون في أول الأمر، وكان بعض جنود الفرس قد لحظ بالأمس طريقًا يوصل إلى مكان من سور القلعة، فأرشد إخوانه إليه، وصعد عليها وتبعه كثير من أصحابه، وبذلك دخل قيروش المدينة وزالت مملكة الليديين.
(٤) في تاريخ الكنعانيين والفنيقيين
وقد كانت مدائن الكنعانيين من أول الأمر على سواحل الخليج الفارسي في إقليم بلاد العرب المعروف الآن باسم «القطيف أو البحرين»، وفي سنة ٢٥٠٠ق.م تقريبًا كانوا قد اضطروا للخروج من مساكنهم الأولية هذه، إما لداعي زلازل أرضية وقعت فأخرجتهم منها كما ذكر ببعض الروايات، وإما لداعي حروب حصلت بينهم وبين ملوك بابل، وكانوا قد انتصروا عليهم فيها فاضطروا للمهاجرة من أوطانهم الأصلية، وهاجروا كلهم منها إلى بلاد الشام، ولما استقروا بها تغلبوا على تلك البلاد ووضعوا اليد عليها، وتفرقوا هناك إلى فروع عدة؛ طوائف منهم مكثت ببلاد فلسطين، وبعضهم مكث بين جبل لبنان والبحر المتوسط، ومنهم قبيلة تعرف باسم «الهينيين» استقرت بوادي نهر العاص، وقسم أغار على مصر مسترشدًا بجماعة من القوم «الهينيين» المذكورين واستولوا عليها، وهم المعروفون باسم أمة الهكسوس السابقة الذكر.
أما أمة الفنيقيين الموصوفة بالجراءة والنشاط وحب السفر لما رأت نفسها محصورة بين جبل لبنان والبحر الأبيض، وجهت همتها للملاحة والتجارة، فامتدت أسفارها لأقاصي العالم المعروف وقتئذ، وبهذا زادت ثروتها وقوتها حتى فاقت عن غيرها في الصنائع التي منها معرفة عمل الزجاج الذي أخذته هو وباقي معارفها من المصريين، وقد اشتهرت منسوجات الفنيقيين المصبوغة باللون القرمزي، كما وأنه ينسب إلى هذه الأمة اختراع فن الكتابة التي وصل منها إلى اليونان، وقد اشتهرت مدن فنيقيا منها مدينة صيدا وصور.
(٤-١) مدينة صيدا
وبينما كان جماعة من الكنعانيين قد توجهوا نحو ديار مصر وفتحوها في ذلك العصر «ملوك الرعاة» قد كان من بقي من مدينة صيدا من الكنعانيين وهم المعبر عنهم بالصيداويين «أي سكان مدينة صيدا» يظهر أنهم لم يكن لهم أطماع حربية ولا رغبة جهادية في الأرض القارة، فلذلك انصرفت قوتهم وتجردت نشاطتهم وشهامتهم للتشبت بالأعمال البحرية، وقد مكثت «صيدا» في قبضة المصريين من العائلة الثامنة عشرة إلى العائلة المتممة للعشرين.
وفي عصر فرعون رمسيس الثالث ملك مصر أغار على فنيقيا قوم يعرفون بالقوم الفلسطينيين، وهم قوم كانوا قد خرجوا بطريق البحر من جزيرة «كريت»، وكان أول نزولهم على سواحل بر الشام نواحي «غزة» و«أشدود» و«عسقلان»، وبعد ذلك بنحو مائة سنة كانت قد اشتدت قوتهم، وامتدت شوكتهم حتى تعلقت أطماعهم بأن يستولوا على سائر بلاد سوريا الجنوبية وتجاروا على أن شنوا الغارة على بني إسرائيل ووقعت لهم عدة وقائع حربية كان لهم فيها النصر عليهم وبذلك استولوا على سائر بلاد بني إسرائيل، وأذاقوهم أشد الجور والظلم مدة أكثر من نصف قرن وفي سنة ١٢٠٩ق.م قام أسطول من سفن الفلسطينيين المذكورين، ووقف على حين غفلة أمام مدينة صيدا ولم يكن عند أهلها استعداد لذلك، فنزلت السفن الفلسطينية على مدينة «صيدا» الفنيقية العظيمة هذه التي كانت بنت كنعان البكرية، وأخذوها بالقوة القهرية وأخربوها وأزالوها من ظهر الدنيا بالكلية، وهذا هو المسمى بعصر الصيداويين أي وقت أن كانت صيدا هي مركز قوة الفنيقيين.
