في الكلام على مصر تحت حكم اليونان أي زمن البطالسة
اعلم أن ملوك البطالسة هم ذرية بطليموس السالف الذكر، وقد مكثت مصر تحت حكمهم مدة ٢٧٠ سنة، وكان مقر حكومتهم الإسكندرية، وعدد ملوكهم أربعة عشر بما فيهم كليوبترة التي كانت خاتمة لهذه الدولة، ولنذكرهم على الترتيب فنقول:
ذكر الملك بطليموس الأول
ويلقب باسم صوتير — أي المخلص — وقد وقعت مصر في قبضته حينما انقسمت ممالك الإسكندر، وكانت مصر أعظم ممالك العالم وأبهجها، ولما تحكمت يده في مصر أحسن التدبير والسياسة، واستمال عقول الأهالي، وقد أدخل جمهورية القيروان تحت حكمه لما قامت بها فتنة داخلية، وهو الذي تمم الهياكل والمباني، وصارت الإسكندرية من أعظم مدن الدنيا، فمن ضمن هذه المباني ضريح الإسكندر الذي خفي الآن عن العيون، وظن أنه في محل بمدفن النبي دنيال عليه السلام، ومنارة الإسكندرية التي أنشأها بجوار المينة البحرية لمنافع التجارات وفوائد السياحات والمعاملات، وهي إحدى بنيان العالم العجيب الذي بقي على ممر الزمان من عجائب الدنيا، ومن أنفع مباني بطليموس المذكورة مدرسة الإسكندرية المسماة بالرواق؛ حيث جمع فيها علوم ذلك الوقت من فلسفيات ورياضيات وطبيعيات وحكم وآداب، فكانت هذه المدرسة موصلة لقصره بقرب عمود السواري المشهور، وقد جلب إليها علماء اليونان وغيرهم من سائر البلدان، وما مضى على الإسكندرية برهة من الزمن إلا وصارت مركز التمدن والعلوم والفنون، وأنشأ فيها خزائن كتب ملوكية جمع فيها الكتب القديمة المعتنى بها، وكان له مزيد عناية بالفنون المتجربة حتى كان عنوانه في ديوان مقدونيا قابودان الأسطول، وكثرت في أيامه التجارات والمخالطات مع البلاد البعيدة، وقد ذكر المؤرخون أن مصر في أيامه كان في وسعها الاستحضار على مائة ألف من العساكر وأربعين ألف من الفرسان وعلى ألف مسلح من المناشير والمناجل، وكان في مخزن المملكة مائة ألف طقم مجهزة من الزرد، وكانت بالترسخانة نحو ٣٥٩٠ سفينة كبيرة، وكان ما يبقى في كل سنة من الإيراد بعد الصرف ٢٠٠٠٠٠ كيس، ومات سنة ٢٨٥ق.م.
بطليموس الثاني ٢٨٥–٢٤٧ق.م
ويلقب فيلادلفيس، سمي بهذا الاسم من باب التهكم والتمسخر؛ لأنه كان يبغض إخوته ويتقصدهم بالقتل، وكان سنه وقت تقليده السلطنة ٢٤ سنة، وقد سار على سيرة أبيه وتفرغ إلى تقديم العلوم، وهو الذي أمر القسيس «مانيتون» المصري بتأليف تاريخ مصر باللغة اليونانية، ثم ترجم إلى اللغة الفرنساوية، ثم إلى اللغة العربية في عصرنا هذا «الأستاذ عبد الله بك الشهير بأبي السعود مدير عموم المكاتب الأهلية سابقًا»، فجمع المؤلف تاريخها من الدفاتر المصرية والتذاكر القديمة المحفوظة بالهياكل والمعابد المصرية، ولم يبقَ من هذا التاريخ إلا بعض جزئيات وصلت إلى الفرنج ضمن كتب المؤرخين، وكانت مصر في عصره أعظم البلاد، وقد اعتنى بمعرفة حقائق البلاد، فاستكشف داخل بلاد أفريقا وسواحل بحر فارس المعادن والأحجار الكريمة، وقد اجتهد في استكشاف منبع النيل، وأرسل لذلك جملة إرساليات، واستكشف أيضًا السودان والنوبة وجنوب بلاد «مرو»، وقد جدد عملية حفر ترعة السويس التي كان شرع فيها من الفراعنة نيخاؤس ومن الفرس دارا الأول، ففتح هذا الخليج من فرع الطينة بالقرب من تل بسطة عند الزقازيق ووصله إلى البحر الأحمر بقرب السويس في الجهة الشمالية، وأرسل كثيرًا من الكشافين لاستكشاف شبه جزيرة العرب إلى بحر الهند وأخذ مساحتها، وقد شرع في بناء هيكل عظيم لزوجته التي هي أخته أيضًا، وهو أول من أمر بترجمة التوراة من اللسان العبراني إلى اللسان اليوناني، ومات سنة ٢٤٧ق.م.
