في تاريخ قدماء اليونان
اعلم أن بلاد اليونان أو هيلاس كانت مشتملة على الجزء الجنوبي من تركية أوروبا وبلاد الروم والمورة، وعدة جزائر من البحار المجاورة لها، وقد انقسمت هذه البلاد إلى خمسة أقسام وهي: أولًا مقدونيا، وهي الجزء الشمالي من بلاد العارناعود «ألبانيا»، وثانيًا تساليا، وهي على شكل مربع في الجنوب الشرقي من بلاد العارناعود أيضًا، وثالثًا: بيروس، وهي على شكل مستطيل في الجنوب الغربي من بلاد العارناعود، ورابعًا: بلاد اليونان الأصلية المسماة الآن بلاد الروم، وخامسًا: بيلوبونيزيا المسماة أيضًا بشبه جزيرة المورة، وكان يتبعها جزائر بحر الأرخبيل وجزيرة كنديا.
وينقسم تاريخ هذه البلاد إلى قسمين عظيمين؛ الأول تاريخ الأزمنة المجهولة، أي من أول ذكرها إلى مهاجمة الفرس تحت دارا بن هيستاب سنة ٤٩٠ق.م، وتسمى العصور الخرافية. الثاني تاريخها من مهاجمة الفرس إلى إخضاعها للرومانيين.
(١) تاريخ الأزمنة المجهولة
قيل إن اليونان من نسل ياوان بن يافث بن نوح عليه السلام، وكانوا قديمًا متوحشين يسكنون المغارات، ويلبسون الجلود ويأكلون جذور النباتات والبذور، وقيل لم يك يعرفون فائدة النار، وكانوا أولًا يعمرون مساكنهم متفرقة عن بعضها، ثم وبالتدريج اجتمعت المساكن حتى صارت قرى صغيرة، وهذا هو السبب في انقسام بلادهم إلى ممالك صغيرة، واستمروا على هذه الحالة حتى أتى إليهم قوم من فنيقيا يدعون أمة التيتانيين، وأدخلوا فيها قليلًا من التمدن، وأخيرًا انقطع هؤلاء الأقوام بسبب الحروب فعاد اليونانيون إلى حالتهم الأولى، وبقوا على ما هم عليه مدة ٢٠٠ سنة، ثم دخل عندهم «سكروبس» المصري، وجمعهم وجعل سكان قسم آتيكا اثنتي عشرة قرية، وأسس مدينة «أتينا» وعلمهم زراعة الزيتون، وملك بعده رجل يدعى أمفكتيون، وفي عصره أي سنة ١٤٥٥ق.م أدخل قدموس الصوري حروف الهجاء وفن الكتابة، وكان اليونان أولًا يكتبون سطرًا من اليسار إلى اليمين، ثم سطرًا من اليمين إلى اليسار، وهلم جرًّا.
(١-١) حرب تروادة ١١٩٤–١١٨٤ق.م
تروادة كانت مملكة عظيمة في الشمال الغربي من قسم آسيا الصغرى، وملكها في ذلك الوقت كان يُدعى «برياموس»، فأحد أولاده المسمى باريس سافر إلى بلاد اليونان، ونزل عند «منيلاوس» ملك «إسبارطة»، فأخذ زوجته «هيلانة» وفر هاربًا إلى بلاده ليلًا، فلما أصبح الصباح وعلم ملك «إسبارطة» ما حل بامرأته هو وأخوه «أغاممنون»، وكان شجاعًا تهابه الناس، وغضب لذلك أمراء اليونانيين، وقالوا إن هذه فعلة ما حصلت لأمة من الأمم، وفضيحة ما وقع مثلها بين العرب والعجم، ولئن رضينا بهذا سقطنا من أعين الناس، فصمموا على حرب تلك المدينة ونهب أهلها انتقامًا لهذه الحادثة، فتجهزوا للحرب، وصحبوا معهم ألف مركب حربية لابسين جلود النمور يقودهم «أخللاوس» كالليث الكاسر ومعه جملة من الشجعان، وكان أكبرهم سنًّا «نيتوس» من بيلوس (مدينة بالجنوب الغربي من المورة)، وأضعفهم من أخذت المدينة بحيلته وهو «أوديسايس» أو «عوليس» من إيتسكا (مدينة بجزيرة يابونيا بالأرخبيل)، ولم يكن أعداؤهم أيضًا ضعفاء، بل كان منهم برياموس أبو الأمير باريس السابق الذكر، وكان شجاعًا تنقاد لشجاعته الأبطال، وكانت مدينة «تروادة» ذات أسوار متينة، وقام لمعاونته أيضًا جملة من أمراء آسيا الصغرى، وتقوَّى أيضًا بولده «هيكتور»؛ لأنه كان شجاعًا تذل لشجاعته الأبطال، فلما علم أهل تروادة بقدوم اليونان إلى مدينتهم دخلوا المدينة وأغلقوا الأبواب وحصنوا الأسوار، فمكث اليونانيون عشر سنين خارج المدينة، وهم يرمونهم بالنبال، وينتظرون بروزهم للقتال، حتى اشتد بأهل تروادة ما هم فيه من الحصر والكرب، ففتحوا الأبواب وخرجوا مشعلين نار الحرب، وبعد جملة مناوشات حصلت بين الطرفين، وقَتل «أخللاوس» «هيكتور»، فقتله «باريس» انتقامًا لأخيه «هيكتور»، ثم علم اليونان أنه لا يمكنهم أخذ هذه المدينة؛ لشدة حصونها ومقاومة أهلها، فأخذ «أوديسايس» في إعمال حيله لفتح المدينة وهلاك أهلها، فأمر بإعمال هيكل عظيم من الخشب على صورة حصان ودخل فيه مع جملة من شجعان اليونان، وأمر بوضعه أمام تلك المدينة، وأن يقوض اليونانيون خيامهم ويوهم أهالي المدينة بأنهم كفوا عن حربهم وقتالهم، فحملوا خيامهم ورحلوا حتى وصلوا البحر ونزلوا في السفن، واستمروا سائرين إلى أن وصلوا جزيرة «ثينيدوس»، ولما عاين أهالي تروادة ارتحالهم دخلهم الغرور، وأخذوا هذا الهيكل وأرادوا أن يدخلوه من باب المدينة، فلم يسع الباب لإدخاله، فهدموا سور المدينة وأدخلوه، فلما انتصف الليل فتح «أوديسايس» بطن الحصان وخرج ومن معه من الشجعان، وصاروا يضربون وينهبون ويأسرون، ورجع أيضًا باقي اليونانيين وعلا صياحهم في المدينة، ونهبوا ما بها من الأشياء الثمينة وهرب برياموس مع أولاده إلى هيكل، فأدركه بعض اليونانيين فقتلوه هناك هو وأولاده، ولم ينجُ من أهل المدينة سوى من هرب، وأخذ منيلاوس زوجته الملكة التي هي السبب في خراب مدينة تروادة وأكرمها غاية الإكرام. وأتت طائفة من الترواديين بعد ذلك إلى مصر وأسسوا مدينة تره «من أعمال مصر» ومن ذلك الوقت سقطت تروادة الشهيرة.