(٤-٢) مدينة صور
وقد كانت جموع الأقوام المهاجرين من أهل «صيدا» قد اجتمعوا في مدينة صور، وكانت هذه المدن لغاية ذلك الوقت من المدن ذات الدرجة الثانية من جملة المدن الفنيقية، وبواسطة هذه الحادثة تحولت حالها وتغيرت صفتها وارتقت حالتها دفعة واحدة، وبلغ عدد سكانها إلى أكثر من أضعاف ما كانوا عليه مرتين، وصارت هي الكرسي الأصلي والمركز السياسي لسائر المدن الفنيقية بعد أن كانت لهم هي المركز الديني فقط، وخلعت مدينة صيدا من كل ما كانت عليه من السعادة والرفاهية ودرجة الأعلوية وكان بها معبد بعل ملوخ (ميلكارت).
ذكر محالفة مدينة صور مع بني إسرائيل في سنة ١٠٥١ق.م
وقد كان نزول القوم الفلسطينيين المذكورين سببًا في تبديل أحوال العلائق التي كانت بين بني إسرائيل والفنيقيين في ذلك الوقت، وذلك أن الإسرائيليين في أول مبادئ فتحهم لبلاد الشام كانوا أعداءً للصيداويين، كما كانوا كذلك بالنسبة لسائر الأقوام الكنعانيين، ثم لما رأى بنو إسرائيل والفنيقيون أن القوم الفلسطينيين قد شنوا الغارة عليهم دفعة واحدة وظفروا بهم، فخوفًا من أن يستولوا عليهم ويستعبدوهم استعبادًا مخلدًا تمكن في أذهان الطرفين شدة لزوم عقد محالفة بين الجانبين، وكان الملك «هرام» الثاني ملك صور معاصرًا لسيدنا داود عليه السلام ملك اليهود، فبعث إليه رسلًا من طرفه عقدوا معه عقد محبة بين الملكين المذكورين، ثم تفرغ الملك هرام إلى بناء الهياكل والمعابد والقصور بمدينة صور وغير ذلك، فبينما كان ملك صور المذكور مشتغلًا بهذه الأعمال النافعة العظيمة؛ إذ توفي داود وخلفه على سرير الملك ولده سليمان عليهما السلام، فبادر ملك صور وهو هرام بأن بعث إلى القدس الشريف سفارة لقصد تهنئة ولد حليفه على تقليده بملك بني إسرائيل، وكان داود قد عهد قبل وفاته إلى ولده سليمان بأن يبني هيكل بيت المقدس لعبادة المولى سبحانه وتعالى، فطلب هرام لمساعدته، وتعاهدا على أن يعملا بمصاريف مشتركة، وذلك سنة ١٠١٨ق.م، ولما مات هرام المذكور خلفه ملوك لا فائدة في ذكرهم بالنسبة لعلم التاريخ.
