في تاريخ العرب
اعلم أن العرب يسمون بلادهم جزيرة العرب، وهي في الحقيقة شبه جزيرة، ويحدها من الشمال فلسطين وبعض سوريا والجزيرة، ومن الشرق الجزيرة أيضًا والعراق العربي والخليج الفارسي وجزء من بحر الهند، ومن الجنوب بحر الهند أيضًا، ومن الغرب بوغاز باب المندب والبحر الأحمر المعروف بخليج العرب وبوغاز السويس.
وتنقسم بلاد العرب إلى خمسة أقسام: وهي اليمن والحجاز ونجد واليمامة وأرض البحرين وهي معدودة عند أكثرهم من العراق، وهي في الحقيقة في بلاد العرب إلا أنها متصلة بالعراق.
(١) أمة العرب قبل الإسلام
اعلم أن العرب ينسبون أنفسهم إلى ذرية إبراهيم الخليل عليه السلام، فكان قحطان وإسماعيل أصلين للنسلين العظيمين اللذين عمرا شبه جزيرة العرب، الأول في جنوبها والثاني في شمالها، ويقال لهذين النسلين العرب المستعربة والعرب المتعربة لتمييزهما عن عرب العربا الذين يقال إنهم من نسل قومي عاد وثمود.
فأما عاد فعلى حسب الروايات القديمة كان يسكن ومعه قومه صحراء الأحقاف — شمال حضرموت — وقد أرسل الله إليهم هودًا عليه السلام، فلم يؤمن بالله منهم إلا قليل، فأرسل الله عليهم ريحًا صرصرًا فأهلكهم عن آخرهم. وأما ثمود وقومه فكانوا يسكنون الأقطار الحجازية، فأرسل الله إليهم صالحًا عليه السلام، فدعاهم إلى التوحيد، فما تبعه إلا المستضعفون منهم، فأرسل الله عليهم صيحة من السماء فأصبحوا في ديارهم جاثمين على الركب، وسار صالح عليه السلام إلى الشام.
والعمالقة وهم من ذرية سام على رأي البعض أو من ذرية حام على رأي البعض الآخر، وأما العرب المتعربة وهم بنو قحطان فقد توطنوا باليمن وأسسوا فيها عائلتين ملوكيتين؛ عائلة ملوك سبأ والثانية عائلة ملوك حمير، وبقي لسان العرب العرباء هو اللغة العربية الحقيقية المستعملة إلى الآن في الحجاز ونجد، ولكن سكان مدن اليمن قد استعملوا لغة بني حمير التي تعلمتها بنو قحطان من آبائهم الأول.
وأما العرب المستعربة فظهروا بعد زوال بني قحطان بزمن طويل، وقد قيل إن إبراهيم الخليل عليه السلام لما أوحي إليه من قبل الله عز وجل بأن يبني في مكة المشرفة هيكلًا أي معبدًا مباركًا رحل من الشام امتثالًا لأمر الله، ونزل في بلاد العرب وشيد فيها الكعبة سنة ٢٧٤٠ق.م التي عظمتها العرب منذ أزمان طويلة بأنواع التعظيمات الدينية، وقد أقعد بناؤها خليل الرحمن عن الرحيل من الحجاز مدة عدة سنين، وعاونه على بنائها ابنه إسماعيل عليه السلام المولود بأرض مكة عينها، وعين الماء التي عثرت عليها هاجر — والدة إسماعيل — تسمى بئر زمزم، وأن الحجر الأسود المشهور جاء به لإسماعيل جبريل عليهما السلام، ولم يزل هذا الحجر موضوعًا من قديم الزمان في بناء الكعبة، ومن نسل إسماعيل عدنان الذي ينتهي إليه النسب الصحيح للنبي ﷺ.
وأما حمير الخامس عشر من أولاد يعرب بن قحطان — الذي هو أول من تكلم باللغة العربية — إليه تنسب عائلة بني حمير التي حكمت باليمن ما ينوف عن عشرين قرنًا، وهو الذي طرد ثمود وقومه إلى الحجاز، ومن ملوك الحميرية إسكندر ذو القرنين المذكور في القرآن الشريف، ومنهم أيضًا أفريقش وذو الأذعار والهدهاد وبنته بلقيس التي أتت طائعة إلى سيدنا سليمان كما تقدم وتزوجها، ومنهم تُبَّع وإليه تنسب التبابعة، وحكم منهم ٢٤، واستمر حكمهم إلى سنة ٩٦ق.ﻫ، ومنهم ذو نوانس ودخل في دين اليهود وجبر الناس على الدخول في هذا الدين، ومن لم يدخل فيه يحرق، وظلم المسيحيين فاستعانوا بالنجاشي ملك الحبشة الذي كانت ديانته مسيحية، ولما طلبوا معاونته لإنقاذهم من هذا الظلم أرسل المذكور ابنه أرياط مترئسًا على جيش مهول ليستولي على بلاد اليمن، فدخل فيها وفتح بعض مدنها وهزم آخر ملوك التبابعة، ثم قُتل أرياط فترأس على الجيوش أبرهة الأشرم صاحب الفيل الذي عزم على فتح مكة المشرفة، وكانت في هذا الوقت تحت رياسة عبد المطلب جد النبي ﷺ، فقام عبد المطلب وحارب خصمه وهزمه في سنة ٥٧١م، ومات أبرهة عند وصوله إلى اليمن، وسميت هذه السنة بعام الفيل، وآخر ملوك الحبشة باليمن كان مسروق، ثم حكمت اليمن ثانيًا ملوك حمير، والذي حكمها هو سيف بن ذي يزن الحميري، وقد أمده كسرى أنوشروان ملك الفرس على الحبشة بجيش، فطرد جيوش الحبش، وتقرر سيف في الملك واستمر حاكمًا إلى أن قُتل، فأرسل كسرى عمالًا من طرفه على اليمن واحدًا بعد واحد إلى أن كان آخرهم بازان الذي دخل في الديانة الإسلامية المحمدية سنة ١٠ هجرية.
وأما المهاجرون الذين خرجوا من بلاد اليمن بعد السيل العرم الذي حصل سنة ٧٠٠ق.ﻫ فأنهم أسسوا في شمال بلاد العرب مملكتين، إحداهما على شاطئ نهر الفرات وتعرف باسم مملكة الحيرة، دخلت في دين الإسلام سنة ١١ﻫ، وثانيتهما مملكة غسان، وهي في ضواحي مدينة دمشق، وأسلمت سكان هذه المملكة سنة دخول أهل بلاد الشام في الديانة الإسلامية؛ أعني في زمن خلافة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه.
(١-١) الكلام على طباع العرب وأخلاقهم
ذكر المؤلف هردر أن العرب كانت منتشرة من قديم الزمان خلف شبه جزيرتهم — أعني في زمن الجاهلية الذي يطلق على الأعصر الأول من تاريخهم — وكانت العرب قد أسست ممالك صغيرة في العراق والشام كما تقدم، وكان بعض قبائلهم يسكن وادي مصر، وكان الحبش من نسلهم، وقد توطن العبرانيون الذين بعث إليهم موسى بن عمران عليه السلام مع قبائل العرب في أغلب الأزمان، وكانت تحافظ قدماء العرب على أخلاق أجدادهم، ولكن تغيرت طباعهم بعد ذلك فصاروا سفاكين للدماء، ومع كونهم ذوي حرية وكرم وعزة نفس فإنهم سريعو الغضب أقوياء الجراءة، فترى في الواحد منهم صفات الفضائل والرذائل التي عليها أمته، وفخارهم بالسيف وإقراء الضيف وفصاحة اللسان، بل كان السيف هو الكفيل الوحيد في إثبات حقوقهم والوقوف على معرفتها جيدًا، وكان إقراء الضيف معتبرًا أنه القانون الجامع لقوانين الإنسانية، وكانت الفصاحة لعدم معرفتهم بالكتابة والقراءة تُستعمل في فصل المخاصمات التي كانت لا تنهيها المحاربات، وكانوا لا يتزوجون أمهاتهم ولا بناتهم، ويسمون من يتزوج امرأة الأب الضيزن ويعيبونه بذلك، ولهم عوائد كثيرة لا يسع المقام شرحها.
(٢) سيدنا محمد ﷺ
(٢-١) صاحب الشريعة الغراء
ولد ﷺ يوم الاثنين ٩ ربيع الأول الموافق ٢٠ إبريل سنة ٥٧١م — كما أثبت ذلك سعادة المرحوم محمود باشا حمدي الشهير بالفلكي في كتابه المؤلف باللغة الفرنساوية، وترجمه حضرة أحمد أفندي زكي، المسمى نتائج الأفهام في تقويم العرب قبل الإسلام — وهو سيدنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان (كذب النسابون بعد عدنان)، توفي أبوه عبد الله بالمدينة وكان عمره ٢٥ سنة، ودفن بمحل يعرف بدار النابغة الجعدي، وكان رسول الله يومئذٍ حملًا، وتوفيت أمه آمنة بنت وهب بالمحل المعروف بالأبواء بين مكة والمدينة، حين بلغ عمره ست سنين، فكفله جدُّه عبد المطلب، فلما بلغ النبي ثمان سنين مات عبد المطلب، فقام بأمره عمه أبو طالب بوصية من عبد المطلب، وأقام عنده حتى بلغ، فكان أحسن الناس منطقًا إذا تكلم، وأصدقهم حديثًا، فدُعِي الأمين في قومه، ولما بلغ عمره ﷺ ٢٥ سنة سافر إلى بر الشام في تجارة لخديجة بنت خويلد التي صارت زوجته فيما بعد، وعمرها أربعون سنة، وكل أولاده منها إلا إبراهيم فإنه من مارية القبطية — التي أهداها له المقوقس — وتوفيت خديجة وأبو طالب قبل الهجرة بثلاث سنين أي في سنة ١٦ من النبوة.
وفي سنة ٣٥ من عمره بَنَت قريش الكعبة، وتنازعوا في وضع الحجر الأسود؛ لأن كل قبيلة تريد أن تضعه، ومكثت في المنازعة مدة أربعة أيام، ثم اتفقوا على تحكيم أول داخل من باب «بني شيبة»، فكان أول داخل منه النبي ﷺ، فأمرهم بأن يحضروا ثوبًا فوضع الحجر الأسود فيه وكل قبيلة أخذت طرفًا من أطرافه، ولما وصلوا إلى محله أخذه النبي ﷺ ووضعه وبنى عليه.
ولما بلغ سن الأربعين بعثه الله على فترة من الرسل إلى كافة الناس بشيرًا ونذيرًا، وكان ذلك بعد ولاية كسرى أبرويز ملك الفرس بعشرين سنة، وأول ما بدئ به من الوحي الرؤيا الصادقة الصريحة، فكان لا يرى رؤيا إلا وتقع مثل ما يرى، ثم حُبِّبَ إليه الخلا، فكان يتعبد في غار «حراء»، وكان يمكث فيه ليالي مختلفة إلى أن جاءه الوحي، وقال له: اقرأ، فقال: ما أنا بقارئ، ثلاث مرات، ثم قال له: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ الآية فكانت هذه أول آية نزلت من القرآن، وبعد ذلك فتر الوحي، ثم تتابع، فقام يدعو الناس سرًّا، فأول من أسلم من الرجال أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ومن النساء خديجة الكبرى، ومن الصبيان علي بن أبي طالب، ومن الموالي زيد بن حارثة. ومكث يدعو إلى دين الله سرًّا مدة ثلاث سنين، ثم أمر بإظهار دعوته، ولما اشتد أذى المشركين لأصحابه أذن لهم بالهجرة إلى بلاد الحبشة، وهذه هي الهجرة الأولى، فأرسلت قريش في طلبهم عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بهدايا للنجاشي ملك الحبش، فخاب سعيهم جميعًا، فتعاهدت قريش على بني هاشم والمطلب أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم وإلى غير ذلك، وأُسريَ بالنبي عليه السلام في السنة الثالثة عشرة من النبوة من مكة إلى بيت المقدس ومنه إلى السماء، وفرضت عليه الصلاة، وفي هذه السنة كانت الهجرة الثانية.
(٢-٢) الهجرة
وفي سنة ٦٢٢م تكاثر دخول أهل يثرب في دين الإسلام، فلما علمت كفار قريش بذلك أجمعوا على قتله ﷺ وتفريق دمه في القبائل، بأن يأخذ رجل من كل قبيلة سيفًا ويضربوه مرة واحدة فيتفرق دمه ولا يمكن الأخذ بثأره حينئذ، فأُذن له بالهجرة عليه الصلاة والسلام من مكة دار ولادته إلى المدينة دار وفاته، فخرج ليلًا مع أبي بكر الصديق، بينما كان علي بن أبي طالب يبذل نفسه في صرف المهاجمين عنه ﷺ، وكان النبي والصديق قد سلكا معًا طريقًا مغايرًا لطريق يثرب، فمكثا جملة أيام في غار بجبل ثور الكائن على بعد ثلاثة أميال من مكة من جهة الجنوب، وأدركا بفطانتهما أن الأعداد تبعت أثرهما، فسارا حتى وصلا إلى ساحل البحر الأحمر وبعد أن نجاهما الله من أعدائهما وصلا بعد ذلك بستة أيام إلى أرض يثرب، فنزلا قباء التي بنى فيها أول مسجد للإسلام، ولم يزل ذلك المسجد باقيًا إلى الآن، وقد صارت الهجرة من مكة إلى يثرب مبدأ تاريخ السنين والحوادث عند الإسلام بناء عن أوامر سيدنا عمر بن الخطاب ثاني الخلفاء الراشدين، وكانت في يوم الاثنين ٨ ربيع الأول/٢٠ من شهر سبتمبر سنة ٦٢٢م (نتائج الأفهام في تقويم العرب قبل الإسلام)، فأقام النبي عليه أفضل الصلاة وأتم السلام في قباء حتى لحقه علي بن أبي طالب، ثم دخل يثرب بمحفل عظيم، وقبل فيها ضيافة أبي أيوب، واشترى قطعة أرض وبنى فيها مسجدًا، وسميت يثرب بالمدينة المنورة، واختلطت القبيلتان الأوس والخزرج اللتان تجمعتا تحت لواء الإسلام بعد التشاحن والتباغض، وسميتا بالأنصار — أي المساعدين للنبي ﷺ على أعدائه — وسمي المسلمون من أهل مكة بالمهاجرين، وفي السنة الثانية من الهجرة حُولت القبلة إلى الكعبة بعد بيت المقدس، وفُرض صوم رمضان وتزوج علي فاطمة الزهراء.
(٢-٣) ابتداء الحروب بين النبي ﷺ وكفار قريش ووصف واقعة بدر سنة ٦٢٤م الموافقة ٣ هجرية
قد مضت تلك المدة على النبي ﷺ في مقاساة تلك المحن السابقة، ثم أذن له بالحرب لإحياء الأحكام الدينية التي يدعوهم إليها، وبالجملة فكانت نصرته في غزواته هي البرهان الأكبر على إمداده بنصر الله وحمايته إياه، فلما عزم على فتح مكة تعاهد مع أصحابه على أن يكونوا معه في جهاد أعدائه للانتقام منهم لمخالفتهم ومبارزتهم له بالإساءات التي أساءوه بها مدة إقامته في مكة، وإخراجهم إياه منها. فلما نهب عبد الله بن جحش قافلة في شهر رجب لأحزاب النبي ﷺ جهز غزوة لمحاربته، ثم لما بلغه أن قافلة قريشية راجعة من الشام، وكان قائد هذه القافلة أبا سفيان بن حرب، فلما أُخبر بسير المسلمين لنهب القافلة أرسل إلى أهل مكة أن يغيثوه بإمداد، فتوجه ألف مقاتل من قريش قائدهم أبو جهل إلى وادي بدر، وكان أهل الإسلام قد سبقوهم إليه، فبعث أبو سفيان إلى أبي جهل سفيرًا يخبره بأن القافلة نجت، فلم يرجع إلى مكة، وظن أنه قد تحققت النصرة لقريش على الإسلام، فقامت الحروب بين الفريقين، وقُتل أبو جهل في تلك الواقعة، وعاد منها على النبي أعظم النصر والفخار ﷺ.