(١-٢) إغارة الدريانيين ١١٠٤ق.م
ذكر المؤلف «دوبركس» في كتابه أن قبيلة الدريانيين إحدى قبائل اليونان الأربع الشهيرة، «وهم الآشيون والآيوليون والآيونيون والدريانيون»، إلا أنهم لبثوا في التوحش مدة طويلة عن باقي القبائل اليونانية، وكانوا يسكنون بالقرب من جبال ويتا — جبل بين بلاد هيلانة أو بلاد اليونان الأصلية وبلاد تساليا — في مملكة كانت تُسمى دوريد، وفي سنة ٨٠ بعد حرب تروادة تجاوز الدريانيون البوغاز الفاصل لبلاد اليونان الأصلية، وشبه جزيرة المورة «بيلوبونيز»، وأغاروا على هذه المملكة الأخيرة، وفتحوا أرغوليد وليكاونيا، واستولوا أيضًا على قورنتة. فهاجر الآيونيون من شبه جزيرة المورة إلى قسم آتيكا، وصارت هذه المملكة الأخيرة ملجأً لجميع المهاجرين، ثم أراد الدريانيون طرد هؤلاء الأقوام من قسم آتيكا، فتجاوزا برزخ قورنتة، وتقدموا إلى مدينة أتينا، فأخبر وحي دلفوس الدريانيين أنه إذا مات ملك الأتينيين ظفروا بكم، وإذا مات ملككم ظفرتم بهم، فلما سمعوا قول ذلك الوحي احترسوا كل الاحتراس عن قتل ملك أتينا، وكان ملكها يدعى «قودروس»، فدخل متخفيًا في معسكر الدريانيين، فقتله أحد هؤلاء القوم، فلما عرف الدريانيون جثة ملك الأتينيين رجعوا إلى بلادهم خائبين، وتسمى هذه الإغارة أيضًا برجوع الهركلديين، وقد نشأ من هذه الإغارة جملة مهاجرات أسست نزلًا يونانية على شواطئ آسيا الصغرى وأفريقا وسيسيليا وإيطاليا.
(١-٣) الكلام على ديانة اليونان
أما ديانة اليونان فكانت عبارة عن عبادة الغابات والجبال والرياح والمياه التي كانوا يشخصونها في جمعية الآلهة التي هي على صورة الإنسان ولهم الشهوات والمصائب.
وقد كان لأمة اليونان — فيما يزعمون — آلهة متفاوتون في الدرجات ومتباينون في الامتيازات والاعتبارات، فكان من أعظمهم عندهم قدرًا وأرفعهم ذكرًا سائس أو جوبيتير، وكانت سلطنته في السماء، وكان ملك باقي الآلهة، وعلى يمينه صاعقة وبجواره نسر معدًّا لركوبه عليه، ومنهم «بوسايدون أوربيتون» وهو مدبر البحر، وكان يسير على الموج بعربة من الصدف يجرها بعض المدبرين الآخرين، وكان بيده شيء كهيئة شكل مثلث له ثلاث شوكات أعدها للزلازل، ومنهم أبلوتون وهو مدبر الأرض السفلى والعالم المظلم، ومنهم آبولون «آبولو»، ومن شأنه الإخبار بالغيب وإظهار الفنون العجيبة كالموسيقى والأشعار، وكان أجمل من غيره، وله معرفة بضرب الطنبور، وكانوا يقدمون الذبائح والقربانات لآلهتهم، وكان لهم احترام زائد للهياكل والمعابد اعتبارًا لآلهتهم، حتى إذا دخل مذنب في هيكل ليحتمي فيه لم يتعد عليه أحد ما دام داخل المعبد.
(١-٤) ذكر جمهورية إسبارطة
اعلم أن مدينة إسبارطة كانت قاعدة ليكاوينا، بناها القديمون في القرن الخامس عشر قبل المسيح، وبعد رجوع الهركلدية واستيلائهم على ليكاوينا وأرغوس وميسيني ملك على ليكاوينا ابنا «أرستود» اللذان اسم أحدهما «أورشين» والآخر «بردكليس»، وبقيت المملكة بعد وفاتهما مقسومة إلى قسمين بين نسلهما نحو ٩٠٠ سنة، وجرى بين ملوك القسمين الشقاق والمخاصمات في غضون تلك المدة. وفي سنة ٨٨٤ق.م توفي «بوليديكتوس» ملك أحد القسمين تاركًا زوجته حاملًا، وكان له أخ اسمه «ليكورغوس»، فراودته امرأة أخيه طالبة أن يتزوج بها ويتقلد بالملك بعد أخيه وأنها تهلك الجنين إذا قبل ذلك، فكره «ليكورغوس» أن يرتكب هذا الأمر القبيح، وعندما وضعت امرأة أخيه ذكرًا اهتم بتربيته ودعاه ملك إسبارطة الشرعي، وكان يدبر أمور الدولة بالنيابة عن ابن أخيه، ولكن إذ حدث نفور بينه وبين امرأة أخيه كره أن يبقى على تلك الحالة، فسافر إلى جزيرة كريت (كنديا الآن) ثم إلى آسيا الصغرى ومصر لكي يدرس علوم تلك البلاد وشرائعها، فحدث في مدة غيابه مخاصمات وفتن كثيرة في إسبارطة، وجاهر كثيرون بالعصيان على الملك وشرائع المملكة، فأرسل الأهالي يطلبون من ليكورغوس أن يوفيهم عاجلًا، ويتقلد زمام الملك، ويقي البلاد من الدمار، فأجابهم إلى ذلك، وأخذ في إصلاح البلاد وإخماد الفتن، وغيَّر هيئة الحكومة من الملكية إلى الجمهورية؛ حيث اقتدى به كثير من ممالك اليونانيين، وأصبح الحكم الجمهوري غالبًا في أكثر البلاد وأراد التسوية بين وجاهة الملوك والأكابر والعامة، ورتب لذلك ديوانًا مركبًا من ٢٨ عضوًا ينتخبون من أعيان الأهالي، وقسم المملكة بين الأهالي بالمساواة لكي لا يكون بينهم فقير ولا غني، وأبطل المعاملة بالذهب والفضة، وجعل عوضهما قطعًا من حديد، وكانت تؤخذ أولادهم وقت ميلادهم، ويتربون بالحكومة ليتعودوا على اقتحام الأهوال، وكانوا يعلمون الأولاد احترام الشيوخ والشرائع واحتقار الآلام والموت.