(٤-٣) تأسيس مدينة قرطاجة
ولما مات «ماتان» ثالث ملوك هذه العائلة كان قد خلف اثنين، أحدهما ذكر يبلغ من العمر ١٢ سنة يدعى باسم «بيجماليون»، والثاني أنثى كانت أكبر منه سنًّا تسمى «ألياسار»، وكان أبوهما قد عهد إليهما بالاشتراك في الحكم، وكان عوام الرعية يرغبون في تغيير صورة ولاية الأمر الفنيقية من هيئة الحكومة الملوكية ويبدلونها إلى هيئة دولة أهلية، فأثاروا فتنة داخلية، وولوا على سرير المملكة الصورية بيجماليون وحده دون أخته، واتخذوا له مجلس شورى من أرباب المناصب الدولية المساعدين على هيئة الدولة الأهلية، وبذلك خرجت أخته من حق المملكة، فما كان منها إلا أن تزوجت برئيس طائفة خدمة المعبود «ميلكارت» المدعو «زيشاربعل»، فقتله بيجماليون المذكور؛ إذ كان يرى أنه مزاحم له على سرير المملكة، فتعصبت «ألياسار» مع جم غفير على عزل أخيها، فقويت الفتن واشتدت المطاعنة للحصول على الغرض المذكور، فلم ينجح سعيهم بمدينة صور، فصمموا على الخروج من ديارهم الصورية استنكافًا من أن يبقوا فيها تحت ذل العصبة الأهلية، واستولوا على السفن المتجهزة للإقلاع على حين غفلة، وركبوا فيها وسافروا في البحر تحت قيادة «ألياسار»، وساروا حتى نزلوا بساحل أفريقا، واختطوا هناك مدينة قرطاجة «لعلها الآن تونس»، وذلك سنة ٨٦٩ق.م، وصارت هذه المدينة قرينة «روما» الكبيرة — كما سيأتي — وسميت «ألياسار» المذكورة باسم ديدون (أي الهاربة باللغة الفنيقية، ومعنى قرطاجة المدينة الجديدة).
وبعد ذلك استمر ملوك صور مدة من الزمن في حروب بينهم وبين ملوك آشور إلى أن وقعت فنيقيا وما جاورها من المدن في قبضة الآشوريين، أما مدينة صور بعد أن حاصرها بختنصر ملك بابل مدة ١٣ سنة ودمر جزءًا منها، انتقلت على جزيرة صغيرة مجاورة للساحل، إلا أنها لم تقدر على إعادة مجدها القديم، ثم وقعت مملكة فنيقيا بعد ذلك في حوزة فرعون مصر «واح أبرع»، وبعده دخلت ضمن مملكة فارس أيام قمبيز ملك العجم.
(٤-٤) الأراميون
كان الأراميون الذين هم من بني سام ساكنين من منذ الأزمان الغابرة شمال سوريا الممتدة من جبال لبنان لغاية نهر الفرات، ولم يُرَ في التاريخ ما يدل على أنها انضمت إلى بعضها، بل بقيت فروعها متفرعة، كل فرع قائم بذاته، وسنقص بالذكر أشهر هذه الفروع؛ كان الخيتاسيون أحد فروعها، وهي التي تلفت من القوى أقصاها، ومن الصولة أعلاها، حتى اقتدرت بما لها من قوى وعزائم وجليل الهمم على مكافحة فرعون مصر خصوصًا رمسيس الثاني صاحب الفتوحات الباهرة، ومن أشهر مدن سوريا مدينة دمشق التي بعد أن انفكت من أسر الإسرائيليين ارتقت إلى درجة سامية من العز حتى صارت قاعدة مملكة شهيرة لها شأن عظيم في التواريخ، ومع كل ذلك لم نجد نصوصًا تاريخية تدل على أن بلاد سوريا توحدت فيها الكلمة، بل توالت عليها القرون وهي متجزئة بين ساكنيها، وهذا التفرق وعدم توحيد الكلمة بين أهلها أضعف شوكتها، وبذا لم تتمكن من مصادمة هجمات الفاتحين العديدين الذين ساروا بالتعاقب على بلاد سوريا الغربية على ممر الأعصار، وبعد أن تعاقب عليها المصريون والآشوريون والبابليون انتهى أمرها بالدخول ضمن مملكة الفرس، واشتهرت على من جاورها من الممالك.