(٢-٤) وصف واقعة أحد وحرب الخندق ٦٢٦-٦٢٧م الموافقة ٥-٦ﻫ
ولما اجتمع تحت قيادة أبي سفيان ثلاثة آلاف من المشركين، وساروا من مكة حتى وصلوا إلى المدينة، وخرج النبي ﷺ لقتالهم في ألف، فانخذل عنه المنافقون وبقي معه سبعمائة، ونزل الشعب من أحد، وجعل ظهره إلى أحد، ثم تقارب الجيشان، فانهزم المشركون، فطمعت الرماة في الغنيمة، فرجع المشركون إليهم، وأشاعوا بأن محمدًا قُتل، وانكشف المسلمون فقُتل منهم سبعون، ومن المشركين اثنان وعشرون، وأصيبت رباعية الرسول، وشج وجهه، وجرحت شفته، ثم صعد أبو سفيان الجبل وقال: الحرب سجال، يوم بيوم بدر. ثم قال: موعدكم العام المقبل، فأمر النبي أن يقال له: هو بيننا وبينك. وفي هذه الواقعة جرح عليُّ بن أبي طالب الذي أشهر نفسه في ابتداء القتال بعجيب الفروسية وغريب البسالة وأبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله على الجميع، وقُتل عم النبي حمزة رضوان الله عليه، ولما بلغ الرسول ﷺ تحزُّب قبائل العرب عليه أمر أصحابه بحفر الخندق حول المدينة المنورة، فلما أراد الأعداء ومعاهدوهم أن يهجموا على المدينة عجزت عزائمهم عن الوصول إليها، وفي ذلك الوقت اتضح انفساخ المعاهدة اليهودية التي كان انضم إليها بنو قريظة، وذلك أن المسلمين ألقوا الشقاق بين رؤساء تلك المعاهدة، ورُفع الحصار عن المدينة المنورة بعد مناوشات أظهر فيها عليُّ بن أبي طالب عزائمه وبأسه وانتصاره، فبذل الرسول ﷺ بعد رفع الحصار الجهد في محاربتهم حتى أذلهم واحدة بعد الواحدة، فحارب أولًا بني قينقاع فقتل منهم علي — على قول مؤرخي العرب — سبعمائة رجل، ثم غزا قبيلة قريظة ثم قبيلة لحيان ثم قبيلة المصطلق بينما كانت بعوثه ينتقمون من القبائل الأخر المعادية لهم.
(٢-٥) سير الرسول إلى الحديبية وحرب خيبر
وفي سنة ٦٢٨م أي سنة ٧ﻫ خرج الرسول معتمرًا في ألف وأربعمائة من المهاجرين والأنصار لا يريد حربًا، وساق حتى نزل الحديبية أسفل مكة، فبعثت قريش إليه عمر بن مسعود الثقفي رئيس الطائف يقول: إن قريشًا لبست جلود النمور وعاهدوا الله أن لا تدخل عليهم مكة عنوة أبدًا، فرأى من احترام الصحابة للرسول ما لم يرَ مثله لملك من الملوك، فرجع إلى قريش، وقال لهم: «إني أتيت كسرى وقيصر في ملكهما، فوالله ما رأيت ملكًا في قومه مثل محمد في أصحابه.» ثم بعث الرسول إليهم «عثمان بن عفان» يعلمهم أنه لم يأتِ للحرب وإنما جاء معتمرًا، فذهب وأخبرهم بذلك فمنعوه من الرجوع إلى النبي، وأشيع في الصحابة أن عثمان قُتل، فقال النبي ﷺ: «لا نبرح حتى نناجز القوم.» ودعا إلى بيعة الرضوان تحت الشجرة، فبايعهم على أن لا يفروا ولا يتخلفوا عنه، وبايع لعثمان بإحدى يديه على الأخرى، وقال هذه بيعة عثمان، فبينما هم كذلك؛ إذ بعثت قريش إلى الرسول سهيل بن عمرو في الصلح فأجاب، وكتبوا بذلك كتابًا فيه وضع الحرب على الناس عشر سنين وغير ذلك. ثم نحر الرسول هديه وحلق رأسه، وكذا المسلمون، ورجع المدينة.
وفي سنة ٧ﻫ تزوج النبي أم حبيبة وميمونة وصفية بنت يحيى بن أخطب، وقدم مهاجرو الحبشة، وسار الرسول والصحابة إلى قتال يهود خيبر؛ حيث كانوا ساكنين في موضع على بعد قدره خمسة فراسخ من المدينة المنورة، وكانوا يستجلبون لأنفسهم معظم متاجر الحجاز ونجد، وأبدى عليُّ بن أبي طالب في هذه الواقعة من الشهامة ما أزال به جميع العوائق وتحصن أهل خيبر في القلاع الحصينة التي كانت خزائن أموالهم مدخرة فيها، فأعدم بذلك الحرب إلى الأبد شوكة اليهود السياسية، ثم سار النبي إلى وادي القرى وحاصرها وفتحها عنوة، وبعد ذلك جاء كثير من قبائل نجد إلى النبي ﷺ، فحيوه بسيد سادات جزيرة العرب، وأذعنوا له بالحكم المطلق عليهم، وسألوه أن يصحبوه في الحروب التي سيخرج إليها، وفي هذه السنة تتابعت رسله ﷺ إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام، فأرسل إلى كسرى أبرويز ملك الفرس، فمزق كتابه، ولما بلغه ﷺ أن المذكور فعل هذا الفعل قال: «وكذلك سيمزق الله ملكه.» وأما الملك هرقل فبعث بجواب تلطف فيه، وكذلك المقوقس عامل مصر من طرف هرقل، والنجاشي ملك الحبش، فبعثوا إليه هدايا، ودخل بازان عامل اليمن من قبل الفرس في دين الإسلام، وأما الحارث ملك غسان وهوذة ملك القبيلة النصرانية من بني حنيفة سكان اليمامة فأبيا الإجابة لما دعيا إليه.
(٢-٦) حرب مؤتة سنة ٨ﻫ، وفتح مكة سنة ٦٣٠م وسنة ٩ﻫ، وحرب حنين وحصار مدينة الطائف
ولما قَتل شرحبيل أحد ملوك غسان التابع إلى الملك هرقل (إمبراطور القسطنطينية) سفيرًا من سفراء النبي ﷺ كان قد نزل بمدينة بصرى أثار حربًا سافكة للدماء ما بين العرب والروم، فسار من المسلمين ثلاثة آلاف مجاهد تحت قيادة زيد رضي الله تعالى عنه، ودهموا الجيش الرومي والجيش العراقي بقرب مؤتة في جنوب دمشق بأرض البلقاء، فاستشهد زيد بن حارثة قائد المسلمين، وخلفه جعفر بن أبي طالب فقطع الأعداء يديه، فمسك الراية بذراعيه، واستشهد في هذه الواقعة وبه نحو خمسين جرحًا كلها في الجهة الموجهة للأعداء، فأخلفه عبد الله بن رواحة واستشهد كذلك، ثم خلفه خالد بن الوليد وانتصر على الأعداء وردهم القهقرى، ورجع إلى المدينة المنورة حائزًا أشرف النصر في تلك الواقعة.
وكان قد بقي على النبي ﷺ أن يفتح مكة حتى يتم له النصر؛ إذ كانت مركزًا لعبادة الأصنام وتخت مدن بلاد العرب؛ لكي يؤسس فيها ما جاء به من الدين تأسيسًا متينًا بدلًا عما كانت عليه العرب من العبادة الجاهلية، فلاحت له الفرصة في فتحها؛ وهي أن كفار مكة نقضوا العهد فقام الرسول عليه الصلاة والسلام وجميع القبائل البدوية الحديثة الدخول في الإسلام، ثم سار مع عشرة آلاف مقاتل لقتال أهل مكة، فلما رأوه بهذه الحالة وقع الرعب في قلوبهم ولم يقاوموه أدنى مقاومة، وسلم العباس وأبو سفيان له من غير قتال سنة ٦٣٠م سنة ٩ﻫ، فسار النبي عقب ذلك إلى الكعبة وكسر جميع الأصنام قائلًا: «جاء الحق وزهق الباطل.» وفي هذه السنة بعث خالد بن الوليد إلى بني خزيمة، وفيها غزوة حنين، وبينه وبين مكة ثلاث ليالٍ تجمعت هوزان وثقيف وبنو سعد بن بكر لحرب الرسول، ولما بلغه خرج إليهم من مكة مع اثني عشر ألف، فانهزم المسلمون أولًا؛ إذ أعجبتهم كثرتهم كما أخبر الله، ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودًا لم يروها فانهزم المشركون، وأُلجئت ثقيف إلى الطائف.
وأما عرب ثقيف المتعاهدون مع هوزان فإنهم وإن كانوا مصرين بعنادهم على عبادة إلههم اللات فقد قاوموا المسلمين المحاصرين مدينة الطائف عشرين يومًا، ولما رأى النبي ﷺ ذلك منهم أمر برفع الحصار عنهم مؤملًا أن مقتضيات الزمن المستقبل تئول إلى الدخول في دين الإسلام، فرجع عن تلك المدينة إلى مكة وزار الكعبة ثم رجع إلى المدينة المنورة.
فصار فتح مكة وإسلام كفار قريش وهزم قبائل هوزان وهدم الهياكل التي كانت معدة لعبادة الأصنام سببًا في زوال عبادة العرب الجاهلية.
(٢-٧) الكلام على غزوة تبوك وسنة السفارات للملوك
ولما أشيع أن الروم والعرب النصارى يجمعون جيوشهم في حدود بر الشام خطب النبي خطبة حث فيها المؤمنين على الجهاد، وأمدَّه الأغنياء بأموالهم، فجهز عشرة آلاف فارس وعشرين ألف رجل واثني عشر ألف جمل، وسار بذلك الجيش حتى وصل إلى تبوك الكائنة في منتصف الطريق بين المدينة ودمشق الشام، ثم أمر بالرجوع واكتفى بانقياد أربع مدن وهي جرباء وأذرح وأيلة ودومة الجندل.
وأما باقي السنة أي سنة ٦٢٠م الموافقة سنة ١٠ﻫ، وهي المعروفة في تواريخ الإسلام بسنة السفارات للملوك، فقد اشتهرت بدخول خلق كثير من الأجلَّة في الدين المحمدي، وكذلك سكان مدينة الطائف وقبائل ثقيف ومشايخ اليمن الحميرية ومشايخ إقليم مهرة وملوك حضرموت وعمان وجزائر البحرين واليمامة، قد بعثوا إلى النبي ﷺ رسلًا ليبايعوه على الإسلام، وباقي القبائل أطاعهم خالد بن الوليد بعضهم بالحرب وبعضهم طوعًا. وبُعث عليُّ بن أبي طالب إلى اليمن ومعه معاذ بن جبل، فأسلمت همذان في يوم واحد.
وفيها حجة الوداع، فخرج النبي حاجًّا في ذي القعدة، وعلم الناس مناسك الحج والسنن، وأنزل عليه: اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا. وفي سنة ١١ﻫ في سنة ٦٢٢م توفي النبي ﷺ، وكفن في ثلاثة أبواب أدرجًا، وصلوا عليه ودفن في الموضع الذي قبضت روحه فيه.
وعلى حسب أبحاثات سعادة محمود باشا حمدي، وجد أنه ﷺ لاقى ربه إما يوم الأحد ١١ ربيع الأول الموافق ٧ يونيو، وإما الاثنين ١٢ ربيع الأول الموافق ٨ يونيو سنة ٦٣٢م، وعمره ٦١ سنة شمسية و٨٤ يومًا أو ٦٣ سنة قمرية وثلاثة أيام.
(٣) الخلفاء الراشدون
(٣-١) خلافة أبي بكر الصديق
ويلقب بخليفة رسول الله، ولما قبض الله نبيه ﷺ قال عمر: «من قال إن رسول الله ﷺ مات علوت رأسه بسيفي هذا، وإنما ارتفع إلى السماء»، فقرأ أبو بكر: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ الآية، فرجع القوم إلى قوله، ومات ﷺ ولم يعين خليفة له، ومن ثم كثرت المطامع التي أراقت الدماء في القرن الأول من الهجرة، ومع ذلك فلما علم أصحابه ﷺ أن أمراء الأنصار يتهيئون لانتخاب سعد بن عبادة الخزرجي خليفة بادروا بانتخاب أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه؛ لأن النبي ﷺ كان كلفه بأن يصلي بالناس بدلًا عنه، فبايعه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فاقتدى به الصحابة في المبايعة، ولم يمتنع من مبايعته إلا أناس قليلون بايعوه بعد قليل، وأنفذ جيش أسامة بن زيد الذي كان رسمه رسول الله ﷺ قبل وفاته، فصار يحثهم على الجهاد ويشجعهم وهو ماش وأسامة راكب، ثم رجع، واستمر أسامة في الجهاد، وأطاع القبائل المترددة، وشن الغارة على أهل أُبْنَى وقتل رجالهم وسبى نساءهم ورجع إلى المدينة، وكان عمر أسامة وقتئذ سبع عشرة سنة، وفي مدة خلافته امتنعت قبيلة بني يربوع عن أداء الزكاة فأرسل إليهم خالد بن الوليد لمحاربتهم، فحاربهم حتى رجعوا. وفي أيامه فتحت الحيرة بعد وقعة عظيمة بين أهلها والمجاهدين من الإسلام، وادعت النبوة سجاح بنت الحارث بن سويد التميمية، واتبعها بنو تميم وأخوالها من تغلب وغيرهم من بني ربيعة، وقصدت مسيلمة الكذاب، ولما وصلت إليه اجتمعت به مدة ثلاثة أيام، وآل أمرها إلى أن أسلمت في زمن معاوية، وماتت بالبصرة. وأما مسيلمة الكذاب المدَّعي النبوة فأرسل إليه خالد بن الوليد فقاتله باليمامة وقتله. وأما «الأسود العنسي» المدعي النبوة فقُتل في حياة الرسول، وفي أيام أبي بكر الصديق جُمع القرآن في مصحف واحد وحُفظ في دار السيدة حفصة زوجة النبي ﷺ، وكان قبل جمعه في المصاحف في صدور الناس، وفي أيامه فُتحت مدينة بصرة ودخل محافظها المدعو رومانوس في دين الإسلام؛ حيث إنه هو السبب في استيلاء العرب على هذه المدينة تحت قيادة خالد. ولما فتح المسلمون مدينة بصرة قصدوا عقب ذلك دمشق فحاصروها، فأرسل هرقل إليها جيشًا تحت قيادة وردان أوباهان، فلما علم المسلمون بذلك كفوا عن الحصار وساروا لقتال الروم، فقُتل عدد عظيم من جيوش الروم، فولوا الأدبار، وهذه هي المعروفة بوقعة أجنادين، وذلك سنة ٦٣٣م الموافقة لسنة ١٢ﻫ. ثم عادوا لحصار مدينة دمشق، وحصلت جملة مناوشات بين العرب والروم الذين كانوا قد تجمعوا تحت رياسة توما صهر الإمبراطور هرقل، فكانت النصرة فيها للإسلام، وأخيرًا فتحها أبو عبيدة عامر بن الجراح صلحًا. وفي سنة ١٣م مات خليفة رسول الله رضي الله عنه وعمره ٦٣ سنة، ودفن بجوار الرسول ﷺ.
(٣-٢) خلافة عمر بن الخطاب ٦٣٤–٦٤٤م
بويع بالخلافة بعد وفاة أبي بكر الصديق بوصية منه، وهو أول من تلقب بأمير المؤمنين، وبينما كان خالد مقيمًا في دمشق؛ إذ بلغه الخبر بوفاة أبي بكر وجلوس عمر رضي الله عنه، وهو العدو الأكبر له، وبلغه أيضًا عزله من منصب قيادة الجنود فامتثل للعزل ولم يظهر غضبًا ولا ضجرًا، واستمر يحارب تحت أوامر أبي عبيدة عامر بن الجراح، وفُتحت حمص وحماة. وتوجهوا بأمر أمير المؤمنين عمر لفتح أنطاكية فصاروا محازين لشاطئ نهر العاص، وبينما هم مشتغلون بفتحها؛ إذ بلغهم خبر التجريدات الحربية التي جهزها لهم «هرقل»، وأن هذه التجريدات انقسمت إلى فرقتين؛ إحداهما سافرت إلى أنطاكية لتوقف سير العدو إليها، والأخرى آتية من إقليم فلسطين؛ لتحمل على المسلمين من خلفهم، وذلك سنة ٦٣٥ من الميلاد الموافقة لسنة ١٤ هجرية، فرجعوا إلى ناحية نهر الأردن ليمنعوا الجيش المقبل من فلسطين من أن يمر إلى جهة أنطاكية، وكان «قسطنطين بن هرقل» يقوده بنفسه، فذهب إلى مدينة قيصرية واكتفى بتفريق كتائبه على المدن البحرية من غزة إلى طرابلس الشام، وكان أبو عبيدة وخالد بعساكر الإسلام على شواطئ نهر اليرموك (نهير منبعه من جبل هرمون ويصب في بحيرة طبرية)، وكان الجيش الرومي يقدمه عرب غسان تحت قيادة رئيسهم جبلة بن الأيهم، فانتصر المسلمون على هؤلاء الأقوام وسميت هذه الواقعة بواقعة اليرموك، وفي هذه السنة أمر الخليفة ببناء البصرة، وبعد ذلك سلم أبو عبيدة قيادة الجيوش إلى خالد، فاستمرت الحروب بين الجمعين أيامًا، وغلبت الروم فيها المسلمين ثلاث مرات، ثم آل الأمر بنصر المسلمين على جيش المشركين. وكان ثمر هذه النصرة انقياد أهل غسان ودخولهم في دين الإسلام، أما رئيسهم جبلة بن الأيهم ففر هاربًا إلى القسطنطينية، ولم تزل ذريته فيها إلى أن هربوا منها في القرن الخامس عشر بعد الميلاد العيسوي إلى جبال بلاد الجركس فرارًا من حكم الملوك العثمانيين.