الملك بطليموس الثالث ٢٤١–٢٢٢ق.م
ويلقب أيضًا أورجيطة — أي المرحوم — لقب بذلك من باب التهكم، ولم يمكث زمنًا طويلًا إلا وقد اضطر إلى الحرب مع سيلوخوس الثاني ملك الشام، واستمرت المشاجرة بينهما أزمانًا؛ وسبب ذلك أن سيلوخوس المذكور قتل أخته بعد أن تغلب على ملك زوجها أنطيوخوس الثاني، فآل الأمر بهزيمة سيلوخوس، ودخل بطليموس المذكور بلاد الشام واستولى على سواحل آسيا الصغرى، وتقدم إلى نهر الفرات، ودخل أرض الجزيرة وبلاد بابل والعجم والميديين، وزحف لغاية بلاد بكتريان ثم رجع إلى مصر؛ لداعي الاضطرابات التي حصلت بها، فترك هذه الولايات ولم يبق منها سوى فلسطين وسواحل آسيا الصغرى لغاية بوغاز الدردنيل، ولما عاد إلى مصر وأطفأ نار الفتنة زحف بجيوشه إلى بلاد الأتيوبيا، فقهر ملك مملكة مرو واستولى على بلاد الحبش واتسع نطاق مملكته من ينابيع النيل الأزرق لغاية بوغاز باب المندب، وقد أدخل جزيرة قبرص تحت طاعته وأيضًا برقة وليبيا، وجلب من هذه الفتوحات غنائم شتى، ولما كان غائبًا خافت عليه زوجته فنذرت نذرًا إن رجع زوجها سالمًا تكرس شعر رأسها للزهرة، فحين رجع وفت بالنذر وكرست شعرها ووضعته في هيكل الزهرة، ومكث بالهيكل المذكور عدة أيام، ثم سرقه أحد القسس، فأمر الملك بقتل جميع القسس الموجودين بالهيكل، فخاف الحراس على أنفسهم، فنجاهم أحد المنجمين بقوله للملك إن الزهرة قد نقلت شعر الملكة إلى السماء ووضعته بين النجوم، ومن ثم سُمي مجموع من مجاميع النجوم «شعر برنيقا» المعبر عنه بالثريا، وهو الذي بنى «المعبد الأكبر» بمدينة «إدفو»، وكان في مدته وجود الفلكي «إيراتوستين» الذي ثبت ثبوت الأرض وتحرك الأجرام السماوية، واستمر رأيه مدة أربعة قرون؛ أعني إلى ظهور بطليموس الذي كان بمدينة «الفرما»، وأثبت رأي إيراتوستين ولم يزل علماء هذا الفن يعتقدونه إلى الجيل الخامس عشر حتى جاء العلامة كوبرنيق الألماني وأظهر حقيقة المسألة، ومات أورجيطة سنة ٢٢٢ق.م.