(١-٥) ذكر جمهورية أتينا
كانت أتينا مركز حكومة قسم آتيكا، وكان حكمها ملكيًّا لغاية زمان «قودروس» السالف الذكر، أحد ملوكها الذي عاهد شاول أول ملوك بني إسرائيل، وفي زمانه كان رجوع الهركلدية كما تقدم، وبعد موته أبطل الأتينيون الحكم الملكي، وأقاموا عوضًا عن الملك رئيسًا سموه «أركونا»، وأول أركون أقاموه هو «ميدون بن قودروس» المذكور، وبقيت هذه الوظيفة في نسله ٣٣١ سنة، وكان الأراكنة في أول الأمر يقيمون في وظيفتهم مدة حياتهم، ثم بعد ذلك تغيرت إلى عشر سنين ثم إلى سنة واحدة فقط، وزيد عددهم رويدًا رويدًا إلى تسعة يشتركون في جميع الأمور، ولما لم تكن الشرائع مرتبة ترتيبًا حسنًا شرع أدراكون رئيس الأراكنة وقتئذ في تنظيمها وتجديدها وسنَّ قوانين صارمة جدًّا جاعلًا الموت عقابًا لكل مذنب، وفي سنة ٦٠٤ق.م كان رئيس الأراكنة سولون الحكيم من نسل قودروس، فسنَّ قوانين وشرائع جديدة مناسبة لأحوال البلاد، وفي عصره حصر السلطنة العظمى في جمعية من الأهالي لا يدخلها إلا من بلغ من العمر ٣٠ سنة، ورتب مجلسًا عدد أعضائه ٤٠٠ نفس، واهتم سولون بتوسيع التجارة وتكثير البضائع والمعامل، ثم سافر سولون إلى ليديا، وكان ملكها يومئذ «كريزوس»، ومكث هناك عشر سنين — وقد تقدم ذلك — ولما رجع إلى بلاده وجد الفتن قائمة، فلم يستطع أن يخمدها؛ لأن رجلًا اسمه فستراتوس كان قد اختلس الحكم من الأراكنة، فبذل جهده لتخليص البلاد من يده فلم ينجح؛ إذ نجح «فستراتوس» باستمالة الأهالي إليه، ومات سولون بعد ذلك بسنتين، وبعد فستراتوس خلفه ابناه هبياس وهيرجوس، فقام اثنان من أهل أتينا على هيرجوس وقتلاه فقتلهما هبياس، وشرع يظلم الأتينيين، فاستغاثوا بأهل إسبارطة طالبين عزله من الملك، فأجابوهم وأخذوا المدينة، فهرب هبياس إلى آسيا الصغرى عند أحد نواب الفرس من طرف دارا الأول الذي كان عازمًا على استفتاح بلاد اليونان، فأرسل إلى الأتينيين طالبًا ترجيع هبياس إلى ملكه وإذا لم يقبلوا ذلك جعل عدم قبولهم سببًا لمهاجمته بلادهم.
(٢) تاريخها من مهاجمة الفرس إلى إخضاعها للرومانيين
(٢-١) الكلام على الحروب الفارسية
الحرب الأولى ٤٩٠ق.م
وبعد أن فتح الأعجام آسيا الغربية ومصر، أرادوا فتح بلاد اليونان ففتحوا أولًا نزلهم الموجودة بآسيا الصغرى، ثم أرسل دارا الأول ملك العجم رسلًا إلى بلاد اليونان يعلنهم بالطاعة له أهل أتينا وإسبارطة، فألقوا هؤلاء السفراء في الآبار، فاغتاظ دارا من ذلك وتقدم إلى المحل المعروف باسم مراتون ببلاد اليونان ومعه ١٠٠٠٠٠ مقاتل، فتقابل مع ١٠٠٠٠ أتيني و١٠٠٠ بلاتيني، فهزمت الجيوش الفارسية، واقتفى اليونانيون أثرهم حتى نزلوا سفنهم.
الحرب الثانية ٤٨٠ق.م
وبعد ذلك بعشر سنين قام شيارش ومعه مليون مقاتل و١٢٠٠ سفينة حربية، فقام الملك ليونيداس ملك إسبارطة ومعه ٣٠٠٠ مقاتل، فمات ومن معه في المضيق المعروف باسم ترموبيل، ودخل شيارش في أتينا وحرقها، ولكن هُزمت جيوشه البحرية عند مرورها من جانب جزيرة سلامين، وفي السنة عينها هُزمت جيوشه البرية في واقعة بلاتية، وفُعِلَت هذه الواقعة الأخيرة بعناية بوزانياس ملك إسبارطة.
الحرب الثالثة أي انتهاء الحروب الفارسية
وبعد ذلك أيضًا قام اليونانيون، وطردوا جيوش العجم الموجودة في جزائر بحر الأرخبيل والموجودة على سواحل آسيا الصغرى، وفتحوا جزءًا من جزيرة قبرص التي كانت تابعة لهم.
ولما رأى أرتخشيارش الأول ملك الفرس أن مملكته قد ضعفت في الحروب الكثيرة المستطيلة اضطر إلى أن يطلب الصلح، فأجابه سيمون (رئيس في أتينا) إلى ذلك تحت شروط ثلاثة، وهي أولًا: أن يرفع يده عن ممالك اليونان الموجودة بآسيا فتكون ممالك مستقلة بذاتها. ثانيًا: أن يمنع سفنه عن السير في بحر الأرخبيل. ثالثًا: أن لا تتجاوز عساكره أكثر من ثلاثة أميال ضمن حدود النزل اليونانية.
(٢-٢) عصر بريكليس
أما سيمون فلم يتمتع بثمرة أعماله العظيمة؛ إذ توفي من جرح أصابه في حصار جزيرة قبرص سنة ٤٤٩ق.م، فبقي بريكليس رئيسًا في أتينا بعد موت سيمون مدة عشرين سنة، واهتم كثيرًا بتحصينها وترتيبها، وفي عصره بلغ أهل أتينا الدرجة القصوى في الصنائع والفنون ومعامل البناء، لا سيما بالنقش والتصوير، واشتهرت بالمعارف والعلوم.