وفي سنة ١٥ من الهجرة حاصر عمرو بن العاص مدينة القدس «المسماة قديمًا إيليا» التي كان البطرق سوفرونيوس يحامي عنها بغاية عزمه وجهده، وكان فتح هذه المدينة من أعظم الأهميات عند الإسلام، فقدم أبو عبيدة وأحدق بها بجيوشه وشدد عليها في الحصار حتى أشرف أهلها على الهلاك، فارتضى «سوفرونيوس» أن يسلمها للمسلمين بشرط أن يعقد المشارطة مع الخليفة نفسه، فأجابه عمر بن الخطاب لما طلبه، واستخلف عليًّا على المدينة، ولم يمنعه عن السفر تخويف سيدنا عثمان ومنعه إياه، فسار إلى مدينة القدس وبايعهم على أن يبقوا على دينهم، وأن لا يتعدى مسلم على كنيسة من كنائسهم، ولم يلزمهم إلا بدفع الجزية، وقد بحث عن موضع الهيكل الذي بناه نبي الله سليمان عليه السلام وهو المسجد الأقصى وبنى محله مسجدًا عظيمًا سُمي بمسجد عمر، ولما فرغ من بنائه عاد إلى المدينة المنورة ومعه عمرو بن العاص، وكان أعده لفتح وادي مصر، وذلك سنة ٦٣٧م؛ أعني سنة ١٦ﻫ.
ولما بلغ سيدنا عمر فتح مدينة الرملة فرح بنصر الله ورضي عن خالد، وأعاد إليه الإمارة على المجاهدين، فسار إلى حلب وأنطاكية وفتحهما وطرابلس ويافا وجملة بلاد من الشام، فلما أيس هرقل من الشام رحل إلى مدينة القسطنطينية، وفي هذه السنة وضع عمر الدواوين وفرض العطاء للمسلمين، وقد حصلت وقعة بين المسلمين والفرس الذين كانوا تحت قيادة رستم وقائد المسلمين سعد بن أبي وقاص انتهت بهزيمة العجم وقتل رستم المذكور، وذلك سنة ١٥ﻫ.
وفي سنة ١٦ﻫ عبر سعد ومن معه نهر الدجلة، وهرب الفرس من المدائن، وكان كسرى يزدجرد قد قدم عياله إلى حلوان (من أعمال فارس) وخرج هو ومن معه بما قدروا عليه، فدخل المسلمون المدائن وقتلوا كل من وجدوه، ونزل سعد بالقصر الأبيض، واتخذ إيوان كسرى مُصلى، واحتاط على أموال تخرج عن الإحصاء وأدركوا بغلًا وقع في الماء عليه تاج كسرى ودرعه وغير ذلك مكللًا بالجواهر، واستوهب سعد ما يخص أصحابه من بساط كسرى؛ حيث كان على هيئة روضة فيها الزهور بالجواهر على قضبان الذهب، وبعث به إلى عمر فقسمه بين المسلمين، وأقام سعد بالمدائن «بالقرب من كتيسيفون القديمة»، وحصلت بينه وبين الأعجام وقعة فقتل عدد عظيم من الفرس، وفر يزدجرد من حلوان فقصدها المسلمون، ثم فتحوا تكريت وقرقيسيا، وفيها قدم جبلة بن الأيهم على عمر وحج معه، ثم هرب إلى القسطنطينية وتنصر بعد إسلامه. وفي سنة ١٧ﻫ اختطت الكوفة وتحول سعد إليها، وفي سنة ١٨ﻫ كان طاعون عمواس الذي مات فيه أبو عبيدة رضي الله تعالى عنه، وأما خالد فإنه نجا من هذا الطاعون؛ لكونه غضب عليه أمير المؤمنين عمر وعزله ثانيًا لما أوشي في حقه، واستخلف أبو عبيدة معاذ بن جبل فمات بالطاعون فاستخلف عمرو بن العاص، ثم بعد ذلك أمر الخليفة عمرو بن العاص بفتح مصر، فتوجه إليها هو والزبير بن العوام وفتحوها «كما سيأتي»، وكان استخلف يزيد بن أبي سفيان ثم معاوية فمكث واليًا وخليفة مدة أربعين سنة، وفي سنة ٢١ﻫ وقعت نهاوند مع الأعجام تمت بهزيمتهم، وفتح المسلمون مدينة أصفهان وهمذان وطبرستان وأزربيجان، وتوفي خالد بن الوليد في هذه السنة ودفن، قيل بحمص وقيل بالمدينة. وفي آخر سنة ٢٣ﻫ توفي عمر بن الخطاب بطعنة ابن أبي لؤلؤة عبد المغيرة بن شعبة، وعمره ٦٣ سنة، ودفن بجوار النبي ﷺ.
(٣-٣) خلافة عثمان بن عفان ٦٤٤–٦٥٥م
وفي سنة ٢٤ﻫ الموافقة لسنة ٦٤٤م عقب موت عمر اجتمع أهل الشورى وهم علي وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم، وشرط عمر أن يكون ابنه عبد الله شريكًا في الرأي ولا يكون له حظ في الخلافة، وجعل المدة ثلاثة أيام، وقال: «لا يمضِ اليوم الرابع إلا ولكم أمير، وإن اختلفتم فكونوا مع فريق عبد الرحمن بن عوف»، فوقع الانتخاب على سيدنا عثمان رضي الله عنه، فبويع بالخلافة، ولما تولى الخلافة عزل المغيرة عن الكوفة وولى سعد بن أبي وقاص، ثم عزله وولى مكانه عبد الله بن أبي سرح، وفي مدته امتدت فتوحات العرب إلى بلاد المغرب وصحراء ليبيا وسواحل بلاد الروم وجزيرة قبرص، وفي سنة ٣٠ من الهجرة بلغ الخليفة اختلاف أهل الشام والعراق في القرآن، فأمر الخليفة الصحابة بنسخ جملة مصاحف من المصحف الذي كُتب زمن أبي بكر وأُودع عند حفصة رضي الله عنها، وتولى نسخها زيد بن ثابت وعبد الله الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث، وقال عثمان: «إذا اختلفتم في كلمة فاكتبوها بلسان قريش؛ لأن القرآن نزل بلسانهم.» وفي هذه السنة سقط خاتم الرسول من يد عثمان في بئر «أريس»، وفي سنة ٣١ هلك كسرى يزدجرد آخر ملوك العجم، قيل قتله أهل مرو — من أعمال فارس، وقيل قتله الترك وقتلوا أصحابه، وفيها عصت خراسان ففتحها ثانيًا، ومات أبو سفيان بن حرب.
إذا جاءك محمد بن أبي بكر ومن معه بأنك معزول فلا تقبل واحتلْ لقتلهم وأبطل كتابهم.
فرجع محمد ومن معه وجمعوا الصحابة بالمدينة، وقرءوه عليهم، وسألوا عثمان عنه فاعترف بالختم وخط كاتبه، وحلف بالله أنه لم يأمر بذلك، فطلبوا منه مروان ليسلموه إليهم بسبب ذلك، فامتنع فجدوا في قتاله، فأقام عليٌّ ابنه الحسن يذب عنه، وأقام الزبير ابنه عبد الله، وطلحة ابنه محمدًا، بحيث جُرح الحسن وانصبغ بالدم، ثم تسوروا على عثمان من دارٍ بجانب داره، ونزل عليه جماعة منهم محمد بن أبي بكر فقتلوه صائمًا يتلو في المصحف، وذلك في شهر ذي الحجة سنة ٣٥ هجرية.
(٣-٤) خلافة علي بن أبي طالب ٦٥٥–٦٦٦م
بويع بالخلافة بعد قتل سيدنا عثمان فامتنع في مبدأ أمره عن الخلافة؛ حيث قال: «لا حاجة لي في أمركم، من اخترتم رضيت به، وأكون وزيرًا خيرٌ من أن أكون أميرًا.» فأبوا إلا مبايعته، فأتى المسجد فبايعوه، وقيل بويع في بيته، ولم يمتنع من المبايعة إلا أناس قليلون، وبعد أن بايعه طلحة والزبير سافرا إلى مكة ولحقا بعائشة هناك، وفي سنة ٣٦ أرسل عليٌّ عماله إلى البلاد، فمنهم من رجع إليه من الطريق، ومنهم من وصل وعزلته فرقته، فخرج طلحة والزبير وعائشة أرملة النبي ﷺ وعبد الله بن عامر وجماعة من بني أمية يطلبون دم عثمان؛ لأنه اتُّهم بقتله، وصاروا في جمٍّ عظيم لفتح البصرة، واكتفوا بمعاوية في أمر الشام، وأرادت عائشة الرجوع فلم يسمحوا لها، وأخيرًا استولوا على البصرة. ولما بلغ ذلك الإمام عليًّا خرج إليهم في أربعة آلاف مقاتل، وانضم إليهم جم غفير من الكوفة، والتقوا بمكان يُسمى الخريبة، فرجع الزبير إلى المدينة، فقُتل في الطريق، وتزاحف الفريقان واقتتلا وعائشة على الجمل، فتمت الهزيمة على من معها وقُتل طلحة في هذه الواقعة المسماة واقعة الجمل، وأمر الإمام عليٌّ عائشة بالرجوع إلى المدينة، وجهز لها ما احتاجت إليه، ورجعت إلى المدينة وبصحبتها الحسن والحسين، وبعد وصولها إلى المدينة رجعا إلى أبيهما، واستعمل على البصرة عبد الله بن عباس، وسار إلى الكوفة، وتم له الأمر بالعراق ومصر واليمن والحرمين وفارس وخراسان، ثم أرسل إلى معاوية ليُعطي بيعته فماطله، وكان النعمان بن بشير سار إليه بثوب عثمان ملطخًا بالدم إلى الشام، فكان معاوية يعلقه على المنبر تحريضًا على قتال عليٍّ كرم الله وجهه، ثم اتفق مع عمرو بن العاص على حربه، فلما بلغ عليٌّ ذلك خرج من الكوفة، وخرج لذلك معاوية وعمرو من الشام، والتقى الفريقان في محل يُدعى «صفين»؛ ولذلك سميت تلك الواقعة بهذا الاسم، وذلك سنة ٣٧ هجرية، وقُتل من الطرفين خلق كثير، وحصلت بينهم أكثر من تسعين واقعة، ثم قال عليٌّ كرم الله وجهه: «يا معاوية، ابرز إليَّ، فأينا قتل صاحبه تم له الأمر، فعلام نقتل المسلمين؟!» فلم يرضَ معاوية بذلك، واستمر القتال مدة من الزمن، وبعد ذلك رفع أهل الشام المصاحف في وجوه فريق سيدنا علي، وكانت حيلة وخديعة من عمرو بن العاص، وانتهى الأمر أخيرًا إلى الحكم بينهما، فوكل سيدنا علي أبا موسى الأشعري، ووكل معاوية عمرو بن العاص، واتفق الحكمان على خلع معاوية وعليٍّ، ويجعل الأمر شورى بين المسلمين، واجتمع الشعب «بدومة الجندل» فتكلم أبو موسى الأشعري وقال: «إني خلعت خليفتي كما أخلع سيفي هذا من غمده.»
ثم مكر عمرو وقال: «إني أثبت خليفتي كما أثبت سيفي هذا في غمده.» فسلمت على معاوية أهل الشام بالخلافة، ورجع الإمام عليٌّ إلى الكوفة، ودعا الناس إلى اتحاد الكلمة وهم يخادعونه مدة مديدة من الزمن حتى دخلت سنة ٤٠ هجرية، فاجتمع ثلاثة من الخوارج وهم «عبد الرحمن بن ملجم، وعمرو بن بكير التميمي، والبرك بن عبد الله التميمي وقيل اسمه الحجاج» وقالوا: «لو قتلنا أئمة الضلالة أرحنا منهم العباد.» فقال ابن ملجم: «أنا أكفيكم عليًّا.» وقال البرك: «أنا أكفيكم معاوية.» وقال عمرو بن بكير: «أنا أكفيكم عمرو بن العاص.» وتواعدوا على ليلة ١٧ رمضان سنة ٤٠ﻫ، واتفق مع ابن ملجم وردان من تيم الرباب وشبيب، ووثبوا على عليٍّ وقد خرج إلى الصلاة، فضربه شبيب فوقع سيفه فهرب شبيب ونجا، وضربه ابن ملجم في جبهته، وهرب وردان، وقُبض على ابن ملجم وأُحضر مكتوفًا بين يدي عليٍّ رضي الله عنه، وأحضر الحسن والحسين، وقال: «أوصيكما بتقوى الله ولا تبغيا الدنيا ولا تبكيا على شيء زوي عنكما منها.» ثم قبض، وأما البرك فجرح صاحبه جرحًا بليغًا، وأما عمرو فقتل نائب صاحبه في الصلاة تلك الليلة، ودُفن عليٌّ بالكوفة وكان عمره ٦٣ سنة.
(٣-٥) فتح مصر بالإسلام ٦٣٨–٦٤١م
وبظهور الإسلام تضعضعت دولة الروم الشرقية، وأخذت في الانحطاط شيئًا فشيئًا. ففي خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاء إلى مصر عمرو بن العاص، وكان العامل عليها من طرف هرقل هو المقوقس، وكان عمرو شاعرًا شجاعًا قد اشتهر في وقائع الإسلام الأولية، وبذل عزمه وحزمه أيضًا في فتح الشام مع الأمراء الأخر، وكان غاية منيته أن يكلفه أمير المؤمنين عمر بفتح مصر، فبمجرد ما وعده أمير المؤمنين بأن يرسله لفتح مصر سافر من غزة ومعه أربعة آلاف مقاتل، وسار حتى وصل إلى مدينة «بيلوزه»، ولما ظهر عمرو بجنوده في أرض مصر وقعت الحرب بين العرب والروم في مدخل برزخ السويس، فانهزم الرومانيون والتجئوا إلى المدن الحصينة، ولما لم يجد عمرو من يقاومه مرَّ برجاله من صحراء برزخ السويس وجعل معسكره أمام مدينة «بيلوزه»، وكانت هذه المدينة مفتاح الوجه البحري، وحاصرها فلم تصبر على الحصار إلا شهرًا واحدًا، فاستولى عليها في أسرع وقت، وذلك سنة ٦٣٩؛ أعني ١٨ﻫ، وساروا بعد ذلك حتى وصلوا إلى مدينة منف التي كانت قاعدة الحكم، وبادروا بحصارها فانجبرت أهلها لعقد المبايعة مع عمرو بن العاص، وأمر كل من بأرض مصر من الأقباط أن يعترفوا بحكم المسلمين، وأن يدفعوا عن كل نفس دينارين في السنة، فتحصل من تلك الجزية في السنة الأولى اثني عشر مليونًا، وأنه لا مانع من أن يبقوا على دينهم، ولما فرغ عمرو والمقوقس من المبايعة وامتثال الأقباط لها دخل مدينة منف واتخذها تخت حكومته، وذلك سنة ٦٤١م؛ أعني سنة ٤٠ﻫ.
فتح مدينة الإسكندرية سنة ٦٤٠م
وبعد ذلك بادر عمرو بن العاص بالعود إلى المحاربة مع الروم فسار برجاله من منف إلى الوجه البحري، وهزم الروم في واقعة كوم الشريك؛ حيث كانوا قد تجمعوا بعد الشتات، واقتفى أثرهم حتى دخلوا مدينة الإسكندرية فحاصرها مدة أربعة أشهر، وكان عمرو قد أخذ أسيرًا ولم يطلق سبيله إلا بحيلة من عبده وردان، فكانت النصرة للإسلام على الروم بما عندهم من الحمية الدينية، فهجموا على تلك المدينة هجمة الآساد على الأغنام، فامتلكوها في ٢١ ديسمبر سنة ٦٤١م؛ أعني سنة ٢١ﻫ.
ووكل الأقباط بتحصيل الأموال؛ حيث رآهم أعرف من المسلمين بإدارة الفروع المتنوعة من أمور التدبير؛ لأنهم يعرفون درجات الناس ولغتهم، فتحصلت من ذلك أموال جسيمة صرف معظمها أمير المؤمنين عمر في أشغال نافعة لبلاد مصر، منها تجديد خليج السويس الذي كان يوصل النيل بالبحر الأحمر، وكان عمرو يريد أن يحفر برزخ السويس؛ ليصل البحر الأحمر بالأبيض إلا أن عمر أبى من ذلك؛ خوفًا من فتح طريق للروم إلى مكة والمدينة. وقد بنى عمرو جامعه المشهور باسمه لغاية الآن، واختط مدينة مصر القديمة، وكانت تعرف قديمًا باسم الفسطاط — أي الخيمة — والسبب في ذلك أنه لما أمر المسلمين بالرحيل إلى مدينة الإسكندرية أُخبر بأن زوج يمام عشش فوق خيمته، وأنه قرب على الفقس. فأجابهم قائلًا: «معاذ الله أن يأبى مسلم أن يكون ملجأ لأي مخلوق، دعوا خيمتي بمحلها حتى أعود.» فبقيت الخيمة في محلها، وأسست حولها المدينة، وسميت باسم الفسطاط بدلًا عن مدينة منف التي انهدمت.