(٥) في تاريخ العبرانيين
كان إبراهيم الخليل عليه السلام من ذرية سام بن نوح عليهما السلام، وهو جد العبرانيين والعرب، ولد في مدينة أور (أورفا أو الرها) بالفرات، فهجر وطنه سنة ٢٢٠٠ق.م، ووصل أرض كنعان بجنوب الشام، وكان من نسله إسماعيل وإسحاق ويعقوب عليهم السلام، الذين قاموا بعبادة الله وحده حينما كانت جميع الأمم غارقة في بحر الضلال يعبدون الأوثان، ولما ترقى يوسف عليه السلام، أحد الأسباط الاثني عشر أولاد يعقوب «إسرائيل» عليهم السلام إلى درجة سامية في عصر ملوك الرعاة أحضر بني إسرائيل وأسكنهم وادي غسان (المعروف الآن برأس الوادي)، ومن المحتمل أن حسن استقبال ملوك الرعاة لأولاد إبراهيم عليه السلام مترتب على بعض المجانسة في الشبه بين هذين الجنسين، وبعد أن قطن العبرانيون بمصر أربعة قرون كثر عددهم؛ حيث صاروا أمة لا تحصى، وكانت فراعنة العائلة الثامنة عشرة والتاسعة عشرة يبغضونهم كلما تذكروا عصر ملوك الرعاة، خصوصًا لما عاينوا سرعة نمو هذا الأمة الأجنبية المغايرة لهم في الدين والعوائد، فحملوهم ما لا طاقة لهم به، وعاملوهم معاملة السوء، واستعملوهم في الأشغال الجسيمة التي شرعت فيها العائلة التاسعة عشرة مدة رمسيس الثاني؛ حيث استعملهم في تشييد هيكل مدينة بيتوم ورمسيوم بوادي غسان.
وكان موسى عليه السلام من نسل بني إسرائيل، وتربى في دار الفراعنة المصرية، وتعلم ما بيد الكهنة المصرية من العلوم، وقام لتخليص قومه، فنجاهم من العذاب، فقادهم إلى خارج مصر، ومن المحتمل أن يكون أحد خلفاء منفطا الأول هو فرعون ذلك العصر، وكان أذن لبني إسرائيل بالخروج ثم ندم على ذلك واقتفى أثرهم بجيشه الجرار، فغرقوا جميعًا في بحر القلزم (خليج السويس)، وقد ذكرت التوراة أنه هلك مع قومه في ذلك البحر.
أما العبرانيون فإنهم بعد ما جاوزوا البحر مكثوا في صحراء وادي التيه «بجبل الطور» في بلاد العرب مدة أربعين سنة، وأوحى الله إلى نبيه موسى عليه السلام بجبل الطور قانونًا كلفهم بعبادة الله وحده سبحانه وتعالى، وعلمهم آيات أصول الأدب، وأدخل فيهم الحياة الدينية والمدنية، ولما مات موسى عليه السلام قام بالأمر بعده يوشع عليه السلام، وأغار بهم على أرض كنعان، فاستولى عليها وقسم أرضها التي على شاطئ نهر الأردن بين الأسباط الاثني عشر أولاد يعقوب عليهم السلام، وكانت هذه الأسباط عبارة عن أمم متعاهدة مع بعضها يجمعها علاقة الدين والأحاديث العامة، ولما كان العبرانيون تحيطهم الأعداء من كل ناحية جعلوا لهم حاكمًا، سموه قاضيًا؛ ليدفع صولة الصائلين، وكان أشهر هؤلاء القضاة «جزعون» و«نفتح»، وهما اللذان خلصا قومهما من جور جيرانهم، وأما شمسون فكان ذا قوة مفرطة، فزع منها أهل فلسطين ثم شمويل عليه السلام، وكان حبرًا وقاضيًا للاثني عشر سبطًا، وأراد أن يحدث حادثة كبيرة في ترتيب دولة بني إسرائيل؛ لقصد زيادة تثبيت دولتهم، فشرع في جعل ولاية أمرهم العليا وراثية لعائلته، لكن لم يتيسر فيهم من يقوم بواجب العدل والإنصاف، وصاروا يأخذون الرشا على الحكام، فحصلت فتنة داخلية، وأراد بنو إسرائيل أن يقيموا عليهم ملكًا ينظر في أمورهم، فامتنع من ذلك أولًا؛ مستندًا للأصل القديم المقتضي أن بني إسرائيل لا ملك لهم غير الله سبحانه وتعالى، ثم لما أبوا الإجابة توجه نظره إلى شاب جميل الصورة بسبط بنيامين، وهو شاول — المعروف في تاريخ أبي الفدا باسم طالوت — فانتخبوه ملكًا عليهم، وهو أول من تلقب بالملك منهم، وذلك في سنة ١٠٩٢ق.م.