(٢-٣) حرب المورة
لما وقعت الحرب بين مملكة كورنته وجزيرة قرسيرا المسماة الآن قرقوس، حرض بريكليس الأتينيين على مساعدة أهل قرسيرا، فحسب ذلك الإسبارطيون نقضًا للعهد الذي أقيم بين ممالك اليونان، فانشبكوا جميعًا في حروب شديدة، فكان من الجهة الواحدة إسبارطة وكورنته وجميع ممالك المورة إلى أرغوس وأكثر الممالك الشمالية، ومن جهة أخرى أتينا وتساليا وبعض جزائر الأرخبيل. وكان عدد جيش إسبارطة ٦٠٠٠٠ مقاتل تحت أمر أرخداموس ملكهم، وعدد جيش أتينا ٣٢٠٠٠، لكنها فاقت على إسبارطة كثيرًا بقوتها البحرية، ومكثت هذه الحروب ٢٨ سنة، تارة انتصرت أتينا وتارة إسبارطة. وكان في السنة الثامنة والعشرين رئيس جيش إسبارطة رجلًا يُدعى ليساندر، فانتصر على الأتينيين في واقعة بحرية، وحاصر مدينة أتينا برًّا وبحرًا حتى سلمت له، وصارت أتينا تحت حكم إسبارطة، وأما ليساندر فأبطل الحكم الجمهوري من أتينا، وجعل مكانه ثلاثين رئيسًا تحت أمر حكومة إسبارطة الذين ظلموا الأتينيين ظلمًا شديدًا، وقتلوا منهم في مدة ثمانية شهور ١٥٠٠ نفس، ثم قام عليهم الأتينيون وطردوهم، ورجعوا الحكم الجمهوري، وفي هذا العصر ظهر سقراط أشهر فلاسفة اليونان، وكان يعلم بوجود إله واحد سبحانه وتعالى.
وفي آخر زمان حرب المورة توفي دارا نوطيس ملك فارس، وخلفه ابنه أرتخشيارش منيمون الثاني، وكان له أخ اسمه قيروش الذي حسب وصية أبيهما تولى على ليديا والولايات المجاورة لها، فقام قيروش هذا على أخيه قاصدًا عزله عن الملك، فأخذ عشرة آلاف من عساكر اليونانيين تحت أمر كليارخوس رجل من إسبارطة، فانتصر أرتخشيارش عليهم في واقعة بقرب من مدينة بابل، وقُتل قيروش، وتُسمى هذه الواقعة بواقعة «كونا كزه»، ثم مكر ملك الفرس بكليارخوس وقتله، وبعد ذلك انتخب اليونانيون «كسينيفون» رئيسًا عليهم، وأخذوا في الرجوع إلى بلادهم، وقاسوا مشقات كثيرة من البرد والجوع إلى أن وصلوا البحر الأسود ووصلوا مدينة «طرابزون» التي كانت أحد نزل اليونان، وسميت هذه الحادثة برجوع العشرة آلاف.
واعلم أن تجريدة العشرة آلاف هي إحدى الحوادث العظيمة القدر والشهرة التي حفظها التاريخ منذ الأزمان الغابرة، نظرًا لها ولنتائجها؛ فإن شهامة اليونانيين في أواخر القرن الخامس وأوائل الرابع قبل الميلاد قد ظهرت مظهر الفخار، وكانت محط التعجب أكثر من غيرها؛ حيث كانت الجنود المؤلفة منها هذه التجريدة جنودًا مجمكة من أقوام ذوي شراهة ومحبي السلب والنهب، غير أنهم وُصفوا بالبأس الصادق وقوة العزم والاقتدار على تتبع مقصدهم ولو بالقتال. فيا لها من خصال عجيبة! وزد على ذلك ما اشتهروا به من النظام وفن تصفيف الصفوف العسكرية اللذين فاقوا بهما معاصريهم كافة عامة، ولهذه الفرقة أيضًا مزية لا تُقدر هي علم بأصول الحرب لا يقتصر على القواد، بل للضباط أيضًا اليد الطولى فيه، وعدم الزيغ عن طريق مستقيم إذا حل بهم الخطب أو نزل ما لم يكن على بالهم، وقصارى الكلام أن الشعائر الدينية بقت فيهم معززة السلطان حتى حين المجازفة وقطع الطريق؛ فهي كانت لهم مصدر وثوق وحماسة، فكان رؤساؤهم لا يشرعون في زحف ولا ينشبون أقل حرب قبل أن يؤكدوا أن الآلهة عنهم راضون، فلو أن أمة عندها جيش من هؤلاء الأقوام — ولو قل عدده — لن تجد أمة في المشرق قاطبة تقاومها، ولن تجد في المغرب غير الرومانيين، فإنهم هم الذين ربما أوقفوا سيرها، وإن تجريدة اليونانيين الذين كانوا في خدمة قيروش استلفتت أنظار اليونان ووجهت أطماع المغرب بأثره نحو الشرق، وأن عدة عجالات تألفت في عصرها، منها رسالة كسينيفون التي زادت هذه الحادثة شهرة على شهرتها التي أفادتها إياها الروايات، فكيف يُتصور أن عشرة آلاف يوناني قد قاوموا في مضمار القتال أربعمائة ألف من الفرس وقاوموا القوة والخداع، فكانت هذه التجريدة سببًا في إذاعة ضعف المملكة الفارسية، واعتُبرت كقاعدة سياسية أن عشرة آلاف قاوموا جنود الفرس إذن ثلاثون ألفًا منهم يكونون أكفاء لإخضاعهم، فكانت تلك القاعدة سببًا في غزوة أجيسيلاس والإسكندر الأكبر؛ وأن غزوة الإسكندر ليست إلا نتيجة من غزوة العشرة آلاف وإن لم تعقبها مباشرة.
فكانت التجريدة المذكورة إحدى الحوادث التي من بعض الجهات شرَّفت الإنسانية وأعلت قدرها، ففي أي ظرف من الظروف كان يتعالى عزم الإنسان هذا في العالم الدنيوي، وما كانت الحوادث تنقاد زمنًا طويلًا لعزم أو لذكاء مستمرين، وما أفادته هذه الغزوة لفن الحرب هو الركن الأعظم والفائدة الكبرى؛ فلقد كانت له هذه الغزوة أساسًا ينتمي إليها ويرجع في مؤلفاته عليها، فإنها مَثل يُضرب لقواد وضباط وعساكر كل عصر. ومن أعمال هذه التجريدة النظامات العسكرية والحيل المصطنعة لمفاجأة العدو وأنواع التكتيكات للبيادة والسواري.