عمرو بن العاص
اعلم أن عَمْرًا كان في الجاهلية من الثلاثة الهاجين لرسول الله ﷺ، وهم عمرو المذكور وأبو سفيان بن حرب وعبد الله بن الزبعرى، وقد تقدَّم أنه فتح الديار المصرية في سنة ٢٠ﻫ في خلافة عمر بن الخطاب، ومكث واليًا مدة خلافة أمير المؤمنين، ثم عُزل في خلافة سيدنا عثمان، وأعيد واليًا عليها من طرف معاوية أول خلفاء الدولة الأموية، وكان مستقلًّا بأحكامها حسب شروط معه؛ لأنه هو الذي أعان معاوية على سيدنا علي في حروبه، وهو الذي صنع الحيلة على أبي موسى الأشعري، وعزل عليًّا وثبت معاوية، ولما ظهر معاوية على علي وتم له الأمر بالخلافة جهز جيشًا تحت قيادة عمرو بن العاص؛ لمحاربة عامل سيدنا علي بمصر وهو محمد بن أبي بكر الصديق، فكتب محمد إلى علي يستنجده، فأرسل له جيشًا تحت قيادة ابن الأشتر، فصنع عمرو حيلة وأحضر عجوزًا من أهالي مصر وأعطاها عسلًا مسمومًا وقال لها: «أعطي هذه الهدية لرئيس الجيش العربي الذي حضر بالقلزم»، فأهدت الهدية لابن الأشتر فمات، ولما بلغ ذلك معاوية قال: «إن لله جنودًا من عسل.» ودخل عمرو مصر وقاتل أصحاب محمد بن أبي بكر ومن بقي منهم، وأُخذ أسيرًا فأحضروه إلى معاوية بن خديج فقتله وألقاه في جيفة حمار، وأحرقه. وكانت مصر مدة ولاية عمرو طعمة له بعد رواتب الجنود حسب شروط بينه وبين معاوية، ومكث عمرو واليًا على مصر إلى أن مات، ودفن بالمقطم، وذلك سنة ٤٣ من الهجرة؛ أعني سنة ٦٦٣م.
(٤) الدولة الأموية
أصل هذه الدولة من بني هاشم، وكان مقر ملوكها بدمشق الشام، وعدتهم أربعة عشر خليفة، ومدة حكمهم ٥٢ سنة، وكان ابتداء ملكهم سنة ٣٩ من الهجرة؛ أعني سنة ٦٦١م، وانتهائها سنة ١٣٣ﻫ الموافقة لسنة ٧٥٠م، ولنذكر خلفاءهم على الترتيب فنقول:
(٤-١) خلاف معاوية بن أبي سفيان ٦٦١–٦٨١م
بويع بالخلافة يوم الحكمين، ويوم قتل سيدنا عليٍّ، قيل ببيت المقدس، ويوم تنازل الحسن، وقيل إن عليًّا جهز جيشًا لحرب معاوية، فاتفق قتله في هذه السنة، فلما بويع الحسن بلغه مسير أهل الشام إليه مع معاوية، فتجهز الحسن في ذلك الجيش وسار من الكوفة، فحصلت فتنة في الجيش أثناء الطريق، فنفر قلبه منهم وأرسل إلى معاوية واشترط شروطًا إن أجابه إليها سمع وأطاع، فأجابه معاوية إليها، فتنازل الحسن وأقام بالمدينة إلى أن مات، وقيل إن زوجته «جعدة بنت الأشعث» سمته، قيل بأمر «معاوية»، وقيل بأمر «يزيد بن معاوية»، أطمعها بالتزوج بها ولم يف، ولما بلغ معاوية الخبر بوفاة الحسن سجد لله سبحانه وتعالى، ولما مات عمرو بن العاص استخلف معاوية ابنه عبد الله على مصر ثم عزله، وكان علي استعمل زيادًا على فارس، ولما سلَّمَ الحسن الأمر إلى معاوية منع زياد بفارس الطاعة، فأهم معاوية أمره؛ خوفًا أن يدعو إلى أحد من بني هاشم فيعيد الحرب، وقدم المغيرة عامل معاوية بالكوفة على معاوية، وشكا إليه امتناع زياد بفارس، فتوجه المغيرة بالأمان إلى زياد، فأحضره وبايع معاوية، وفي سنة ٤٨ﻫ أرسل جيشًا تحت قيادة سفيان بن عوف، فحاصر القسطنطينية ولم يتمكن منها، فقتل جانب عظيم من جيشه، وفقدت منه عدة مراكب بالحريق. وفي هذه السنة بنى عقبة بن نافع عامل معاوية على أفريقا مدينة القيروان.
وفي سنة ٥٤ﻫ ولى معاوية سعيد بن عثمان بن عفان خراسان فقطع جيحون إلى سمرقند، وفتح جملة بلاد، وكان معه قثم بن العباس، ثم بايع معاوية الناس ليزيد بولاية عهده، وبايعه أهل الشام والعراق، وأراد مروان بن الحكم عامله بالمدينة البيعة له، فامتنع الحسين رضي الله عنه منها وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر، وامتنع الناس لامتناعهم، ثم قدم معاوية الحجاز بألف فارس وبايع ليزيد أهل الحجاز إلا المذكورين. وفي سنة ٥٨ﻫ توفيت عائشة رضي الله عنها وأخوها عبد الرحمن، وفي سنة ٥٩ﻫ توفي أبو هريرة رضي الله عنه واسمه عبد الرحمن بن صخر، وفي سنة ٦٠ﻫ توفي معاوية وعمره ٧٥ سنة، ومدة خلافته ١٩ سنة، فكان واليًا وخليفة مدة أربعين سنة وهو أول من بايع ولده وعمل المقصورة في المسجد وخطب جالسًا.
(٤-٢) خلافة يزيد بن معاوية ٦٨١–٦٨٣م
ولما مات أبوه أرسل إلى عامله بالمدينة بإلزام الحسين وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر، فقال عبد الله بن عمر: «إن أجمع الناس على مبايعته بايعته.» وأما الحسين وعبد الله بن الزبير فلحقا بمكة ولم يبايعا، وأرسل عامل المدينة جيشًا مع عمرو بن الزبير لقتال الحسين وأخيه، وكان شديد البغض لأخيه، فانتصر عبد الله بن الزبير عليه، وأخذه أسيرًا وحبسه حتى مات، ثم ورد إلى الحسين مكاتبات أهل الكوفة بالمسير إليهم ليبايعوه، فأرسل ابن عمه مسلم بن عقيل ليأخذ البيعة، وكان العامل على الكوفة وقتئذٍ النعمان بن بشير، فقيل بايعه ثلاثون ألفًا، وقيل ثمانية وعشرون ألفًا، وبلغ يزيد عن النعمان بن بشير كلام لا يرضيه فولى الكوفة عبيد الله بن زياد والي البصرة، ورأى ما الناس عليه، فخطب وحث الناس على طاعة يزيد، وقبض على مسلم بن عقيل وأمر بضرب عنقه، ولما بلغ الحسين سار من مكة قاصدًا العراق، ووقعت بينه وبين عبيد الله بن زياد حروب انتهت بقتله بأرض كربلاء، وذلك يوم عاشوراء سنة ٦١ﻫ، وبعثوا برأسه مع أولاده ونسائه إلى ابن زياد، ومنها إلى يزيد، وعلقت على باب دمشق ثم طيف بها في البلاد، وقيل دفنت بعد ذلك بالمدينة، وقيل بعسقلان. ثم نقلها أبو طلائع بن رزبك من وزراء دولة الفواطم وبنى عليها المشهد الحسيني المشهور بالقاهرة، وكان عمره رضي الله عنه خمسة وخمسين سنة، وفي سنة ٦٣ﻫ اتفق أهل المدينة على خلع يزيد، فأرسل إليهم جيشًا وردهم عن ذلك ثم حاصروا مكة مدة ٤٠ يومًا وارتحلوا عنها حين بلغهم موت يزيد سنة ٦٤ﻫ، وكان عامله على مصر سعيد بن يزيد ابنه.
(٤-٣) خلافة معاوية بن يزيد
وكان شابًّا ديِّنًا، تولى الخلافة ثلاثة أشهر، ثم بعد ذلك جمع الناس، وقال: «قد ضعفت عن أمركم ولم أجد لكم مثل عمر بن الخطاب لأستخلفه ولا مثل أهل الشورى، فأنتم أولى بأمركم، فاختاروا من أحببتم.» ثم دخل منزله وأقام به حتى مات، وأوصى أن يصلي الضحاك بن قيس حتى يقوم لهم خليفة. ولما مات بويع ابن الزبير بمكة، فقصد مروان بن الحكم المسير إليه من المدينة لمبايعته، ثم توجه إلى الشام مع بني أمية، وقيل كتب ابن الزبير إلى عامله بالمدينة أن لا يترك بها أحدًا من بني أمية، وهرب عبيد الله بن زياد من البصرة إلى الشام، وبايع أهل البصرة ابن الزبير وأيضًا أهل العراق والحجاز واليمن وأهل مصر، وبايع له في الشام الضحاك بن قيس والنعمان بن بشير بحمص، وزفر بن الحارث الكلابي بقنسرين، وكاد يتم له الأمر، وأقام مروان بن الحكم بالشام في أيام ابن الزبير واجتمع به بنو أمية، وصار الناس بالشام فرقتين؛ اليمانية مع مروان، والقيسية مع الضحاك مبايعين لابن الزبير، واقتتلوا بمرج راهط، وتمت الهزيمة على الضحاك ومن معه، ودخل مروان دمشق، واستوثق الشام له، وسار فملك مصر، ومات مروان بخنق أم خالد زوجته، ودفن بدمشق، وكان عامله على مصر عبد العزيز بن مروان ابنه.
(٤-٤) خلافة عبد الملك بن مروان ٦٨٥–٧٠٥م
بويع بالخلافة يوم موت أبيه سنة ٦٨٥م الموافقة سنة ٦٦ﻫ، وكان هذا الملك سفاكًا للدماء، وهو أول من ضرب السكة في الإسلام، ونهى عن التكلم في حضرات الملوك، وفي أيامه خرج المختار بن عبيد الله الثقفي بالكوفة طالبًا دم الحسين في جمع كثير، واستولى عليها وبايعوه بها على كتاب الله وسنة رسوله والطلب بدم أهل البيت، وتجرد المختار لقتل قتلة الحسين، وظفر بشمر بن ذي الجوشن المتهم بقتل الحسين، واستولى على الموصل، وقدم على الجيش إبراهيم بن الأشتر النخعي، وقاتلوا جيش «عبيد الله بن زياد»، وقتل عبيد الله المذكور وانهزم أصحابه، وبعث برأسه وعدة من رءوس أصحابه إلى المختار، وذلك سنة ٦٧ﻫ، وفي هذه السنة ولى ابن الزبير أخاه مصعبًا البصرة، ثم سار مصعب من البصرة بعد أن جاء له المهلب بن أبي صفرة من خراسان بمال وعسكر كثير، فسارا جميعًا إلى قتال المختار — حيث لم تكن نيته صافية في طلب دم الحسين — بالكوفة، فالتقاهما المختار بجموعه، فانهزم المختار وأصحابه بعد قتال شديد، وحصر في قصر الإمارة بالكوفة، فقاتل المختار حتى قتل. وفي سنة ٦٩ﻫ تجهز عبد الملك إلى العراق وتجهز مصعب لملتقاه، وأقبل الجمعان فتخلى العراقيون عن مصعب، وكانوا قد كاتبوا عبد الملك، فقاتل مصعب حتى قُتل، ودخل عبد الملك الكوفة واستوثق له ملك العراقيين، ثم رجع إلى دمشق وحول العمرة من بيت الله الحرام إلى بيت المقدس؛ لحصول الألفة بأهل الشام، ولتتخلى عن الزبير أصحابه. وبعد ذلك جهز عبد الملك الحجاج بن يوسف في جيش إلى مكة لقتال عبد الله بن الزبير، فسار حتى نزل بالطائف، وجرت بينه وبين أصحاب ابن الزبير حروب، وكانت الهزيمة فيها على أصحاب ابن الزبير، وآخر ذلك أنه حصر ابن الزبير بمكة، ونصب المنجنيق على جبل أبي قبيس بالقرب من مكة، وصار يرمي الكعبة بالأحجار، واستمر ذلك سبعة أشهر، وقاتل ابن الزبير حتى قُتل، وبعد ذلك بويع لعبد الملك بالحجاز واليمن، وبعث رأسه إلى عبد الملك، ثم صلب جسده نحو سنة، ثم أنزل بشفاعة أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق، وجعل عبد الملك واليًا على مكة والمدينة، وكان الحجاج عنيف السياسة. وفي سنة ٧٤ﻫ هدم الحجاج الكعبة وأخرج الحجر عن البيت، وبنى الكعبة على ما كانت عليه في زمن الرسول ﷺ وهي على ذلك إلى الآن.
وفي سنة ٧٥ ولى عبد الملك الحجاج العراق، فسار من المدينة إلى الكوفة، وخرج في أيامه شبيب الخارجي بالعراق، وله مع الحجاج حروب كثيرة، وانتهى أمره أن تفرقت جموعه وغرق شبيب بالفرات. وكذلك خرج عبد الرحمن بن الأشعث واستولى على خراسان، ثم قصد الحجاج وتغلب على الكوفة، وقويت شوكته، فأمده عبد الملك بالجيوش من الشام، وآخر الأمر أن جموع عبد الرحمن تفرقت وانهزم إلى ملك الترك، ثم تهدد الحجاج ملك الترك بالغزو وطلبه منه، فقبض عليه ملك الترك وعلى أربعين من أصحابه، وبعث بهم إلى الحجاج، فألقى عبد الرحمن نفسه في الطريق فمات، وفي أيامه توفي عبد العزيز بن مروان بمصر، ومات عبد الملك وخلافته منذ قتل ابن الزبير ١٣ سنة، وكان حازمًا عاقلًا عالمًا ديِّنًا، ولبخله سُمي برشح الحجر، وعهد بالخلافة بعده لابنه الوليد، وذلك سنة ٨٦ﻫ، وكان عامله على مصر عبد الله ابنه.
(٤-٥) خلافة الوليد بن عبد الملك ٧٠٥–٧١٥م
بويع بعد موت أبيه، وفي أيامه كثرت الفتوحات في بلاد الأندلس، وولى الحجاج خراسان مع العراق، فتغلغل في بلاد الترك، ودخل مسلمة بن عبد الملك بلاد الروم، وفتح محمد بن القاسم الثقفي بلاد الهند، وولى الوليد ابن عمه عمر بن عبد العزيز المدينة، فصدرت إليه أوامر الخليفة بهدم مسجد رسول الله ﷺ، وهدم بيوت أزواجه رضي الله عنهن، وأن يُدخل البيوت في المسجد ويضع أثمان البيوت في بيت المال، فأجاب أهل المدينة إلى ذلك، وتجرد لذلك عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه، وبنى الجامع الأموي بدمشق بأموال جسيمة، وفي سنة ٩٢ﻫ غزا طارق بن زياد وموسى بن نصير عامل الوليد على أفريقا بلاد الأندلس «إسبانيا» وتجاوز البوغاز المعروف باسم جبل طارق، فلما علم بذلك ملك إسبانيا «روديريك» جمع جيشًا عظيمًا، ولكن انهزم بالقرب من مدينة كسيريس «بإمالة السين والراء»، ثم قاومتهم أمة «الجوت» مدة مديدة، وأخيرًا فترت قواها بكثرة عدد عدوهم، لما دخلت أقارب الكونت جوليان في حماية العرب كان ذلك سببًا في انهزام جموع المسيحيين، وفر الإمبراطور روديريك هاربًا فغرق في النهر المُسمى بالوادي الكبير، وبعد هذه النصرة العظيمة لم تحصل وقائع مهمة، فأسرع طارق وموسى بن نصير وابنه عبد العزيز في إتمام فتح باقي الأقاليم، ولما تمهد ملك إسبانيا لهم أدخلوا فيها ديانتهم وأخلاقهم وعوائدهم وإلى غير ذلك، وفتحوا جزيرة سردينيا، وتوفي الحجاج سنة ٩٥ﻫ، وتوفي الوليد سنة ٩٦ﻫ وكان عامله على مصر «قرة بن شريك».