(٥-١) تاريخ بني إسرائيل مدة ملوكهم
ذكر شاول أو طالوت ١٠٩٢–١٠٥٦ق.م
وقام شاول المذكور بقيادة بني إسرائيل، لكن تملكه على الأمة العبرانية وولايته على الملة الإسرائيلية لم تكن إلا ولاية جهادية ومملكة عسكرية لا غير، بما أنه استمر مدة مديدة وهو تحت طاعة صاحب الولاية الدينية، وهو شمويل، وقد كان ملك العمونيين المدعو «نابال» كان قد غزى بني إسرائيل، ووضع الحصار على إحدى مدنهم «يبس» أو «سالم» التي نشأت في مكانها «أرشليم»، فجمع شاول من بني إسرائيل نحو ثلاثة آلاف مقاتل، فانهزمت أمة العمونيين، ونزل مدينة «جلجالة» منتظرًا قدوم العبرانيين للتحية عليه، فحيوه بملك بني إسرائيل من جديد، وهنئوه بهذا النصر السديد، وكان الفلسطينيون قد عادوا بجنود عديدة للغارة على أرض بني إسرائيل بالثاني، ولكن انتصر عليهم؛ حيث ساعده ولده «يوناتاس» الذي كان اشتهر بالشجاعة والإقدام، وبعد ذلك شن الغارة على العمالقة انتقامًا لما فعلوه ببني إسرائيل؛ حيث كانوا قد منعوهم عند حضورهم من مصر للتوطن بأرض كنعان، فحاربهم وقتلهم وأسر ملكهم المدعو «أجاج»، ثم إنه خالف أمر شمويل؛ حيث كان قد أمره بقتلهم وقطع دابرهم، فعفا عن «أجاج» المذكور، ومن ثم تمت المقاطعة بين شاول وشمويل، وتحكمت العداوة بينهما، وهاجر شمويل إلى بيت لحم، وجعل داود ملكًا على بني إسرائيل، وكان شاول قد أصيب بداء «الماليخوليا»، وكان لا يسكن إلا إذا جاء داود عليه السلام، وضرب له على عوده المشهور، فأحبه وغمره بنعمه، ورقاه لمرتبة سائس رِكابه، وهو لا يدري أنه قد لبس التاج في السر بدلًا عنه، ثم اشتهر داود بقتل «جالوت» أحد أبطال الفلسطينيين، فلما عاين ذلك الأعداء فروا على أقدامهم هاربين، وتبعتهم بنو إسرائيل وفرقوا شملهم وغنموا منهم غنائم عظيمة، فلما بلغ ذلك شاول صاهره، لكن لما شاع صيته بالشجاعة عند بني إسرائيل بغضه شاول وأراد قتله ففرَّ هاربًا، واتفق أن الفلسطينيين كانوا قد شنوا الغارة على بني إسرائيل، فقتل شاول وابنه يوناتاس، فعاد داود وقلد بولاية الأمر، وذلك سنة ١٠٥٦ق.م.