ولما كان اليونانيون القاطنون في آسيا الصغرى قد قاموا على أرتخشيارش مع قيروش المذكور أرسلت إسبارطة عساكر لمعاونتهم تحت قيادة أجيسيلاس ملك إسبارطة، فوقعت الحرب ثانيًا بين اليونان والفرس، فحرض ملك الفرس ممالك المورة أن يقوموا على إسبارطة، فالتزم أجيسيلاس أن يرجع إلى بلاده لحمايتها وبعد حرب عدة سنين عقد الصلح تحت شرط تسليم آسيا الصغرى وجزيرة قبرص للفرس وجزيرة لمنوس وسيرا لأتينا، واعتمد ذلك الصلح سنة ٨٧ق.م.
(٢-٤) جمهورية طيوة
إن طيوة كانت مدينة معتبرة من بيوثيا، ولما كانت الحروب قائمة بين أتينا وإسبارطة وضعفتا كلتاهما تقوت طيوة حتى صارت قاعدة السلطنة لجميع البلاد المجاورة لها، فخافت إسبارطة لئلَّا تزيد قوة طيوة وسطوتها، فأرسلت جيشًا وأخذت المدينة، وأقامت عليها ولاة من قبلها فقتلوا كثيرين من أهاليها، وهرب آخرون إلى أتينا منهم رجلان اسم أحدهما «أبامينونداس» والآخر «بلوبيداس»، فقاما على ظالم بلادهم وقتلاه بمساعدة بعض الأهالي، فاضطربت بسبب ذلك حرب شديدة بين إسبارطة وطيوة، فانتصر جيش طيوة بقرب «لوكريا» — إحدى مدن أركاديا — بالمورة وأضربوا ليكاونيا بالنار والسيف حتى أبواب إسبارطة ذاتها، وعادوا إلى بلادهم، ثم تجددت الحرب بعد برهة من الزمن، وانتصرت طيوة، ولكن قتل أبامينونداس.
وبقرب هذا الوقت حدث في مقدونيا قلاقل كثيرة؛ إذ توفي إمنتاس ملكها تاركًا ثلاثة أولاد، فشرع هؤلاء يتنازعون الملك، فطلب المقدونيون الإسعاف من طيوة، فأرسلت جيشًا تحت قيادة بلوبيداس لكي يصلح أحوال تلك البلاد، وعند وصوله إلى هناك ثبت الملك في يد فرديكاس، وأخذ أخاه فيلبش وثلاثين من أولاد أكابر البلاد رهنًا، وأرسلهم إلى طيوة، وفي مدة إقامة فيلبش هناك تعلم قواعد الحكم والحرب من أبامينونداس وبلوبيداس، وبعد عقد الصلح بين طيوة وإسبارطة لم يحدث بين اليونانيين أمر مهم إلا في زمن الملك فيلبش المذكور.
(٢-٥) تاريخ مقدونيا
اعلم أن مبدأ تاريخ هذه المملكة مجهول الحال، فقيل إن مؤسسها هو أول ملوكها المدعو كرانوس سنة ٧٩٤ق.م، وكان إمنتاس أبو فيلبش سادس عشر ملوكها بعد كرانوس، وقد تقدم أن فيلبش تعلم من طيوة قليلًا من أمور السياسة، وكان عمره وقتئذ عشر سنين، فأقام فيها اثنتي عشرة سنة، ولما بلغه خبر قتل أخيه هرب من طيوة، فوجد أهل بلاده مكتئبين من قتل ملكهم فرديكاس في واقعة مع أهل «إيليريا»، وكان لفرديكاس ابن صغير، فأخذ فيلبش على نفسه أن يكون وصيًّا له، وحكم باسمه، إلا أنه بعد قليل طلب المقدونيون أن يكون هو الملك، وأنهم لا يريدون طفلًا يملك عليهم، فأجاب طلبهم وملك سنة ٣٦٠ق.م وعمره ٥٦ سنة، ثم أخذ في تدبير الوسائط لإخضاع الممالك اليونانية، وضمها إلى مملكته وإذ كانت أتينا وإسبارطة قد ضعفتا في الحروب مع الأعجام، وكانت طيوة أيضًا قد ضعفت من حروبها مع إسبارطة، فأخذ يزرع الفساد بين ممالك اليونان، وكان له في جميعها خَدَمَة في أهلها وأكابرها ساعدوه على إجراء مقاصده، وفتح بقرب مدينة «فيلبي» معادن الذهب والفضة، واستخرج منها كل سنة مبلغًا وافرًا من المال، فيغلب بالدراهم إذ لم يستطع أن يغلب بالسلاح. وفي السنة الرابعة من حكمه ولدت زوجته «ولمبياس» ابنًا في مدينة «بلا»، وسماه الإسكندر، وكلف بتعليمه وتهذيبه أرستطاليس الفيلسوف.
وبقرب هذا الزمان نشأت حروب بين اليونان سميت بالحروب المقدسة، سببها أن أهل قوسيا وضعوا أيديهم على أرض تابعة لهيكل «أوبلون» في «دلفوس»، وحكمت عليهم المشورة الأمفكتيونية أن يدفعوا مبلغًا وافرًا للتكفير عن هذا الذنب، فلم يخضعوا لهذا الحكم، بل زعموا بأنهم أحق من غيرهم بتدبير أوقاف الهيكل وصيانتها، فاضطربت عند ذلك حروب مدة عشر سنين بين «قوسيا» و«أتينا» و«إسبارطة» من جهة وطيوة ولوكريا وتساليا من جهة أخرى، فعرض «فيلبش» نفسه وسيطًا أو مصلحًا بينهم وصيروه عضوًا من أعضاء المشورة الأمفكتيونية خلافًا لإرادة الأتينيين؛ إذ كان «ديموستين» الخطيب بأتينا يحذرهم دائمًا من فيلبش، ويريهم أن مقاصده نزع حريتهم وإخضاعهم تحت سلطنته، وبعد ذلك وضع أهل «لوكريا» أيديهم على أوقاف الهيكل المذكور، وأبوا الخضوع للمشورة الأمفكتيونية، فدعت المشورة فيلبش؛ لكي يجري حكمها غصبًا، ولما أجابهم متقدمًا إلى بلاد اليونان بجيشه رأى «ديموستين» نتائج عمله فتوجه إلى إخضاع البلاد، فحرض أهل أتينا وطيوة على مقاومته، فجمعوا جيشًا ولكن هزمهم فيلبش في واقعة كيرونيه «في بيوثيا»، واستولى على بلاد اليونان، وإذ كان مستعدًّا لمحاربة الفرس قتله بوزانياس أحد أتباعه في السنة السابعة والأربعين من عمره، وخلفه ابنه الإسكندر الآتي ذكره.