(٤-٦) خلافة سليمان بن عبد الملك ٧١٥–٧١٧م
بويع بالخلافة بعد سبعة أيام من موت أخيه، وأحسن السيرة ورد المظالم، واتخذ ابن عمه عمر بن عبد العزيز وزيرًا له، وبينما كان موسى بن نصير متهيأ لفتح بلاد الغول «فرنسا» إذ بلغه موت الخليفة وتولية أخيه سليمان، وبلغه أيضًا عزله هو وطارق المذكور، وحضرا إلى دمشق، وحكم عليهما بالنفي إلى مكة، ثم أمر الخليفة بقتل عبد الله وعبد العزيز اللذين كانا بقيا بالنيابة عن أبيهما ببلاد الأندلس والمغرب الأقصى، فمات ابن نصير حينما بلغه خبر موت ولديه، ومع ذلك فإن نفي موسى وطارق لم يوقف فتوحات العرب، فإنهم بعد أن جاوزوا جبل البيرينية استولوا على مدينة «ناربون» وبعض مدن من فرنسا الجنوبية، وامتدت فتوحاتهم إلى قسم «يرجونيا» ثم قام عبد الرحمن بجيش جرار قاصدًا بذلك فتح باقي بلاد الغول، فوضع الحصار على مدينة «بوردو» واستولى عليها، وتقدم إلى نهر «لوار» فقابله «شارل بن ييبين دوهير ستال» لما علم بقدوم عبد الرحمن المذكور، فانهزم العرب أمام الجيش المكون من الغول والجرمانيين تحت قيادة شارل المذكور بالقرب من بندر بواتيه، ورجعوا إلى إسبانيا واكتفوا بأمرها، وذلك سنة ١١٨ من الهجرة الموافقة لسنة ٧٣٢م. وفي سنة ٩٧ﻫ خرج سليمان بالجيوش، ونزل بمرج دابق وبعث أخاه مسلمة إلى القسطنطينية، وقال: «أقم عليها حتى تفتحها». وأقام مسلمة قاهرًا لها حتى جاءه الخبر بموت أخيه سليمان، وذلك سنة ٩٩ﻫ، وفي أيامه بنى أسامة بن يزيد الملقب «بالتنوخي» مقياس النيل بالروضة سنة ٩٧ﻫ حينما وقع مقياس النيل الموجود بحلوان، وأوصى بالخلافة بعده لعمر بن عبد العزيز، وكان عامله على مصر عبد الملك بن رفاعة.
(٤-٧) خلافة عمر بن عبد العزيز ٧١٧–٧٢٠م
وهو الأشج الذي ورد في حقه الحديث الشريف، بويع بالخلافة بعد موت سليمان، فمن يوم توليته رفع المظالم التي صدرت ممن سبقه من الملوك، وغير سب الإمام علي كرم الله وجهه على المنابر، ووضع محلها آية من القرآن: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَالبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. ولهذا الخليفة مناقب كثيرة لا تُحصى؛ منها: أنه باع جميع ما يملكه وكذا نساؤه برضاهم وأدخله في بيت المال، ومنها المحافظة على ما في بيت مال المسلمين، قيل إن خادمه أتاه يومًا بماءٍ يقضي به حاجته، فقال: «بأي شيءٍ أسخنت هذا الماء؟» فقال له: «من خشب بيت المال.» فأمر بشراء غيره ورده إلى محله، وكان العامل من طرفه على مصر هو أبو أيوب بن الصباح، وبشير بن صفوان. وقد مات رضي الله عنه مسمومًا، سمه خدامه بواسطة أقاربه، فتفحص عن الأسباب، فقيل إنه أخذ منه جعلًا فأخذه منه وأدخله بيت المال، ولم يتعرض له بسوء، وفوَّض أمره إلى الله، ومات بعد أن حكم سنتين، ودفن بدير سمعان بالشام، وبويع بعده لزيد بن عبد الملك، فلم يحدث في أيامه أمور مهمة إلا خروج يزيد بن المهلب بن أبي صفرة، فأرسل إليه أخاه مسلمة، فقتل آل المهلب المشهورين بالكرم والشجاعة، وتوفى سنة ١٠٥ﻫ بعد تصرفه أربع سنين.
(٤-٨) خلافة هشام بن عبد الملك ٧٢٠–٧٤٧م
تولى الخلافة عقب موت يزيد بن عبد الملك، وفي أيامه غزا مسلمة بن عبد الملك الروم، وغزا نصر بن سيار ما وراء النهر، وقتل ملك الترك. وفي سنة ١٢٢ خرج زيد بن علي بن الحسين بالكوفة، ودعا إلى نفسه، وبايعه خلق كثير، وكان والي الكوفة من جهة هشام يوسف بن عمر الثقفي، فجمع الجموع وقاتل زيدًا، فأصابه سهم في جبهته، فمات وعمره ٤٢ سنة، وصلب يوسف بن عمر جثته، وبعث برأسه إلى هشام فنصبت بدمشق، ودامت جثته حتى مات هشام وتولى الوليد، فأحرقت وأدريت في الهواء، ومات هشام سنة ١٢٥ﻫ، وبموته ختم الوليد على ماله، فكفن بالدين، وقال شعرًا:
وكان العامل من طرفه على مصر «محمد بن عبد الملك» وفي مدته حصل بمصر وباءٌ عظيم مكث شهرين، وجملة ولايته على مصر ثمانية أشهر.
(٤-٩) خلافة الوليد بن يزيد ٧٤٨-٧٤٩م
كان هو وأصحابه في البرية؛ خوفًا من هشام في ضيقٍ وسوء حال، فكُتب إليه بموت هشام، فحضر وتولى الخلافة، وعكف على الشرب والغناء، وزاد الناس في عطائهم عشرات، ثم زاد أهل الشام زيادة بعد العشرات عشرة أخرى، وفي سنة ١٢٦ﻫ قتله «يزيد بن الوليد بن عبد الملك» الملقب بالناقص بعد أن ثقل على الناس لهو الوليد وشربه واجتماعه بالفساد، دعا يزيد إلى نفسه، ونهاه أخوه العباس بن الوليد بن عبد الملك وتهدده، فأخفى الأمر عنه، وكان يزيد مقيمًا بالبادية؛ لوخم دمشق، فلما تم له أمره قصد دمشق متخفيًا ودخل دمشق ليلًا، وبايعه أكثر أهلها، وكان عامل الوليد على دمشق عبد الملك بن محمد بن الحجاج، فظهر يزيد بدمشق واجتمع عليه الجند وغيرها، وأحضر عامل الوليد بالأمان، ثم جهز يزيد جيشًا إلى الوليد بن يزيد بن عبد الملك تحت قيادة عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك، وكان الوليد وقتئذ بالأعذق في عمان، فسار الوليد إليه وجرت بينهما حروب انتهت بتفريق الناس عن الوليد، فركب بمن معه وقاتل قتالًا شديدًا، ثم انهزم هو وأصحابه، فدخل القصر وأغلقه، وحاصروه ثم قتلوه، وبعثوا برأسه إلى يزيد فسجد شكرًا لله سبحانه وتعالى، وطيف بالرأس على رمح في دمشق.
(٤-١٠) خلافة يزيد بن الوليد
وبعد قتل الوليد استقر الحكم له فنقص العشرات التي زادها الوليد، فلقبوه بالناقص، وفي أيامه خرجت عليه أهل حمص ونهبوا دار أخيه العباس، فسار إليهم وهزمهم، وأخذ البيعة عليهم، وكذا خرج أهل فلسطين على عامله، وأحضروا يزيد بن سليمان بن عبد الملك فجعلوه عليهم، ودعا الناس إلى قتال يزيد الناقص، فأرسل إليه يزيد الناقص جيشًا مع سليمان بن هشام بن عبد الملك، فلما قرب منهم الجيش المذكور تفرقوا، وقدم سليمان في طلب يزيد بن سليمان ونهبه، وسار سليمان حتى نزل طبرية وبايع بها ليزيد، ثم بالرملة وبايع بها كذلك، وعزل منصور بن جمهور عن العراق وولاها عبد الله بن عمر بن عبد العزيز، وتوفي الناقص بعد أن حكم خمسة أشهر تقريبًا.
(٤-١١) خلافة إبراهيم بن الوليد
وكانت مدة خلافته أربعة أشهر، وفيها سار مروان بن محمد بن مروان بن الحكم في جيش عظيم قاصدًا عزله من الخلافة، ولما علم بذلك إبراهيم بن الوليد جهز إليه جيشًا مع سليمان بن هشام، واقتتلوا فانهزم أصحاب إبراهيم الخليفة وسليمان المذكور، وقتلوا ابني الوليد بن يزيد وكانا في السجن، ثم اختفى إبراهيم ونهب سليمان بيت المال وقسمه على أصحابه وخرج من دمشق.
(٤-١٢) خلافة مروان بن محمد
بويع بالخلافة عقب فرار إبراهيم بن الوليد، ولما استقر له الأمر أرسل له إبراهيم المخلوع وسليمان بن هشام يستأمنان منه، فأمَّنهما وقدما عليه ومع سليمان إخوته وأهل بيته، فبايعوا مروان، وفي أيامه عصت عليه أهل حمص ففتحها وقتل وصلب بعض أهلها، ثم خالف عليه أهل فلسطين، فكتب مروان إلى أبي الورد، فسار وهزمهم بالقرب من طبرية، ثم خرج عليه سليمان بن هشام بن عبد الملك واجتمع إليه من الشام سبعون ألفًا، وعسكر بقنسرين، وسار إليه مروان، والتقوا بأرض قنسرين، فانهزم سليمان وفر هاربًا إلى حمص واجتمع إليه أهلها، فهزمه مروان. وعصى عليه أهل حمص ثانيًا، فحاصرهم طويلًا، وأخيرًا سلموا إليه، وكان عامله على مصر عبد الملك ابنه. وفي سنة ١٢٩ﻫ ابتدأت الدعوة لبني العباس في خراسان وغيرها من طرف محمد الملقب بالإمام ابن علي بن عبد الله بن عباس على يد أبي مسلم الخراساني الذي ولاه محمد الإمام الأمر في استدعاء الناس سرًّا، ولما مات محمد الإمام العباسي وقام بعده ولده إبراهيم الإمام أقر أبا مسلم على الدعوة وأمره أن يظهرها بخراسان، وكان الوالي عليها من طرف مروان «نصر بن سيار»، ولما بلغ مروان ذلك أرسل إلى عامله بالبلقاء أن يرسل إليه إبراهيم الإمام المقيم بقرية الحميمة «بضم الحاء» بلدة الشام، فبعثه إليه، فحبسه مروان بحرَّان حتى مات، وبويع أبو العباس بالخلافة بعد موت إبراهيم الإمام أخيه، فجهز جيشًا تحت قيادة عمه عبد الله بن علي لقتال مروان بن محمد، فالتقى الجمعان بالقرب من الموصل، فكانت النصرة لعبد الله، وانهزم مروان والتجأ إلى حرَّان، ومكث بها عشرين يومًا حتى دنا منه عسكر أبي العباس، وانهزم إلى حمص، وقدم عبد الله بن علي حران ثم سار مروان إلى دمشق ثم سار إلى فلسطين، وكان السفاح قد كتب إلى عمه عبد الله بن علي اتباع أثر مروان، فسار حتى وصل إلى فلسطين، وفي أثناء الطريق وجدوا جماعة من بني أمية، فأمر بمدهم وصاروا يجلسون عليهم ويأكلون ويشربون عليهم إلى أن ماتوا، ثم ورد إليه كتاب أبي العباس بإرسال أخيه صالح بن علي في طلب مروان، ولم يزل متتبعًا أثر مروان إلى أن أدركه في قرية أبو صير بالجيزة «من أعمال مصر»، فضربه بالرمح واحتز رأسه وسار بها إلى أبي العباس بالكوفة.
ولم يزل أبو العباس يتبع أثر بني أمية حتى أهلكهم؛ ولذا سُمي بالسفاح؛ (أي سافك الدماء)، ولم يُبْقِ منهم إلا المستضعفين من الرجال والنساء، ثم هرب منهم جماعة إلى المغرب منهم: عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك الذي دخل الأندلس، وبويع فيها بالخلافة، وأسس دولة قرطبة، فكان مروان الجعدي هذا آخر ملوك بني أمية، وهرب عبيد الله وعبد الله ابنا مروان إلى الحبشة، فقتل عبيد الله، ونجا عبد الله في عدَّة ممن معه وبقي إلى خلافة المهدي، فأخذه نصر بن محمد بن الأشعث عامل فلسطين، وبعث به إلى الخليفة، وكانت مدة خلافة مروان ٥ سنين تقريبًا.
(٥) الدولة العباسية
أصل هذه الدولة من سلالة العباس عم النبي ﷺ، وكان مقر ملكهم بالعراق وعدتهم ٣٧ خليفة بالعراق، و١٥ بمصر، ومدة تصرفهم ٥٠٠ سنة، وكان ابتداء ملكهم سنة ١٣٣ﻫ الموافقة سنة ٧٥٠م، وانتهاؤه سنة ٦٥٧ﻫ الموافقة لسنة ١٦٥٨م، ولا نتكلم هنا إلا على من دخلت مصر تحت حكمه، فنقول:
(٥-١) خلافة أبي العباس السفاح ٧٥٠–٧٥٤م
وبعد أن تم له الأمر على الوجه المذكور دخل سديف الشاعر وعنده سليمان بن هشام بن عبد الملك، وكان أمَّنه وأكرمه، فأنشد يقول:
ففي الحال أمر بقتل سليمان المذكور، وأمر عبد الله بن علي بنبش قبور الأمويين وإحراق ما فيها من العظام، وتتبع قتل بني أمية، ولم يسلم من القتل سوى الرضيع أو من فر إلى الأندلس، وقتل سليمان بن علي بالبصرة جماعة من بني أمية، وألقاهم في الطريق تأكلهم الكلاب، فتشتت من بقي منهم واختفوا في البلاد، وجعل السفاح أخاه المنصور واليًا على الجزيرة وأزربيجان وأرمينيا، وولى عمه المدينة ومكة واليمن، وولى ابن أخيه عيسى بن موسى الكوفة، وكان على الشام عمه عبد الله، وعلى مصر أبو عون، وعلى خراسان أبو مسلم. وفي سنة ١٣٣ استولى قسطنطين ملك الروم على مالطة، وفيها ولى السفاح عمه سليمان البصرة وأرض البحرين وعمان، وفيها عزل السفاح أخاه يحيى عن الموصل؛ لكثرة قتله فيهم وولى عمه إسماعيل بن علي. وفي سنة ١٣٤ تحول السفاح من مقامه بالحيرة إلى الأنبار، ومات السفاح سنة ١٣٦ وخلافته من قبل مروان أربع سنين، وعهد بالخلافة لأخيه المنصور.
(٥-٢) خلافة أبي جعفر المنصور ٧٥٤–٧٧٥م
ولما مات السفاح كان المنصور في الحج، فأخذ له عيسى بن موسى البيعة على الناس، وأرسل أعلمه بذلك فبايعه أبو مسلم والناس، ولما قدم من الحج إلى الكوفة وصلى بأهلها الجمعة وسار فأقام بالأنبار، وفي أيامه بايع عمه المنصور عبد الله بن على لنفسه بالخلافة، فأرسل إليه أبو مسلم، فانهزم عبد الله وأصحابه، واستولى أبو مسلم على عسكره، ثم قتل أبا مسلم الخراساني؛ لوحشة جرت بينهما؛ لأنه كتب لأبي مسلم بعد أن هزم عبد الله عمه بالولاية على مصر والشام وصرفه على خراسان، فلم يجب أبو مسلم إلى ذلك، وتوجه يريد خراسان، وسار المنصور من الأنبار إلى المدائن، وكتب يطلب أبا مسلم فاعتذر عن الحضور، وطالت بينهما المراسلات، وأخيرًا قدم إليه أبو مسلم في ثلاثة آلاف، وخلف باقي عسكره بحلوا ن(من أعمال فارس)، ودخل على المنصور فأمر بقتله. وفي سنة ١٣٣ وسع المنصور المسجد الحرام، وفي أيامه دخل عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بلاد الأندلس، واستولى عليها. وفي سنة ١٤٥ أمر الخليفة ببناء بغداد وسماها مدينة السلام، وانتقل من مدينة أبي هبيرة إلى بغداد، ونقل إليها أبواب مدينة واسط لتكميل عمارتها، وأمر بنقل أنقاض القصر الأبيض «إيوان كسرى» إلى بغداد، ثم كف عن ذلك الشغل لصعوبته. ومات الإمام أبو حنيفة في مدته. وفي سنة ١٥١ بنى المنصور الرصافة لابنه المهدي، وهي في الجانب الشرقي من بغداد، وسار المنصور بعد ذلك إلى الشام وجهز جيشًا إلى المغرب لقتال الخوارج، ومات المنصور سنة ١٥٨، وكان العامل من طرفه على مصر أبو عون الجرجاني، وفي مدته صدرت إليه أوامر الخليفة بسدِّ قنال السويس الذي كان شرع فيه عمرو بن العاص، وقد بلغ عدد نوابه بمصر ثمانية، أولهم أبو عون المذكور وآخرهم موسى بن العباسي.