بطليموس الرابع ٢٢٢–٢٠٥ق.م
ويلقب فيلوباطور أي المحب لأبيه، لُقِّبَ بهذا الاسم على سبيل التهكم والاستهزاء؛ لأنه اتُّهِم بقتل أبيه بالسم، وفي عصره خرج عليه أنطيوخوس الأعظم ملك الشام، يريد بذلك القبض على زمام الأقاليم التي فتحها أورجيطة، فتقابلا الجيشان في مدينة رافيا، وهُزم الجيش الشامي، وفتح فيلوباطور بلاد فلسطين وجزءًا من بلاد سوريا، وكان ضعيف الرأي؛ حيث كان وزيره «سوسبيوس» يدخل عليه الأراجيف والوهميات التي لا أصل لها، واستمال عقله حتى أغراه على قتل أخيه وأعيان دولته وزوجته، وأمر أيضًا بقتل يهود الإسكندرية؛ حيث منعه «الحاخام» من زيارة بيت المقدس، ومات سنة ٢٠٥ق.م.
بطليموس الخامس ٢٠٥–١٨١ق.م
ويلقب «أيبيفان» أي الماجد، تولي هذا الملك وهو ابن خمس سنوات، وأقيم عليه أحد وزرائه كفيلًا، وصار هذا الوزير يرتكب الجرائم والمفاسد، وكذا قامت عليه الأهالي وأخذوه واستأذنوه في قتله، وقتلوه مع جميع أحبابه، ونُقلت الكفالة، وولت الأهالي كفيلًا غيره، فتغيرت الأحوال، فأغار عند ذلك ملك الشام، ولكن انتصر عليه ملك مصر بكثرة جنوده.
الملك بطليموس السادس والسابع ١٨١–١١٧ق.م
ويلقب أيضًا فيلوماطور أي المحب لأمه، سمي بهذا الاسم تهكمًا، وكان بينه وبين ملك الشام حروب شديدة انهزم فيها بطليموس وأُخذ أسيرًا، ولما رأت أعيان البلد ما حصل لملكهم أقاموا أخاه بطليموس السابع فيسكون «الحنطاء»، ولما سمع بذلك ملك الشام ذهب إلى الإسكندرية وحاصرها، ثم إن اليهود شاعت أن ملك الشام مات في حصار مدينة الإسكندرية، فاضطربت أحوال بلاد الشام، فلما علم ملك الشام تلك المسألة توجه إلى وطنه وترك الحصار.
وعاد بطليموس، فعند ذلك حصل النزاع بين الأخوين، فذهب فيسكون إلى بلاد اليونان واستعان بهم، فحُكم له أن يكون واليًا على بلاد القيروان وبرقة فلم يرضَ، فزادوه جزيرة قبرص، فغضب بطليموس المحب لأمه، وانتشبت الحرب بين الأخوين، فغلب بطليموس محب أمه أخاه فيسكون، وأخذه أسيرًا ثم عفا عنه وزوجه بنته كليوبترة الصغيرة.
بطليموس الثامن ١١٧–١٠٧ق.م
فكان ملكًا على القيروان، ولما سمع بموت أخيه فيسكون تزوج بأخته كليوبترة التي كانت زوجة أخيه المتوفى، وذبح يوم عقده ابنها على حجرها، ثم تزوج بابنتها أيضًا، وانهمك على اللذات والمعاصي، فبغضته الرعية، ففرَّ هاربًا إلى جزيرة قبرص، وخاف أن يمتلك ابنه المملكة، فأرسل إليه ولما حضر عنده أمر بذبحه، ووضعه بزنبيل وأرسله إلى زوجته كليوبترة، ولما نظرت ما حصل بابنها جهزت عساكر وتحاربت مع عمها الذي هو زوجها، فهزمها وتولى على مصر ثانيًا.
بطليموس التاسع ١٠٧–٨٨ق.م
ويلقب أيضًا بالأرقط؛ لأنه كان له علامة في وجهه، وكان الملك مبغوضًا عند أمه؛ لأنه كان عازمًا على قتلها بالسم، فقومت عليه الأهالي، ففرَّ هاربًا إلى جزيرة قبرص وأخفى نفسه، فجاءت أمه وألبست التاج لأخيه الأصغر المدعو الإسكندر الثاني.