ذكر داود عليه السلام ١٠٥٦–١٠١٦ق.م
ولما كانت الأقوام الفلسطينية يسطون على الدوام على أمة اليهود ويأخذون منهم الجزية، فلم يسع داود أن يستطع لهذا العار، فقام وحارب هؤلاء الأقوام، وأدخلهم تحت طاعته، وحارب العمالقة والأيدوميين جنوب بلاد الشام، وكذا العمونيين «سكان بلاد عمان»، وبالنسبة لذلك قامت القيامات والعصب في جميع البلاد الكائنة بين نهري الأردن والفرات، فلم ينزعج داود منهم، بل سار بنفسه إليهم، وقاتلهم واستولى على مدينة دمشق وسوريا وحمص، وشتت شمل أمة الأيدوميين بوادي الملح، وأحدث طرق مواصلات تجارية فيما بين ممالكه وبحر القلزم وأقصى بلاد آسيا وأفريقا، ونزل على القوم المسمين باسم «اليبسيين»، وهم أشجع الأقوام الكنعانيين فقاتلهم وأخذ منهم قلعتهم المسماة باسم «يبس» أو «سالم»، وهي التي نشأت في مكانها مدينة أورشليم أو بيت المقدس فيما بعد، وجعلها مقر مملكته وقاعدة دولته من ذلك العهد، وأدخل فيها النظام العسكري والمدني، وكان عصره أعظم أعصار أمة اليهود، وفي آخر سنة من حكمه خرج عليه ولده المُسمى باسم «عادونياش»، وكان داود عَهِد بالمُلك لولده «سليمان»، فتخلى عن «عادونياش» أصحابه المتعصبون معه، فدخل تحت طاعة أبيه وعفا عنه.
ذكر سليمان عليه السلام ١٠١٦–٩٧٦ق.م
قد اشتهر سليمان بالحكمة وفصل الخطاب. وكان أبوه وطد له دعائم المملكة، فلم يحتج عليه السلام لإقامة حروب مع أي أمة ما، غير أن أخاه المدعو «عادونياش» السالف الذكر قام عليه ونازعه في الحكم فقتله سليمان؛ ليصفو له سرير الملك من العاهات التكديرية، وبعد ذلك صرف مدة حكمه التي هي عبارة عن أربعين سنة في أنس، وكان مُهادنًا لكل من جاوره من الأمم، وهو الذي بنى معبد القدس الشريف حسب وصية من أبيه، فأمده «هرام الثاني» ملك صور كما تقدم، بكل ما يلزم لبنائه من عمال ومواد، وأتمه في سبع سنين، وكان يوجد به كثير من التماثيل التي لم يُسمع بها.
وقد اشتهر سليمان بالحكمة كما أسلفنا، فكان مهابًا محترمًا عند جميع الأمم، حتى سعت إليه بلقيس ملكة سبأ من أقصى بلاد العرب لسماع حكمته، وتزوج بها، وكان يميل للمشروعات الجسيمة، فكانت أساطيله تجول الإقيانوس الهندي لتبحث فيه على الذهب والعاج والأمتعة الثمينة، وكان ملاحوه من الفنيقيين، ولا يخفى أن هذا الأمر يحتاج لتبذير أموال جسيمة، فلذا ألزم أهل ملته بالمغارم، فحصل لها ضجر عظيم ظهرت نتيجته بعد موته.