ذكر الإسكندر الأكبر ٣٣٦–٣٢٣ق.م
تولى بعد موت أبيه فيلبش، ويعرف في التواريخ باسم إسكندر الأكبر الرومي، ويلقب بذي القرنين (غير ذي القرنين المذكور في القرآن الشريف)، وهو صاحب الفتوحات العجيبة التي خلدت اسمه في دفاتر مشاهير المؤرخين.
واعلم أن غزوة الإسكندر للبلاد الفارسية هي أعظم حادثة حفظها التاريخ بعد الحروب الميدية وأجلُّها شهرة ونفعًا، كيف لا وقد أقامت الحروب الميدية التمدن من مهده، فأرشدته تلك العزوة وهو في شرخ شبابه طريق رفعته وفوزه! وكان ذلك أول القتال الذي انتشب بين التمدن والهمجية؛ حيث لم يكن قبلًا يتجاسر على نزال خصمه، فمن سعده وحسن حظه أنه انقلب على عقبيه مدبرًا ونجا بعمره، فنما مستقلًّا في ركن من زوايا الأرض وترك المملكة لخصمه، فخرج أخيرًا بعد كسرته وأقبل بعد أدباره تحت كنف الإسكندر، فوضع قدميه في ساحة القتال ونازع خصمه في ملكية الأرض، فكأن أوجدت هذه الغزوة شيئًا جديدًا، ألا وهو التمدن.
ولم تكن هذه الغزوة على نهج الغارات البربرية والغزوات الوحشية التي سبقتها، بل كان الإسكندر بدل أن يقهر بالقوة غلب بالحيل، وقد كان يشيد ولا يهدم، ويرفع ولا يضع، خلا بعض مدارس الكهنة الذين كانوا يخفون ما عندهم من العلم على قلته، فلم ينفعهم ما جمعوا ولا أغنى عنهم ما كسبوا، بل دمر مساكنهم وأحرقها، فلم تسمع لها بعد ذلك ركزًا، ولم يصادف الإسكندر في طريقه إلا همجية تتبجح بدعوى المال عارية عن الفضائل ومرزبانات وأرقاء ليسوا بأناس فانتشرت سلطة اليونان في النفوس والعقول، وخلع الناس ناف الذل والبلاء، فكانت هذه التجريدة بعثةً نورًا وهدًى للناس الذين استعبدتهم الدولة الفارسية فوقاهم الله شر ذلك، ونجاهم بهذا القائد الذي اتصف بذكاء الرسل وفطنة الأنبياء، ألا ترى أنه كان بعد نصرته يعتبر نفسه أنه تلميذ أرستطاليس، أوليس هو ملك مقدونيا الذي أعطى النصر في مواطن الحروب والمواقف أوليس هو الذي أخضعهم باقتحام المخاطر والمخاوف، وقبل غزوة الإسكندر لم يكن وجود دنيا تستحق هذا الاسم، بل كانت أرضًا معمورة بأقوام منفردين يجهلون بعضهم البعض ذوي عوائد وأخلاق مختلفة المقصد قد جمعها قيروش كباقي الملوك المتبربرة، وجعلها مملكة واحدة، وأما غزوة الإسكندر فربطت تلك الأمم بروابط الائتلاف والمودة، وجعلتهم تحت ناموس واحد، فبهذه المثابة علمت كل أمة معارف الأخرى وأفكارها وتعلموا ما لم تتوصل عقولهم إليه، ووقفوا على حقائق الأمور، وتجمعوا حول مصباح معارف اليونان، وبهذا الاتحاد وجد عالم متمدن جدير بهذا الاسم حري، ولم يبارح الإسكندر بلاد اليونان إلا بعد أن أمن على مقدونيا من الأقوام المتبربرين المجاورين لها وبعد أن أخضع بلاد اليونان بأثرها، ولم يخضعها إلا تنفيذًا لمآربه؛ هاجم الأقاليم البحرية، وأمر جيشه البري أن يسير وسواحل البحر؛ لكيلا يفصل بينه وبين أسطوله فاصل، وقد استعان بالنظام على العدة بما يقضي العجب، وإذا كان من المحقق أن النصر قد منحه كل شيء، فإنه أيضًا عمل كل شيء في نوال النصر، وفي أوائل مشروعه حيث كانت أقل هزيمة تكفي لعكس أمله لم يركن إلى الصدفة إلا في قليل من أموره، ولما أسعفته المقادير بالظفر بالحوادث اتخذ المجازفة من وسائله، وقبل سفره كان قد زحف على الإيليريين، ولما رجع إلى بلاد اليونان لم يفتح طيوة ويهدمها إلا رغم أنفه، فإنه عسكر أمامها مدة؛ ينتظر أن تعقد معه الصلح، فكانوا هم الجانين على أنفسهم، واستعان في هدم قوى الفرس العسكرية بجسارة القائد «بارميتيون» وبمهارة نفسه، فكان من حكمته فصل الفرس عن أسطولهم وإكراههم بأنفسهم الملاحة، وكانوا فيها بارعين، وكانت «صور» تابعة للفرس، وكانوا لا يستغنون عن تجارتها وملاحتها، فأعدمها ودخل مصر التي كان قد تركها دارًا بلا حماية حيثما كان يجمع قوته في جهة أخرى.
فعبوره نهر «الجرانيك» سنة ٣٣٤ ترتب عليه الاستيلاء على المستعمرات اليونانية وواقعة طرسوس أهدته صور وملك مصر، وواقعة إربل — بالقرب من الموصل — سنة ٣٣١ قلدته سيادة العالم، وبعد واقعة طرسوس المذكورة ترك دارا واشتغل في تثبيت دعائم فتوحاته وتنظيمها. وأما بعد واقعة إربل تبعه حتى لم يترك له ملجأ في دولته، فكان زحف الإسكندر سريعًا جدًّا، حتى إنه يخيل لنا أن تملكه على العالم كان جزاءً له على سيره لا أجرًا لما أحرزه من النصر، كما كان يحرز قصب السبق من سبقٍ في ألعاب بلاد اليونان.