(٥-٣) خلافة المهدي ٧٧٥–٧٨٥م
بويع بالخلافة بعد موت أبيه، وفي أيامه أمر باتخاذ المصانع في طريق مكة وتجديد الأميال والبرك، وتجهز المهدي لغزو الروم واستخلف ابنه الهادي ببغداد، ولما وصل إلى حلب بلغه أن بتلك الناحية زنادقة، فجمعهم وقتلهم. وجهز ابنه هارون لغزو بلاد الروم، فرحل الرشيد إلى خليج القسطنطينية، ولم يمكنه فتحها فعاد، وأقام المهدي بريدًا بين مكة والمدينة واليمن بغالًا وإبِلًا، وزاد المهدي في المسجد الحرام والمسجد النبوي، ومات المهدي سنة ١٦٨، وتولى من طرفه على مصر ستة أوَّلهم عيسى بن نعمان، ومنهم أبو داود الذي منع غلق الدروب ليلًا، ومنع حرس الحمامات وقال: «من ضاع له شيء فعليَّ أداؤه.» ومنهم إبراهيم بن صالح الذي خرج في مدته «دحية بن مروان» بالصعيد، ودعا لنفسه بالخلافة، فتراخى إبراهيم ولم يحفل بأمره حتى ملك عامة الصعيد، فسخط عليه المهدي وعزله. ومنهم عصامة بن عمر الذي بعث إلى دحية جيشًا مع أخيه «بكار»، فحارب يوسف بن نصر وهو على جيش دحية فتطاعنا، فوضع يوسف الرمح في خاصرة بكار ووضع الرمح في خاصرة يوسف فقتلا معًا، ورجع الجيشان منهزمان.
(٥-٤) خلافة الهادي ٧٨٥-٧٨٦م
ولما مات المهدي كان الهادي مقيمًا بجرجان يحارب أهل طبرستان، فأُخذت البيعة له، فلما بلغه بجرجان موت أبيه سار حتى دخل بغداد. وفي مدته ظهر الحسين بن علي بن الحسن بن الحسين رضي الله عنه بالمدينة في جمع من أهل بيته، وجرى بينه وبين عامل الهادي على المدينة، وهو عمر بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب قتال، فانهزم عمر المذكور، وبايع الناس الحسين، ثم خرج الحسين ومن معه إلى مكة، وكان قد حج جماعة من بني العباس منهم سليمان بن أبي جعفر المنصور، وانضم إليه شيعتهم ومواليهم، واقتتلوا فقُتل الحسين وانهزم أصحابه وأُخذت رأسه ورأس جملة من أهل المدينة وبعثوا بها إلى الهادي، وكان العامل من طرفه على مصر «علي بن سنان».
(٥-٥) خلافة هارون الرشيد ٧٨٦–٨٠٩م
وهو الخامس من بني العباس، تولى الخلافة بعد موت أخيه الهادي سنة ١٧٠ هجرية؛ أعني سنة ٧٨٦م، كان هذا الخليفة أشهر وأفضل بني العباس، عاقلًا مهابًا موصوفًا بالحكمة والتدبير، مولعًا بمطالعة التواريخ والكتب الأدبية، وفي عصره اتسعت دائرة التجارة ونطاق المعارف؛ لأنه أصدر أمرًا بترجمة الكتب اليونانية من فلسفيات ورياضيات وغيرها إلى اللغة العربية، وتنافست الكُتاب في ترجمتها، وله غزوات كثيرة، من أشهرها غزوة بلدة هرقلة في عصر ملكها «نيسيفوروس»، المعروف في التواريخ الإسلامية باسم «نقفور»، حين امتنع عن أداء الخراج، فهزمه شر هزيمة، وعاد عليه الخراج كما كان، وقيل إن الرشيد حضر بنفسه ثمان غزوات، وقاتل فيها قتالًا حسنًا، ومن مناقب هذا الخليفة أنه كان غير محتجب عن أرباب الدعاوى، محافظًا على راحة الرعية، كان يطوف أغلب الليالي مختفيًا في شوارع بغداد؛ ليطلع على أحوال الرعية، فإذا رأى مظلومًا أعانه وانتقم من ظالمه. قيل إن امرأة دخلت عليه وشكت إليه أذى العساكر حين مرورهم في أرضٍ تخصها، فأجابها الرشيد قائلًا: «جاء في الحديث أن من عادة العساكر أن يضروا بالأرض عند مرورهم بها للغزو والجهاد، فيجب على أصحاب الأملاك أن يتحملوا أضرارهم ويقوموا بخدمتهم.» فأجابته على الفور قائلةً: «جاء في الحديث أن الملوك الذين يسمحون بظلم رعيتهم تجلب خرابًا على مملكتهم.» فاستحسن الرشيد جوابها، ودفع لها ضعف خسائرها من بيت المال. وله مناقب كثيرة من هذا القبيل، وكان عامله على مصر موسى بن عيسى العباسي الذي أمر القبط في إعادة الكنائس ثانيًا التي كان هدمها على بن يوسف، وقاموا عليه أهل مصر، وقالوا إنه يصلح للخلافة، ولما سمع الرشيد بذلك سخط عليه وعزله وولى مكانه موسى المذكور، وجملة نوابه بمصر أكثر من عشرة.
ولما اشتهر الرشيد في الأقطار الغربية بالحكمة والتدبير أرسل له «شرلمان» أو «شارل الأكبر» ملك الفرنج ومدبر السلطنة الغربية رسلًا، فأرسل إليه الخليفة هدية ساعة ميكانيكية وأشياء أخرى فاخرة، وكانت الساعات لم تكن معروفة من قبلُ، فكانت هي أول ساعة ظهرت في أوروبا، وفاق الرشيد من سلفوا من الخلفاء والملوك، وزخرف بغداد والمدن الشهيرة بأنواع البساتين والزينة، وصرفت امرأته زبيدة مليون ومائة ألف دينار لحفر عين ماء لشرب أهل مكة والمدينة، وكان الرشيد قد استوزر يحيى البرمكي، ثم استوزر بعده ابنه جعفر، وكان الرشيد لا يفعل شيئًا إلا باستشارته، ومن فرط حبه له زوَّجه أخته ميمونة بشرط عدم الاجتماع بها، ثم نكب به وقتله ونصب رأسه على الجسر وجعل جثته نصفين، كل نصف على جسر، وحبس أهله، وأخيرًا قتلهم، وذلك لأسباب سياسية، وقيل إن البرامكة أحضروا له الزندقة، وقيل إن جعفرًا اجتمع بأخته المذكورة فحملت بغلام، وهذا القول بعيد، وقيل إن الرشيد كلما مر على قرية أو ضيعة سأل: «هي لمن؟» قيل: «لجعفر.» وهذا هو الصحيح. ومات الإمام مالك وسيبويه إمام النحو في مدته، ومات الرشيد بمدينة طوس من أعمال خراسان حين توجه لقمع رافع بن الليث وقت إظهاره العصيان عليه، وذلك سنة ١٩٣، وعهد بالخلافة لابنه الأمين ثم المأمون.
(٥-٦) خلافة محمد الأمين ٨٠٩–٨١٣م
بويع بالخلافة يوم مات أبوه، وفي زمنه هاجت الجنود بمصر، فحصل من ذلك فتنة شديدة قتل فيها أناس كثيرون، فسار الحسن بن البحباح من مصر بمال الخراج إلى الخليفة الأمين، فخرج عليه أهل الرملة ونهبوه وأخذوا مال الخراج منه، فولى الحاتم بن هرثمة، فأتى إلى مصر بألف فارس، ونزل بهم في مدينة بلبيس، وأخذ الخراج من البلاد وذهب إلى مدينة الفسطاط، ثم عُزل وتنصب على مصر مكانه جابر بن الأشعث الطائي، فاستمر إلى أن حدثت الفتنة بين الأمين والمأمون، وسبب ذلك أن أخاه الأمين خلعه من الخلافة وأبطل اسمه من الخطبة وخطب لموسى ابنه ولقبه الناطق بالحق، فأرسل المأمون لقتاله طاهر بن الحسين وهرثمة بن أعين، فحاصراه ببغداد، فهرب بمركب في البحر، فرماه رجال أصحاب طاهر بالحجارة، فشق الأمين ثيابه وسبح في الماء إلى بستان، فلما خرج أدركوه وركبوا عليه وذبحوه من قفاه، وأخذوا رأسه إلى طاهر بن الحسين، فأرسلها إلى المأمون وبصحبتها خاتم الخلافة وبردة رسول الله ﷺ، فلما وُضعت الرأس بين يدي المأمون خرَّ ساجدًا شكرًا لله تعالى على ما رزقه من الصغر، وأعطى الرسول ألف درهم، وكان قتل الأمين سنة ١٩٨ في محرم، وأتى السري بن الحكم إلى مصر، وبايع الناس للمأمون، وعُزل جابر الذي كان عاملها من طرف الأمين.
(٥-٧) خلافة المأمون ٨١٣–٨٣٣م
بويع بالخلافة عقب قتل أخيه، وكان هذا الملك متحليًا بجميل الأخلاق، يحب العلم وأهله، مشتغلًا بالعلوم لا سيما علم الفلك، فتحارب مع الإمبراطور «تيوفيل» حينما امتنع عن إرسال أحد علماء الفلك المدعو «ليون» إليه، وجمع مكتبة من الكتب اليونانية، وأمر بترجمتها إلى اللغة العربية، فمن أفخر كتبها كتاب «إقليدس» المهندس المشهور.
واعلم أن المأمون هو أول من قاس الدرجة الأرضية، وعرف مقدارها، وقد كان مع هذه الأوصاف صاحب غزوات وفتوحات، فإنه غزا بلاد «سيليسيا» وجزيرة «كنديا». وجملة نوابه بمصر ثمانية منهم صالح بن شيراز الذي ظلم الناس وجار عليهم فقتلوه، ومنهم عيسى الجلودي الذي حارب أهل الحوف بالمطرية وهزموه، فأتى إليه المعتصم بأربعة آلاف من الأتراك، فقاتلهم وقتل أكابرهم، ومنهم عيسى بن منصور الذي خالف عليه عرب مصر وأقباطها، وكانت بينهم حروب عظيمة، وذلك سنة ٢١٦، وفي مدته حضر المأمون إلى مصر، وبحضوره طفئت نار الفتنة، ثم أراد البحث عن حقيقة أهرام الجيزة، وهدم جزءًا منها فكف عن ذلك الشغل لصعوبته. وقال: «إن الملوك الذين بنوا الأهرام كانوا بمنزلة لا ندركها نحن ولا أمثالنا.» وقد تقدم الكلام على الأهرام، وقد حمل الناس على القول بخلق القرآن الشريف وتفضيل الإمام عليٍّ على جميع الصحابة، فأجابته طائفة وامتنع الإمام أحمد بن حنبل، فأمر بشد يديه وحبسه. وفي سنة ٢٠٠ أمر المأمون بإحصاء ولد العباس فبلغوا ٣٣٠٠ ما بين ذكرٍ وأنثى كما ذكر ذلك ابن الوردي. وفي سنة ٢٠٢ بويع لإبراهيم بن المهدي ببغداد، ولقب المبارك، وذلك بعد أن خلعوا المأمون، واستولى إبراهيم على الكوفة وعسكر بالمدائن، واستعمل على الجانب الغربي من بغداد العباس بن موسى الهادي، وعلى الجانب الشرقي إسحاق بن الهادي، واستخلف المأمون على خراسان «غسان بن عباد»، وقصد العراق، ولما وصل سرخس وثب أربعة فقتلوا الفضل بن سهل، وبلغ إبراهيم بن المهدي والمطلب الذي أخذ البيعة لإبراهيم قدوم المأمون، فتمارض المطلب وتوجه إلى بغداد وسعى باطنًا في البيعة للمأمون وخلع إبراهيم، وبلغ ذلك إبراهيم وهو بالمدائن، فقصد بغداد وطلب المطلب فامتنع، فنهبه ونهب أهله، ولم يظفر بالمطلب. وفي سنة ٢٠٣ﻫ خلع أهل بغداد إبراهيم المذكور ودعوا للمأمون، فقدم المأمون وكانت ولايته سنتين تقريبًا، فانقطعت الفتن بقدوم المأمون سنة ٢٠٤ﻫ. وفي هذه السنة توفي بالفسطاط الإمام الشافعي رضي الله عنه واسمه محمد بن إدريس، وكان العامل على مصر وقتئذ السري بن الحكم. وفي سنة ٢١٠ﻫ ظفر المأمون بإبراهيم بن محمد بن عبد الوهاب بن إبراهيم ابن الإمام المعروف بابن عائشة وبجماعة معه سعوا في البيعة لإبراهيم بن المهدي، فحبسهم ثم صلب ابن عائشة. وفي هذه السنة قبض على إبراهيم بن المهدي وأحضر إلى المأمون فحبسه، فأنشد يقول:
فعفا عنه، وقال:
وفي سنة ٢١٦ﻫ سار إلى مصر المأمون كما تقدم، وأمر عماله ببناء ما تهدم من مقياس النيل ونقش ذلك عليه بالحروف الكوفية.
(٥-٨) خلافة المعتصم
وهو أبو إسحاق محمد بن هارون الرشيد، تولى الخلافة سنة ٢١٨ﻫ الموافقة ٨٣٨م، كان هذا الملك عاريًا عن العلوم والمعارف، وحمل الناس على القول بخلق القرآن، وعقد في ذلك مجالس كثيرة وأمر بشد يدي أحمد بن حنبل حتى تخلفت أكتافه، وما زال متوجعًا إلى أن مات رضي الله عنه، وكان عامله على مصر كيدر ثم ابنه المظفر، وقد استخدم في معيته نحو خمسين ألفًا من الأتراك والتتار، فقويت شوكتهم، وصار الأمر بين يديهم، ولم يكن للخليفة في زمنهم إلا مجرد الخطبة والاسم، وقبض المعتصم على وزيره الفضل بن مروان، ولم يكن للمعتصم معه أمر، وولى مكانه محمد بن عبد الملك الزيات.
(٥-٩) خلافة الواثق هارون
بويع بالخلافة يوم وفاة أبيه، وفي مدته فتح المسلمون أماكن من جزيرة صقلية، وكان أميرها محمد بن عبد الله بن الأغلب، وخرجت المجوس من أقاصي بلاد الأندلس في البحر إلى بلاد المسلمين، وجرى بالأندلس وقائع انهزم فيها المسلمون، ثم وافاهم عبد الرحمن الأموي صاحب الأندلس والمسلمون، فانهزم المجوس وغنم المسلمون منهم أربعة مراكب بما فيها، وعاد المجوس إلى بلادهم، وكان عامله على مصر كيدر بن عبد الله الصفدي ومنصور بن عيسى.
(٥-١٠) خلافة المتوكل على الله
بويع بالخلافة يوم مات أخيه الواثق، فولى ابنه المنتصر الحرمين واليمن والطائف، وفي أيامه ظهر بمدينة سامرا «من أعمال فارس» محمود بن فرخ وادعى النبوة وأنه ذو القرنين، وتبعه سبعة وعشرون رجلًا، فألزم المتوكل أصحابه أن يصفعوه كل منهم عشر صفعات، ثم حبسه وضربه حتى مات، وأمر المتوكل بهدم قبر الحسين رضي الله عنه، وهدم ما حوله من المنازل لشدة بغضه لعليٍّ كرم الله وجهه وأهل بيته، وكان نديمه عبادة المخنث، ومنع القول بخلق القرآن، ومات في أيامه الإمام أحمد بن حنبل وذو النون المصري، وقتل المتوكل برأي ابنه المنتصر، وقتل معه وزيره الفتح بن خاقان سنة ٢٤٧.
(٥-١١) خلافة المنتصر
امتنع الناس أولًا من مبايعته؛ حيث إنه قتل والده، فأخرج أحمد بن الخطيب كتابًا من المنتصر أن الفتح بن خاقان قتل المتوكل، فقتلته به، فبايعوه. وفي مدته توفي أبو العباس أمير صقلية، فولى الناس ابنه عبد الله. ثم ورد من أفريقة خفاجة بن سفيان أميرًا، فغزى وفتح، ثم اغتاله بعض أصحابه فولى الناس ابنه محمدًا، ثم أقره محمد بن أحمد بن الأغلب صاحب القيروان، وبقي محمد بن خفاجة أميرًا إلى سنة ٢٥٧ من الهجرة، فقتلته طوشية وهربوا، فقتلوا. والمنتصر هو الذي أمَّن العلويين وأمرهم بزيارة قبر الحسين، ومات بسامرا سنة ٢٤٨ﻫ.