(٥-٢) ذكر مملكتي يهوذا وبني إسرائيل
ذكر راحبعم
وبمجرد موت «سليمان» كان قد قام بعده على الفور ابنه «راحبعم»، وذهب إلى مدينة سيشار أو «نابلس»؛ إذ كان قد اجتمع فيها سائر بني إسرائيل؛ ليقلدوه ملكًا عليهم، وكان رئيسهم رجل يُدعى يربعم، فطلبوا منه أن يحط عنهم بعض ما كان أبوه قد كلفهم به من كثرة الضرائب عليهم، فامتنع من ذلك وأغلظ لهم الجواب، فقام جميع بني إسرائيل ودخلوا خيامهم، فأرسل «راحبعم بن سليمان» وزيره المدعو باسم «عادورام» لمنع هذا القيام فرجموه بالأحجار حتى مات، وخشي «راحبعم» على نفسه ففر هاربًا إلى أورشليم، وخرج عن طاعته عشرة أسباط من الإسرائيليين ما عدا سبطي يهوذا وبنيامين؛ حيث بقيا على طاعته، وبايع الأسباط العشرة يربعم المذكور، وهكذا انقسمت إلى قسمين: قسم في الجنوب: عبارة عن سبطين، وسُمِّيَ مملكة يهوذا، وقاعدته القدس الشريف. وقسم في الشمال: عبارة عن عشرة أسباط، وسُمِّيَ مملكة بني إسرائيل، وقاعدته مدينة السامرة.
ذكر مملكة يهوذا
مكنت هذه المملكة نحو ٨٩٣ سنة، وفي السنة الخامسة من حكم راحبعم بن سليمان دخل شيشنق رأس العائلة الثانية والعشرين أرض فلسطين بجيش جرار، واستولى على بيت المقدس ونهب الأواني المقدسة من الهيكل، وكذا القصر السليماني، ثم رجع إلى بلاده بهذه الغنائم، وذلك سنة ٩٧٠ق.م وقد كابدت هذه الدولة محنًا جسيمة من مهاجمة الأمم المجاورة لها، من ذلك: أن سنحاريب هدد بيت المقدس، فالتزم حزقيا ملك اليهود وقتئذ أن يعقد معاهدة مع ملك مصر سباقون الأتيوبي، فهلك من جيش سنحاريب عسكر لا تحصى — كما سبق ذلك — ثم وقع منشا بن حزقيا الصالح في قبضة «أسارادون» ملك آشور سنة ٦٧٥ق.م، ولما قام «نيخاؤس الثاني» تقدم إلى نهر الفرات، وحاصر مدينة قرقيش الكائنة على هذا النهر، بيد أنه انهزم أمام خصمه بختنصر، وعاد المصريون بالخيبة إلى بلادهم، أما البابليون فاستولوا على بيت المقدس، وقتلوا ملكه وولوا بدله صدقيا بن يوشيا، فعصى على بختنصر، واستنجد بملك مصر «أبرياس» «واح أبرع»، فانهزم أمام خصمه، ووقع بيت المقدس في يد بختنصر بعد حصار ثمانية شهور، ودمره الكلدانيون، وأسر صدقيا بن يوشيا الذي هو الملك المتمم للعشرين بعد سيدنا داود عليه السلام، وأسروا جميع من نجا من القتل.
ولو أنه لم يكن لليهود دور مهم في السياسة مع أنها دون غيرها من الأمم التي يختلط بها في المدن، إلا أننا نرى لها تأثيرًا مهمًّا على الآداب لمحافظتها على عقيدة وحدانية الله سبحانه وتعالى، ومع أنها احتجبت عن العلوم والصنائع، إلا أنها قد ارتفعت بواسطة الوحي إلى درجة عالية من سمو الأفكار كما يتبين ذلك من صحف الأنبياء التي التوراة إحداها.
ذكر مملكة بني إسرائيل
وقد بقيت هذه المملكة نحو ٢٥٥ سنة، وفيها انتشرت عبادة الأوثان، ونرى تاريخها مشحونًا بالكبائر والكفريات، حتى قام عليها ملكا آشور، وهما «تجلات فلصر الثاني» و«سلمنصر»، ودمراها وسبيا أهلها، ثم بعد ذلك بمدة حضر سرجون، وحاصر مدينة السامرة، ثم استولى عليها، ونهبها ونقل أهلها إلى بلاد ميد، وأرسل إلى تلك المدينة بدلهم بأمم من آشوريين وكلدانيين.