فهكذا كان فتح البلاد، فانظر الآن كيف ساسها! لم يطاوع الإسكندر من أراد معاملة اليونان معاملة السادة، والفرس معاملة الأرقاء؛ بل فكر في أن يؤلف بين الأمتين وأن يعدم امتياز الأمة الغالبة على الأمة المغلوبة. وقد ترك بعد الفتح جميع الأوهام والخزعبلات على حالتها وتخلق بأخلاق الفرس وعوائدهم ليرضيهم، وليتقلدوا هم بعوائد اليونان، واحترم غاية الاحترام امرأة دارا ووالدته حين وقعن في قبضته بعد واقعة طرطوس، فأرسل دارا إليه طالبًا أن يفدي نساءه بمبلغ وافر وأنه يعقد الصلح معه، ويزوجه بابنته، وأن يجعل صداقها الأراضي الواقعة بين نهري الفرات وبحر الروم، فأجابه الإسكندر أن يسلمه إياهن بشرط إذا جاء بنفسه يطلبهن، فخاف دارا، واستمر حتى ساقه الإسكندر بعد واقعة إربل ثم لم يعلم له أثر بعد ذلك، وقد ذكر المعلم بطرس البستاني في دائرة المعارف أنه مات في السنة الثالثة من حكم الإسكندر.
فاستعمال الرأفة واحترام الديانات واستعمال المشورة في الأمور كل ذلك مما جعل أمة فارس تأسف لفقده، فانظر أيها القارئ — سهل الله إلى نفائس الخيرات طريقك — هذا الفاتح الذي بكت عليه الأمم التي أخضعها بسيفه ورادفها بسهامه، وهذا المغتصب الذي عند موته سكبت عليه العائلة التي اغتصب منها الملك الدموع زفرات وساءهم إعدامه، فتلك آية من آيات حياته ما روى لنا المؤرخون أن أحدًا من الفاتحين تباهى بمثلها.
ولما كان يعلم أن لا شيء يؤيد الفتح أكثر من التأليف بين الأمتين تزوج الإسكندر بنساء فارسيات، وأمر معيته كذلك، وقد حزا حزوه بقية أهل مقدونيا، وشيد في بلاد فارس نزلًا يونانية وشاد عدة مدن، وأرسى قواعد الدولة الجديدة في جميع أنحائها حتى إنه بعد موته لم ينشر لواء العصيان إقليم بعد طيه، ولكيلا يقلل اليونان والمقدونيين أرسل إلى الإسكندرية طائفة اليهود، ولم يعبث بما اعتادت عليه هذه الأمة ما داموا له من المخلصين، ولم يترك للأمم المقهورة أخلاقهم وعوائدهم فقط، بل ترك لهم قوانينهم المدنية وأيضًا ملوكهم وحكامهم الأصليين، وجعل المقدونيين قوادًا للجيوش وأهل الشرطة والوطنيين حكامًا لجهات الإدارة والقضاء، وكانت ملوك الفرس قد هدمت معابد المصريين وهياكلهم وكذا معابد البابليين واليونان، فأعادها فكأنه لم يفتح أمة إلا ليكون ملكها الخصوصي وليكون أول وطني بها.
وقد جاء بأمرين منكرين وهما حرق مدينة إستخر وقتل «كليتوس» الذي نجاه من الفارسين اللذين قصدا قتله بعد واقعة نهر الجرانيك، إلا أنه ندم على ذلك شديد الندم، حتى إنه أنسى الناس أفعاله القاسية وذكرهم احترامه للفضيلة؛ حيث اعتبرهما من المصائب التي فاجأته في عمره والتي أتى بها من خطأ إرادته.
وكان الإسكندر مغلول اليد في مصاريفه الخصوصية مبسوطها في المصروف العام؛ والدليل على ذلك أنه كان في نظام بيته «مقدونيا» ولدفع ديون العساكر وإخبار اليونان بفتوحاته، وفي إسعاد كل رجل من جنده كان «الإسكندر».
وبعد أن تم فتح ملك فارس دخل بلاد الهند وهزم ملوكها لا سيما بيروس العظيم القدر، ولم توقف سيره الصحاري ولا الأنهار ولا الجبال، إلا أنه اضطر أن يطيع أمر جنده الذين ملُّوا من الحروب وطلبوا الراحة، واكتفى بترك آثاره الفاخرة على شواطئ نهر آراسب، وعاد بجيشه من طريق آخر، وأخضع جميع البلاد التي قابلته وعاد إلى بابل مهابًا محترمًا، ولكن هذه المملكة الواسعة لم تقم إلا بمقدار عمره القصير ومات وهو في سن الثلاث والثلاثين من عمره، بينما كان متشبثًا بأجل المقاصد التي لم يتشبث بها أحد على وجه الأرض بعشمٍ زائدٍ في نجاحها، فاختطفته المنية ولم تتركه زمنًا لتثبيت أعماله، وأخلف أخًا له مهبولًا وولدًا رضيعًا غير أكفاء للقيام بأعباء هذا الحمل العظيم، ومما عاد على بيته بالشؤم ومملكته بالخراب والدمار أن ترك قوَّادًا عوَّدهم على الحروب والغزوات والطمع، فلا يرجون شيئًا سواها. وكان مستشعرًا بما سيحصل بعد موته، ومن خوفه أن لا يطاع أمره لم يتجاسر على تعيين خليفة له ولا وصي لأولاده، بل أخبر أن أصحابه سيشيعون جنازته بوقائع سافكة للدماء، وقد رأى في حياته تقسيم مملكته وخراب بيته، وأما مملكته التي ورثها من أجداده منذ أزمان طويلة وهي مقدونيا فقد أغير عليها كأنها ميراث ليس له وارث وحكمتها عائلة غير عائلته، فهكذا تكون حالة الفاتح العظيم الذي ذهب بفضل الشهرة، وأن يكون آخر ملوك عائلته، فلو أنه قعد في مملكته ساكنًا فما كانت مملكته تقسمت بين ضباطه وكان ترك مملكة آبائه لأبنائه، ولكنها لما كبرت واتسعت كان سببًا في زوال ملكه الخاص، فتلك ثمرة كثرة الفتوحات والغزوات.
وهو الذي اختط مدينة إسكندرية في محل القرية التي كانت تعرف في ذلك اليوم باسم «راكوتيس» وجعلها على نسق المباني المقدونية، وذلك سنة ٣٣٢ق.م وقد عين بنفسه محل المباني والهياكل سواء كانت مصرية أو مقدونية، وهذا دليل على إباحة الديانة المصرية عنده وجعلها مركزًا للتجارة المشرقية والمغربية، ومات الإسكندر بالحمة المتقطعة، وذلك من انهماكه على شرب الخمور زيادة عن الطاقة، وذلك سنة ٣٢٣ق.م، ومدة حكمه ١٢ سنة، وعمره ٣٣ سنة. قال بعض المؤرخين إنه مات ببابل، وقد ذكر المعلم بطرس البستاني في دائرة المعارف أنه مات بشهرزور بعلة الخوانيق، وكان عمره ٣٦ سنة، ودُفن في تابوت من ذهب مرصع بالجوهر، وطُلي بالصبر لئلا يتغير، وحُمل إلى أمه بالإسكندرية، وبنى الإسكندر ١٢ مدينة منها أصبهان وهراة ومرو وسمرقند، وبنى بالسواد مدينة لروشنك وبأرض اليونان مدينة وبمصر الإسكندرية.