بطليموس العاشر ٨١ق.م
ومكثت أمه تحاربه وهو في جزيرة قبرص، فكانت تارة تغلبه وتارة يغلبها، ثم قتلها ابنها الإسكندر المذكور وأراح العباد منها، ونبش قبر الإسكندر الأكبر، وأخذ التابوت الذهب الذي كان مدفونًا فيه، ووضع تابوتًا بدله من البلور؛ فلذا بغضته الأهالي، وأحضروا أخاه بطليموس الزامر ملكًا محل أخيه، ومات سنة ٨٠ق.م.
بطليموس الحادي عشر ٨٠–٥٢ق.م
ويلقب بالزامر، سمي بذلك الاسم لتولعه بسماع المزمار، وكان بينه وبين أخيه الإسكندر اضطرابات عظيمة وحوادث جسيمة إلى أن مات الإسكندر سنة ٨٠ق.م، ولما انفرد بطليموس الزامر بالحكم تعاهد مع بومبيوس ويولص قيصر ملكا روما ودفع لهما مبلغًا جسيمًا، وتحصل على هذه الأموال بزيادة الجزية، فبغضته الأهالي ففرَّ هاربًا من مصر، ثم عاد مع جيش روماني وقتل الأمراء وأعيان مملكته واستولى على أمتعتهم.
بطليموس الثاني عشر والثالث عشر وكليوبترة الكبيرة
تولى بطليموس الثاني عشر على مصر سنة ٥٢ق.م وهو قاصر مع أخته كليوبترة، فبغضها الأهالي فهربت إلى الشام، وبقي بطليموس الثاني عشر حاكمًا وحده، وفي هذه المدة قامت فتنة بين ملكي روما وهما يولص قيصر وبومبيوس قيصر، ولما انهزم بومبيوس فرَّ إلى مصر واحتمى عند بطليموس الثاني عشر، فما كان منه إلا أن قتله وبعث رأسه إلى يولص قيصر، فشق عليه ذلك الأمر، وأمر بإحضار بطليموس الثاني عشر وأخته كليوبترة، وحبسهما عنده، فالتمس أهل الإسكندرية من يولص قيصر أن يرسل لهم بطليموس ليكون حاكمًا عليهم، ولأجل أن ينتقموا من كليوبترة فامتنع من ذلك، فوقع الحرب بين أهالي الإسكندرية والملك يولص قيصر، فغلبوه وأرادوا أن يأخذوا سفنه فأحرقها بيده أيضًا، واشتعلت نيرانها من البحر حتى وصلت إلى القصر الملوكي، ومنه اتصلت إلى كتبخانة الإسكندرية، ثم إن مدينة روما لما استشعرت بذلك أرسلت إلى يولص قيصر عددًا من العساكر، فانتصروا على المصريين، وبعد ذلك أطلق لهم يولص قيصر بطليموس الثاني عشر، ولما خرج من عنده جهز عساكر بحرية، فانهزم أمام خصمه، فأخذه وقبض عليه وأغرقه هو وعساكره في النيل، وعاد يولص قيصر إلى بلاده سالمًا سنة ٤٨ق.م.
وأمر يولص قيصر بطليموس الثاني عشر وكليوبترة أن يحكما بالاشتراك، ومات بطليموس مسمومًا سنة ٤٤ق.م فتزوجت أخته بأنطينيوس ملك روما، فكان له شريك في الملك يدعى أقطاوس فحصل بينهما مثل ما حصل بين يولص قيصر وبومبيوس، فانهزم أنطينيوس، ورجعت كليوبترة من الشام إلى مصر، وأرسلت لزوجها تعلمه أنها قتلت نفسها، فلما بلغه الكلام قتل نفسه، ودخل أقطاوس مصر، ولما استشعرت بذلك قتلت نفسها بثعبان، وقيل إنها قتلت نفسها حينما لم يقبل أقطاوس أن يتزوج بها وذلك سنة ٣١ق.م، ومن ذلك الوقت صارت مصر إقليمًا رومانيًّا.