(٥-١٢) خلافة المستعين بالله
وهو أحمد بن محمد بن المعتصم، بويع بالخلافة عقب موت المنتصر، وفي أيامه ورد إليه خبر موت طاهر بن عبد الله أمير خراسان، فولى ابنه محمد بن طاهر عليها، وحمل أهل حمص على كيدر عامله فأخرجوه. وفي سنة ٢٤٩ التقى المسلمون والروم بمرج الأسقف وقتل عمر بن عبد الله الأقطع مقدم عساكر الخليفة، فانهزم المسلمون وقتل منهم كثير، فأغار الروم على ثغور الجزيرة. وفي هذه السنة شغب الجند والعامة على الأتراك بسبب استيلائهم على الأمور، يقتلون من شاءوا من الخلفاء ويستخلفون من شاءوا، ثم اتفقت العامة بسامرا وأطلقوا من في السجون، فقتلت الأتراك من العامة جماعة حتى سكنت الفتنة، وقتل العبيد «أيامش» رئيس الترك ونهبوا داره، وفي أيامه ظهر أبو الحسن من نسل الحسين بالكوفة، وكثرت جموعه، فأرسل إليه جيشًا مع محمد بن طاهر، فقتله وبعث رأسه إلى الخليفة، وخرجت عليه أهل حمص، وطردوا العامل الفضل بن فارن، فأرسل المستعين إليهم جيشًا تحت قيادة موسى بن بغاء الكبير ففتحها وقتل خلقًا كثيرًا وأحرقها. وفي سنة ٢٥١ شغب الجند وحصروا المستعين في القصر بسامرا، فهرب هو وبغاء الصغير ووصيف باغر التركي إلى بغداد، واستقر بها المستعين فخافت الأتراك منه، فأخرجوا المعتز بن المتوكل من الحبس وبايعوه.
(٥-١٣) خلافة المعتز بالله
بويع بالخلافة عقب خلع المستعين، فأرسل جيشًا يبلغ خمسين ألفًا من الأتراك إلى حزبه، فتحصن المستعين ببغداد وألزمه بخلع نفسه ومبايعته له بعد قتال شديد، ثم نقل المستعين من الرصافة إلى قصر الحسن بن سهل بأهله وأخذ منه البردة والقضيب والخاتم، ومنعه من مكة فأقام بالبصرة ووكل به جماعة وانحدر إلى «واسط»، وكتب إلى أحمد بن طولون بقتل المستعين، فامتنع ابن طولون من ذلك فسلمه إلى الحاجب سعيد بن صالح فضربه سعيد حتى مات، وبعث برأسه إلى الخليفة المعتز بالله، وخلافته ثلاث سنين وتسعة أشهر، وفي أيامه عقد «لعيسى بن الشيخ» على الرملة فجهز نائبه أبا المعتز إليها لما كانت فتنة الأتراك بالعراق، وتغلب «ابن الشيخ» على دمشق وأعمالها، وقطع ما كان يحمل من الشام إلى الخليفة، وملك يعقوب الصفار هراة وبوشنج وهابه أمير خراسان.
وفي سنة ٢٥٤ﻫ؛ أعني سنة ٨٦٨م ولي أحمد بن طولون مصر، وفي سنة ٢٥٥ﻫ استولى يعقوب بن الليث الصفار على كرمان ثم استولى على فارس، ودخل شيراز ونادى بالأمان، وكتب إلى الخليفة بطاعته، وصار سلطانًا بها سنة ٢٥٥ﻫ الموافقة سنة ٨٦٨م، وأسس دولة بني الصفار وخلع المعتز سنة ٢٥٥ﻫ أي سنة ٨٦٨م، وذلك أن الأتراك طلبوا حقوقهم فلم يكن عنده مال، فاتفق الأتراك فساروا إلى منزله وضربوه، ثم اتفقوا على خلعه، ثم حبس ومنع من الطعام والشراب مدة ثلاثة أيام، فمات ودفن بسامرا.
(٥-١٤) خلافة المهتدي
وهو محمد بن الواثق، بويع بالخلافة سنة ٢٥٥ﻫ/٨٦٨م، وفي أيامه كان أول خروج صاحب الزنج عليٍّ بن محمد، فجمع الزنج الذين كانوا يحملون السباخ جهة البصرة وادعى أنه من نسل الحسين، وعبر نهر الدجلة ونزل الأنبار، وكان المذكور بمدينة سامرا، وخرج منها سنة ٢٤٩ﻫ/٨٦٢م إلى البحرين فدعى نسبته بالعلويين، وأقام في الإحساء ثم في البصرة سنة ٢٥٤ﻫ/٨٦٨م، ثم خرج في هذه السنة واستفحل أمره وبث أصحابه للإغارة والنهب. وفي سنة ٢٥٦ﻫ/٨٧٠م خلع المهتدي؛ لأنه قصد قتل موسى بن بغاء، وكتب إلى «بابكيال» من مقدمي الترك أن يقتل موسى ويصير موضعه، فأطلع بابكيال موسى على ذلك واتفق على قتل المهتدي، فسار بابكيال إلى سامرا ودخل على المهتدي، فحبسه وقتله، وركب لقتال موسى فتخلوا عنه الأتراك، فضعف المهتدي وهرب، فقبض عليه وصفعوه حتى مات، ولما قتل «بابكيال» صارت الأمور بيد «ياركوج» التركي، وكان بينه وبين أحمد بن طولون مودة متأكدة، فاستعمله على ديار مصر جميعها؛ حيث كان بابكيال قد استعمله على مصر سوى الثغور، فلما تولى مصر قوي أمره وعلا شأنه ففي خلافة المعتمد تغلب أحمد بن طولون وصار ملكًا.
(٦) الدولة الطولونية
(٦-١) أحمد بن طولون
تولى سنة ٢٥٨ﻫ أي سنة ٨٧٢م، وهو أول من تسلطن بمصر من ولاة الدولة العباسية، وكان عاقلًا حازمًا كثير المعروف والصدقة، يحب العلماء وأهل الدين، وهو الذي بنى قلعة «يافا» وبنى الجامع المشهور باسمه بالمقطم في محل يعرف مكانه باسم «تنور فرعون» سنة ٢٦٣ﻫ أي سنة ٢٧٧م وبنى «القطائع» المعروف أطلالها الآن باسم «كيمان طولون»، ونقل إليها كرسي المملكة؛ حيث كان بالفسطاط، وبنى أيضًا قلعة الكبش، وفي أيامه عصت عليه أهل برقة، فجهز جيشًا مع لؤلؤ غلامه، وأمره بالرفق واستعمال اللين، فإن انقادوا كان بها وإلا بالسيف، فسار إليها وحاصرها، فما أمكنه فتحها مع استعمال ما أمره به، فأرسل ابن طولون بالجد في حربهم، فنصب عليهم المنجنيق وجدوا في قتالهم فطلبوا الأمان، وقبض على جماعة من رؤسائهم وضربهم بالسياط وقطع أيدي بعضهم، وأخذ معه جماعة وعاد إلى مصر، ولما وصل لؤلؤ إلى مصر خلع عليه ابن طولون، وطيف بالأسرى في البلد.
وفي سنة ٢٦٥ﻫ أي سنة ٨٧٩م أراد الموفق أخو المعتمد كسر شوكة ابن طولون فأرسل جيشًا مع موسى بن بغاء السالف الذكر، فخرج ابن طولون عليه واستخلف ابنه العباس بمصر، ولم يستطع ابن بغاء لمكافحته، فدخل الشام وسلم إليه العامل «علي بن أماجور» فخلع عليه ابن طولون، وملك دمشق وحمص وحماه وكذلك حلب، فملك ذلك كله ثم سار إلى أنطاكية ودعا العامل التركي «سيما الطويل» أمير أنطاكية إلى طاعته، فأبي فقاتله وملك أنطاكية عنوة وقتل سيما المذكور، ثم ملك عدنة وطرسوس من سيليسيا، وأراد الإقامة بطرسوس فغلا سعرها فعاد منها إلى الشام، فأتاه خبر ولده العباس الذي قد استخلفه على مصر أنه عصى عليه وأخذ الأموال وسار إلى برقة مشاققًا لأبيه، فلم ينزعج من ذلك وثبت حتى قضى أشغاله وضبط بلاده ثم عاد إلى مصر وأرسل إلى ابنه ولاطفه فلم يرجع، فحاربه حربًا شديدًا، فأُخذ العباس أسيرًا وحُمل إلى أبيه فحبسه في داره إلى أن قدم باقي الأسرى من أصحابه، فأمره أبوه أن يقطع أيدي أعيانهم وأرجلهم ففعل، فلما فرغ منه وبخه وضربه ثم رده إلى الحبس فخنق به. وفي عصره حصلت حادثة فلكية وهي تساقط النجوم من السماء، فخافها الناس وانزعجوا منها، وحصلت في أيامنا هذه مثلها سنة ١٣٠٣ﻫ أي سنة ١٨٨٥م، وفسرها علماء الفلك الحاليون بأنها ليست نجومًا، وإنما هي حجيرات صغيرة صعدت إلى الجو وصارت بجانب بعضها فمزقتها الكهربائية الجوية وتصاعد من ذلك شرار. ومات ابن طولون سنة ٢٧٠ﻫ أي سنة ٨٨٤م، ومدة خلافته ٢٦ سنة نائبًا وخليفة.
(٦-٢) خمارويه بن أحمد
بويع بعد موت أبيه، وكان ملكًا صاحب أفعال حميدة وآراءٍ سديدة، وأبقى في حكومته جميع من كان مستخدمًا مدة حياة أبيه، وشرع في تزيين القطائع بمباني فاخرة وأخذ الميدان العمومي وجعله بستانًا واحدًا، وزرع فيه أنواع الرياحين وأصناف الشجر وإلى غير ذلك من أشياء النزهة. وفي سنة ٢٧١ﻫ أي سنة ٨٨٥م جرت واقعة بين الموفق وخمارويه بن أحمد بالقرب من دمشق، وتسمى بواقعة الطوحين، آخرها هزيمة المعتضد وأصحابه بين دمشق والرملة، وانهزم خمارويه إلى حدود مصر وثَبَت عسكره ولم يعلموا بهزيمته، وانهزم المعتضد ولم يعلم بهزيمة خمارويه، أي إنها كانت واقعة غير قطعية كان سببها عداوة قديمة بين الموفق والطولونيين، وبعد ذلك بقليل تولى أحمد بن الموفق الخلافة، ولقب بالمعتضد بالله، فلما علم بذلك خمارويه أرسل يهنئه بذلك وتعهد له أن يدفع جزية سنوية قدرها ٣٠٠ ألف دينار، وحصل الاتفاق بينهما، وتزوج الخليفة «قطر الندا» بنت خمارويه، فأرسل إليه الخليفة الحسين بن عبد الله بن الجصاص بهدايا عظيمة، وقد أرسل جيشًا مع طغج بن جف لمحاربة الروم، فبلغ مدينة طرسوس وانتصر هناك على الروم جملة نصرات، ثم توجه إلى دمشق لإطفاء الفتنة التي بها فقُتل. وذلك سنة ٢٨٢ﻫ أي سنة ٨٩٦م.
ولما مات خمارويه بويع لابنه جيش الملقب بأبي العساكر، ثم خلع طغج بن جف أمير دمشق جيش بن خمارويه منها، واختلف جيش أبي العساكر المذكور عليه؛ لحداثة سنه وتقريبه الأرازل وتهديده لقواد أبيه، فثاروا عليه وقتلوه ونهبوا داره، ونهبوا مصر وأحرقوها، وأقعدوا أخاه هارون في الولاية، وكانت مدة جيش المذكور تسعة أشهر، وفي مدة هارون اختل حال ملك بني طولون، واختلف القواد عليه، وانحل نظام مملكته، فانتهز الفرصة ابن جف واستقل بالشام، وفي ذلك الوقت مات المعتضد، وأخلفه ابنه المكتفي، فبعث جيشًا مع محمد بن سليمان فاستولى على دمشق ثم على مصر وصاحبها هارون بن خمارويه، ففارقه غالب قواده ولحقوا بعسكر الخليفة، وخرج هارون بمن بقي معه، وجرى بينه وبين محمد بن سليمان واقعات، ثم وقع في عسكر هارون خصومة فاقتتلوا، فركب هارون لتسكينهم، فزرقه مغربي بمزراق فقتله، فقام عمه شيبان بالأمر وطلب الأمان فأمَّنه محمد بن سليمان، ثم هرب شيبان ليلًا واستولى ابن سليمان على مصر، وأمسك بني طولون وكانوا بضعة عشر رجلًا فحملهم إلى بغداد، وذلك سنة ٢٩٢ﻫ أي سنة ٩٠٤م، وعادت مصر إلى الدولة العباسية ثانيًا.
(٧) الدولة العباسية المرة الثانية
(٧-١) خلافة المكتفي بالله
بويع بالخلافة عقب موت أبيه المعتضد، وهو السابع عشر من خلفاء بني العباس، وكان «بالرقة» وبلغه الخبر فأخذ البيعة على من عنده أيضًا ودخل بغداد. وفي سنة ٢٩٠ﻫ أي سنة ٩٠٢م ابتدأت شوكة القرامطة حتى هزموا جيش طغج بن جف أمير دمشق وحصروها، ثم اجتمعت عليهم العساكر، وقتلوا مقدمهم يحيى المعروف بالشيخ، فقام في القرامطة أخوه الحسين، وسمى نفسه أحمد، وأظهر شامة بوجهه، وزعم أنها آيته، وكثر جمعه فصالحه أهل دمشق على مالٍ دفعوه له، وانصرف عنها إلى حمص، وخطبوا له على منابرها، وسمي بالمهدي أمير المؤمنين وعهد إلى ابن عمه عبد الله ولقبه «المدثر». ثم سار إلى حماة والمعرة وغيرهما، وقتل أهلها وأخذ سلمية بالأمان وقتل أهلها، ولما اشتد أمر القرمطي صاحب الشامة خرج المكتفي من بغداد ونزل الرقة وأرسل إليه الجيوش. وفي السنة الثانية وقعت عساكر الخليفة مع صاحب الشامة بقرب حماة، فانهزم القرمطي المذكور، وقبضوا عليه هو وابن عمه المدثر، وأحضروا إلى الخليفة فسار بهم إلى بغداد، وطيف برأس صاحب الشامة، وقد علمنا أن هذا الخليفة هو الذي أرسل محمد بن سليمان إلى مصر وملكها، ولما خرج محمد بن سليمان من مصر ظهر الخلنجي الخارجي بمصر واستفحل أمره، فسار إليه أحمد بن كيعلغ عامل دمشق، فطمعت القرامطة فيها عند غيابه فنهبوها وقتلوا كثيرًا من أهلها، ونهبوا أيضًا طبرية، ثم قصدوا جهة الكوفة، فسيَّر إليهم المكتفي عساكره فانهزمت عساكر الخليفة. وفي سنة ٢٤٩ﻫ أخذت القرامطة الحجاج من طريق العراق وقتلوهم، وكانوا نحو عشرين ألفًا، وأخذوا منهم أموالًا جسيمة، وكان رئيس القرامطة إذ ذاك «زكرويه» فبعث المكتفي إليه جيشًا، فانهزم «زكرويه» وقُتل، فبعث برأسه إلى الخليفة.
ومات الخليفة سنة ٢٩٥ﻫ أي سنة ٩٠٦م، وكان عامله على مصر عيسى النوشري، وبويع بالخلافة بعده للمقتدر وهو أبو الفضل جعفر بن المعتضد، وحكم سنة واحدة وخُلع، وبُويع لعبد الله بن المعتز، وجرت في أيامه بين المريدين له والمريدين للمقتدر حروب، تمت فيها الهزيمة عليه وعلى أصحابه فهرب وقبض عليه وحبس، قيل خُنق بالحبس، وقيل مات حتف أنفه، وعاد المقتدر ثانيًا إلى الخلافة، وكان عامله على مصر عيسى النوشري أيضًا، الذي في مدته قدم مصر زيادة الله الأغلبي صاحب القيروان، وسبب ذلك أن زيادة الله المذكور انهمك على اللذات وشرب الخمور وقتل من الأغالبة جمًّا غفيرًا، فقوي أمر أبي عبد الله الشيعي القائم بدعوة الدولة الفاطمية بالمغرب، فأرسل إليه زيادة الله جيشًا تحت قيادة إبراهيم ابن عمه فهزمهم الشيعي، فضعف زيادة الله وجمع أمواله ووفد على مصر عند عيسى المذكور، فكتب عامل مصر إلى الخليفة المقتدر يعلم الخليفة بذلك، ثم سار زيادة الله إلى الرقة فأمره المقتدر بالعود إلى المغرب لقتال الشيعي المذكور، وكتب إلى النوشري عامله بإمداد زيادة الله، فقدم إلى مصر فمطله النوشري هذا، وزيادة الله ملازم للهو وسماع الغناء وشرب الخمر، وطال مقامه فتفرق أصحابه ومرض وآيس من النوشري، فسار ليقيم بالقدس فمات ودفن بالرملة، ولم يبقَ من بني الأغلب أحد. وكانت مدة ملكهم ١١٢ سنة، فكان زيادة الله هو آخر ملوك بني الأغلب وابتداء ملك العلويين، وفي أيامه بعث المهدي جيشًا مع ابنه أبي القاسم محمد إلى ديار مصر فاستولى على الإسكندرية والفيوم، فبعث إليهم المقتدر جيشًا فأجلاهم فعادوا إلى المغرب.