خلفاء الإسكندر
ومات الإسكندر ولم يعين خليفة له، وكان له ابن ولد بعد موته ببضع شهور وأخ أحمق لا شرف ولا مجد له، فصارا يتقلبان على سرير الملك مدة من الزمن، ثم قام أتباع الإسكندر وقسموا ممالكه إلى خمسة أقسام؛ استولى «أنطيباتيه» على مقدونيا، و«أنتيجون» على آسيا الصغرى، و«إيمين» — بإمالة الألف والميم — على قبادوسيا، و«سيلوخوس» على بابل، و«بطليموس» على مصر، وجعلوا «لفرديكاس» الذي كان قد أعطى له الإسكندر قبل موته خاتمه الرياسة عليهم؛ لكن بعد ذلك أبوا رياسة فرديكاس وأرادوا أن يكون لهم الرياسة المطلقة على أقاليمهم، ومن ثم حصلت مخاصمات ومنازعات، فاشتد الحرب بين هؤلاء الطمعة فقتل «فرديكاس» وقام «أنطيباتيه» ثم «إيمين» وجدُّوا في طلب حقوق عائلة الإسكندر، ولكن «إيمين» بعد أن انتصر نصرات عظيمة هزمه أخيرًا «أنتيجون» وقتله، وبعد موته لم تجد عائلة الإسكندر من يقوم بحمايتها ووقعت بين أيدي أعدائها واتبعوها بالقتل حتى أهلكوها ولم يبقَ منها غير المستضعفين، وقبض «أنتيجون» وابنه «ديمتروس» على زمام أقاليم آسيا، فتعصب عليهما بطليموس وسيلوخوس وأحزابهما، ووقعت الحروب بينهما، فدارت الدائرة فيها على أنتيجون ومن معه بالقرب من مدينة أبسوس «بآسيا الصغرى» سنة ٣١٠ق.م، وقُتل أنتيجون. وأما ابنه ديمتريوس ففرَّ هاربًا، وكانت واقعة «أبسوس» المذكورة سببًا في انقطاع الشقاق والتطاعن، وانقسمت ممالك الإسكندر بعد ذلك إلى ثلاثة أقسام؛ الأول: مصر، وتولاها بطليموس صوتير. والثاني: سوريا، وتولاها سيلوخوس. والثالث: مقدونيا، وتولاها كساندر.
(٢-٦) تاريخ اليونان بعد موت الإسكندر
الحزب الأخيواني وذكر أراتوس
ولما انحطت بلاد اليونان جميعها استعبدها ملوك مقدونيا، فشرعت في إنقاذ نفسها وأول من اجتهد في ذلك من أهلها الشهير «أراتوس» فخلص مدينته التي ولد بها من الطاغية، وأراد كذلك إنقاذ وطنه بتمامه من طغيان أهل مقدونيا، ولكن كان يتوقف نجاحه على اتحاد البلاد اليونانية في الكلمة كما فعلت أيام الحروب الميدية فتسنى لها طرد الأجانب، لكن لما كانت مدائن «أشاء» أو «أخيا» يدًا واحدة عقد أهلها مع بعضهم المعاهدات، فجمع شملهم، وعامل كل منهم أخاه على وتيرة واحدة، وبالجملة كانت «أخيا» عبارة عن حزب، فبث «أراتوس» في الحزب الأخيواني روح الحمية، وسعى في ضم بلاد اليونان جميعها إلى حزبه، فتمكن من ذلك وأنقذ كورنته من حاميتها المقدونية، وأدخل في الحزب جملة مدائن منها «أتينا»، وكان ذلك نحو سنة ٢٥٠ق.م.
الحزب الإيطولياني
قد اضمحلت مقدونيا بالفتن الداخلية وصارت هي والحزب الأخيواني أعداءً ألداء للأقوام المعروفين باسم الإيطوليين «بشمال المورة» الذين كانوا يشنون الغارة دائمًا على أطراف تلك الجهات ويهددونها بالسلب والنهب، ثم اجتمعوا في هيئة حزب سُمِّي بالحزب الإيطولياني، وانتشبت الحرب بين الأخيوانيين والإيطوليين انتهت بحصول معاهدة بينهما، وقبل ذلك أراتوس. وكانت إسبارطة قد قامت من سقطتها بعناية أحد ملوكها المدعو «آجيس» الذي نشر أحكام «لوكورغه» ليحيي بذلك وطنه، فابتدأ بإبطال الديون، ثم قسم الأرض بين الأهالي، فغضب لذلك أغنياء إسبارطة، وأغروا على قتله. ولما تولى كليومين الثالث «بإمالة الميم» المُلك صمم على تنفيذ مشروع «آجيس»، فابتدأ في تنظيم القوة العسكرية لبلاد «لقديمونيا»، وأراد كسر شوكة الحزب الأخيواني، فقام وهجم على أراتوس، وانتصر عليه جملة نصرات، ورجع إلى «لقديمونيا»، وحبب إليه العزم في استرجاع أحكام لوكورغه، وشدد في ذلك، ومن ثم عاد لإسبارطة شوكتها القديمة، وصار كليومين له الرياسة الملوكية على أغلب مدن المورة، فلما شاهد «أراتوس» ذلك وعرف مقاصد «كليومين» استنجد بملوك مقدونيا، فبعثوا لمساعدته جيشًا من المقدونيين والأخيوانيين، فانهزم الإسبارطيون بالقرب من مدينة «سيللازيا» «لاكونيا» سنة ٢٢٢ق.م، وأما كليومين ففرَّ هاربًا إلى مصر والتجأ إلى بطليموس الثالث، ثم قتل نفسه، وذلك سنة ٢٢١ق.م.
وبعد واقعة «سيللازيا» انتشبت الحروب بين الأخيوانيين والإيطوليين؛ حيث كان غرض الإيطوليين أن يكون الحكم المقدوني في أيديهم، وسميت هذه الحرب «حرب الحزبين»، فانهزم الأخيوانيون والتجئوا إلى مقدونيا، وكان ملكها وقتئذ فيلبش الثالث، وفي سنة ٢١٣ مات أراتوس مسمومًا بأمر فيلبش المذكور، وبذلك تحكمت يده على بلاد اليونان.