وفي سنة ٣٠٢ﻫ/٩١٣م أرسل المهدي ثانيًا جيشًا مقدمه حباشة بطريق البحر فاستولى على الإسكندرية، فأرسل المقتدر جيشًا مقدمه مؤنس الخادم، فانهزمت المغاربة وقُتل خلق كثير منهم، وعادوا إلى بلادهم. وفي سنة ٣٠٦ﻫ/٩١٥م كان العامل تكين الذي في أيامه جهز المهدي جيشًا مع ابنه القائم إلى مصر، فوصل الإسكندرية واستولى عليها، ثم وصل الجيزة وملك جزءًا من الصعيد، وبعث المقتدر مؤنسًا الخادم، وجرت بينه وبين القائم وقعات، ووصل إلى الإسكندرية من جهة المغرب مراكب حربية للقائم، فأرسل المقتدر مراكب من طرسوس لقتال مراكب القائم، فاقتتلت العساكر في البر، فانهزمت عساكر المغرب، وعادوا إلى أفريقا. وفي سنة ٣١٢ﻫ/٩٢٣م قبض المقتدر على وزيره ابن الفرات وقتله هو وابنه المحسن. وفي سنة ٣١٩ﻫ/٩٣١م أرسل المقتدر عسكرًا لقتال مرداويج، فالتقوا بنواحي همدان، فانهزم عسكر الخليفة، فأرسل مرداويج إلى أصفهان فملكها، وفي سنة ٣٢٠ﻫ/٩٣٢م قتل المقتدر لوحشة جرت بينه وبين مؤنس الخادم، فتوجه مؤنس إلى الموصل، فكتب أهلها إلى بني حمدان بصدِّ مؤنس عن الموصل، وجرى بينهم قتال شديد، واستولى مؤنس على الموصل، وأتى بجيش وحارب المقتدر، فانهزم الخليفة وقُتل.
(٧-٢) خلافة القاهر
وهو محمد بن المعتضد، فحصلت وحشة أيضًا بينه وبين مؤنس فعمل الحيلة على قبض مؤنس وقتله. وفي أيامه استولى عماد الدولة بن بويه علي شيراز، وذلك سنة ٣٢٣ﻫ/٩٣٤م، وأصل بويه المذكور رجل متوسط الحال بالديكم، وكان له ثلاثة أولاد؛ عماد الدولة وركن الدولة ومعز الدولة، وكانوا في خدمة «ما كان الديلمي»، فلما قهره مرداويج السالف الذكر دخلوا في خدمته وتركوا «ما كان»، فأحسن إليهم مرداويج، وقلد عماد الدولة بن بويه كرج، فقوي وكثر جموعه، فأرسل مرداويج جماعة للقبض عليه فقابلهم بالترحاب واستمال عقولهم حتى وجبت عليهم طاعته، فلما بلغ ذلك «مرداويج» اغتاظ، ثم قصد ابن بويه أصفهان، فأرسل مرداويج إلى ابن بويه يلاطفه وابن بويه يعتذر، ثم استولى أيضًا على أرجان، وأرسل ابن بويه المذكور أخاه ركن الدولة إلى «كازرون» وغيرها من أعمال فارس، فاستخرج أموالها، وامتد ملك بني بويه من بحيرة الخزر إلى العراق العجمي. رجعنا إلى ما نحن بصدده. وفي سنة ٣٢٢ﻫ الموافقة سنة ٩٣٤م خلع القاهر وبويع الراضي بالله، فولى مصر لمحمد بن طغج بن جف السالف الذكر، ولما تولى على مصر كان العامل عليها أحمد بن كيعلغ فأجبره على الرحيل إلى بلاد المغرب؛ إذ قد ظهرت دولة العلويين فالتجأ ابن كيعلغ المذكور إلى القائم بأمر الله وأقام هناك، وذلك سنة ٣٢٣ﻫ الموافقة سنة ٩٣٤م، ولما توطدت صولته في مصر خرج عن طاعة الراضي بالله، ولقب نفسه بالإخشيد «آق شيد أي شمس بيضاء»، ودخلت مصر تحت حكم الدولة الإخشيدية.
(٨) الدولة الإخشيدية
(٨-١) محمد الإخشيد
تولى محمد الإخشيد نائبًا على مصر من جهة الراضي بالله، وقبل ذلك تولى مدينة الرملة من قبل المقتدر، وأقام بها إلى سنة ٣١٨، ثم جاءته أوامر الخليفة بولايته على دمشق، واستمر واليًا عليها إلى خلافة الراضي بالله، فأمره بالولاية على مصر والشام، واستقر بها فطمع في ثروتها سنة ٣٢٣ﻫ الموافقة سنة ٩٣٥م، ثم جرد له الراضي جيشًا تحت قيادة أبي الفتح بن جعفر لخلع الإخشيد، فوقع بينه وبين أبي الفتح عدة وقائع انتهت بهزيمة أبي الفتح، فصار الإخشيد من وقتئذ سلطانًا، وفي سنة ٣٢٨ﻫ الموافقة سنة ٩٤٠م استولى ابن راتق على الشام، وطرد بدرًا نائب الإخشيد، وبلغ العريش يريد مصر، فأرسل إليه الإخشيد جيشًا مع كافور أحد مواليه، فانهزم كافور فخرج إليه الإخشيد بنفسه، وجرى قتال شديد آخره انهزم ابن راتق إلى دمشق، ثم جهز الإخشيد إلى ابن راتق الجيوش مع أخيه، واقتتلوا فانهزم عسكر الإخشيد وقتل أخوه، فأرسل إلى ابن راتق يعزي الإخشيد في أخيه، ويقول: إنه لم يقتل بأمري، وأرسل ولده مزاحمًا وقال: إن أحببت فاقتل ولدي به، فخلع الإخشيد على مزاحم المذكور، وأعاده إلى أبيه، واستقرت مصر للإخشيد والشام لابن راتق. وفي سنة ٣٣٠ﻫ الموافقة سنة ٩٤٢م استولى ابن البريدي على بغداد، وهرب ابن راتق والخليفة المتقي إلى جهة الموصل، ونهب ابن البريدي بغداد، ولما وصل المتقي وابن راتق تكريت كاتَبَا ناصر الدولة ابن حمدان ليستنجدا به. وقدما الموصل فخرج عنها ناصر الدولة إلى الجانب الآخر، فأرسل المتقي إليه ابنه المنصور وابن راتق فأكرمهما ناصر الدولة، ولما قاما لينصرفا أمر ناصر الدولة أصحابه، فقتلوا ابن راتق. ثم سار ابن حمدان إلى المتقي، فخلع عليه الخليفة المذكور وجعله أمير الأمراء، وخلع على أخيه أبي الحسن علي ولقبه سيف الدولة، ثم سار المتقي وناصر الدولة إلى بغداد، فهرب عنها ابن البريدي، ودخل الخليفة واستقر بها، ولما بلغ الإخشيد قتل ابن راتق سار إلى الشام واستولى عليها وضمها إلى الديار المصرية، ومات الإخشيد بالقدس سنة ٣٣٤ﻫ الموافقة سنة ٩٤٦م، وتولى بعده ابنه أبو القاسم الملقب بأبي الحور، واستولى على الأمر كافور الإخشيد لصغر سنه، ثم سار إلى مصر بعد موت مولاه، فسار سيف الدولة إلى دمشق وملكها، فتوجه كافور إلى دمشق وأخرج سيف الدولة، ورجع كافور إلى مصر بعد أن ولى عليها بدرًا الإخشيد، فأقام سنة ثم ولاها لأبي المظفر بن طغج، وسيف الدولة حلب.
وفي مدة أبي القاسم ولد الإخشيد هجم ملك النوبة على مصر وزحف لغاية أسوان، فقام كافور وهزمه، واقتفى أثره لغاية قلعة أبريم التي هي على بعد ٥٠ فرسخًا من أسوان، ولما مات أبو القاسم أخلفه أبو الحسن أخوه، وفي مدته حصل قحط بمصر استمر تسع سنين، وعند وفاته انتقلت الشوكة إلى كافور، وفي عصره استولى عسكر الفاطميين على الفيوم، وهجموا عليه ونزعوا منه أغلب بلاد الصعيد، ومات سنة ٩٦٨م الموافقة سنة ٣٥٧ﻫ، وكان كافور أحد أرقاء محمد الإخشيد، فلما اشتهر بالسياسة والعدالة قلده مولاه قيادة الجيوش المصرية، ومدحه المتنبي الشاعر المشهور، ثم هجاه وهرب إلى بلاد العجم ومات هناك، وتوفي كافور بعد أن تصرف سنتين، وتولى بعده أبو الفوارس سنة واحدة، وبه انتهت دولتهم كما سيأتي، ومدة حكمهم ٤٣ سنة وكسور.
(٩) ابتداء ملك العلويين أو الفاطميين
قد علمنا فيما سبق أن زيادة الله آخر ملوك بني الأغلب وفد على مصر زمن الخليفة المقتدر بسبب ظهور شيعة العلويين؛ لأن الدعاة بالمغرب كانوا يدعون إلى محمد والد المهدي، وكان بمدينة سلمية «بالمشرق»، فلما توفي أوصى بالخلافة بعده لابنه عبيد الله المهدي وأطلعه على حال الدعاة، وكان ذلك في أيام الخليفة المتقي، فطلب الخليفة عبيد الله، فهرب هو وابنه أبو القاسم الملقب بالقائم وتوجها نحو المغرب، ثم ورد إلى عيسى النوشي عامل مصر كتاب الخليفة بطلب المهدي وابنه، فجدَّ المهدي وقدم طرابلس الغرب، وكان قبل ذلك بقليل قدم مصر زيادة الله الأغلبي كما تقدم ذلك، فأرسل إلى اليسع بن مدرار صاحب سجلماسة بالقبض على عبيد الله، فهاداه المهدي على أنه تاجر، فأرسل إليه زيادة الله يقول له: إن هذا هو الذي يدعو أبو عبد الله الشيعي إليه، فحبسه ابن مدرار بسجلماسة «من أعمال طرابلس الغرب»، فقدم الشيعي وحاربه، فهرب ابن مدرار ودخل الشيعي المذكور سجلماسة، وأطلق المهدي وابنه من الحبس ثم جدوا في طلب اليسع بن مدرار، وأحضروه بين يدي المهدي فأمر بقتله، وسار حتى وصل إلى «رقادة» فدون الدواوين وبعث العمال إلى سائر بلاد المغرب، وزال بالمهدي ملك بني الأغلب وبني مدرار وبني رستم من «تاهرت»، وباشر المهدي الأمور بنفسه، ولم يبقَ للشيعي ولا لأخيه أبي العباس حكم فحقدا عليه، فطلبهما وقتلهما سنة ٢٩٦ﻫ الموافقة سنة ٩٠٨م، وبنى المهدي مدينة مهدية «بتونس» وجعلها دار مملكته وقاعدة سلطنته، وذلك سنة ٣٠٣ﻫ الموافقة سنة ٩١٤م. والفاطميون ينسبون أنفسهم إلى فاطمة الزهراء كريمة رسول الله ﷺ. وكان ابتداء هذه الدولة سنة ٢٩٧ﻫ الموافقة سنة ٩٠٩م وانقراضها سنة ٥٩٧ﻫ الموافقة سنة ١١٧١م، وعدد خلفائهم أربعة عشر؛ ثلاثة منهم حكموا ببلاد المغرب، وهم عبيد الله المهدي وابنه القاسم الملقب بالقائم بأمر الله، ثم ابنه المنصور بالله، وأحد عشر حكموا بمصر أولهم المعز لدين الله.
(٩-١) خلافة المعز لدين الله
وكان شهمًا شجاعًا اتسعت مملكته وكثرت عساكره، وكان صاحب خيرات، ولما مات كافور الإخشيد اضطربت أحوال مصر فسير إليها جوهرًا الصقلي غلام والده المنصور «وسُمي بالصقلي نسبة إلى صقلية؛ لأنه رومي الأصل» في جيش عظيم إلى الديار المصرية فاستولى عليها بلا حرب ولا قتال، وعسكر في المحل المعروف الآن بالجامع الأزهر وخان الخليلي وبيت القاضي، وأقيمت الدعوة للمعز بالجامع العتيق، وكان ذلك في سنة ٣٥٨ﻫ، ثم قدم جوهر إلى جامع ابن طولون، وأمر فأُذِّن فيه بحيَّ على خير العمل. ولما استقر جوهر بمصر شرع في بناء القاهرة، وسميت القاهرة لرمي أحجارها عند توسط المريخ المعروف عند أرباب الفلك من الإسلام باسم القاهر، وسميت الفسطاط بمصر القديمة، وحوَّل إلى القاهرة كرسي النيابة بعد أن كان بالقطائع، ثم أمر ببناء الجامع الأزهر سنة ٣٥٩ﻫ أي سنة ٩٦٩م، وأتمه سنة ٣٦١ﻫ أي سنة ٩٧١م، وجعل جوهر حارة زويلة وغيرها وما جاورها للعساكر القادمة مع المعز من المغرب، وشيد سراي القصر العيني للخليفة وسير جمعًا كثيرًا مع جعفر بن فلاح إلى الشام، فبلغ الرملة وبها الحسن بن عبد الله بن طغج وغيره، فاستولى عليها ثم سار إلى طبرية فوجد أهلها قد أقاموا الدعوة للمعز قبل وصوله، فسار عنها إلى دمشق فقاتلوه، فظفر بهم وملك دمشق ونهب بعضها، وأقام الخطبة للمعز وذلك سنة ٣٥٩ﻫ، وقطعت الخطبة العباسية، وجرت في أثناء هذه السنة بعد الخطبة العلوية فتنة بين أهل دمشق وجعفر بن فلاح، ووقع بينهم حروب، وقطعت الخطبة العلوية، ثم استظهر ابن فلاح، واستقرت دمشق للمعز.
وفي سنة ٣٦٠ﻫ أي سنة ٩٧٠م وصلت القرامطة إلى دمشق وكبسوا جعفر بن فلاح نائب المعز خارج دمشق وقتلوه، وملكوا دمشق وأمنوا أهلها، ثم ملكوا الرملة، واجتمع إليهم خلق من الإخشيدية، فقصدوا مصر ونزلوا بعين شمس، وجرت بينهم وبين المغاربة حرب، فانتصرت القرامطة ثم انتصرت المغاربة، فعادت القرامطة إلى الشام، وكان رئيس القرامطة وقتئذ الحسن بن أحمد بن بهرام. وفي آخر سنة ٣٦١ﻫ سار المعز من المهدية واستعمل عليها يوسف بن بلكين بن زيري، وعلى صقلية الحسن بن علي، وعلى طرابلس الغرب عبد الله بن يحلف الكناني، ولما وصل إلى برقة كان معه محمد بن هانئ فقُتل ولم يظهر الذي قتله، وكان شاعرًا عند المغاربة بمقام المتنبي، وقد اتسع في مدح المعز حتى كفر؛ فمما قاله:
وسار حتى وصل الإسكندرية، فأتاه أهلها وأعيانها، فأكرمهم ودخل القاهرة في رمضان سنة ٣٦٢ﻫ أي سنة ٩٧٣م وحصل بينه وبين القرامطة بالقرب من عين شمس «المطرية» حروب، وكان رئيسهم الحسن بن أحمد بن الإحسائي، فلما رأى المعز كثرة جموعه استعظم ذلك وأهمه وتحير في أمره، ولم يقدم على إخراج عساكره لقتاله، فاستشار أهل الرأي من نصحائه، فقالوا: «لا حيلة غير السعي في تفريق كلمتهم وإلقاء الخلف بينهم.» ففعل المعز ذلك بواسطة ابن الجراح أحد قوادهم؛ حيث برز له مقدارًا من الدراهم، فانهزمت القرامطة وتبعتهم عساكر المعز، وأخذ جماعة منهم وأمر بضرب عنقهم، ثم اقتفوا أثرهم إلى بلدهم الإحساء والقطيف، وهي بالقرب من الخليج الفارسي شرقي بلاد العرب.
وفي سنة ٣٦٤ﻫ/٩٧٤م لما انهزم أفتكين مولى معز الدولة أمير الترك من بختيار صاحب «واسط» سار إلى حمص، ثم إلى دمشق، وكان العامل عليها من طرف المعز «زبان الخادم»، فاتفق أفتكين مع أهل دمشق على إخراج «زبان»، وقطعوا خطبة المعز وولوا أفتكين، فعزم المعز على قتاله فاتفق موت المعز، وذلك سنة ٣٦٥ﻫ/سنة ٩٧٥م.
(٩-٢) خلافة العزيز بالله
ولما مات أبوه جهز القائد جوهر لقتال أفكتين بدمشق، فاستنجد بالقرامطة، فلما قربوا رحل جوهر إلى جهة مصر فتبعه أفتكين والقرامطة وتبعهم خلق فلحقوا جوهرًا قرب الرملة فدخل عسقلان ضعفًا عنهم، فحصروه فعاين الهلاك هو وأصحابه من الجوع، فبذل لأفتكين أموالًا ليطلقه، فرحل أفتكين عنه، وسار جوهر إلى مصر وأعلم العزيز بالحالة، فسار العزيز بنفسه إلى الشام، ووصل الرملة فقاتله أفتكين والقرامطة، فانتصر العزيز وقتل وأسر كثيرًا، وجعل لمن يحضر أفتكين مائة ألف دينار، ودخل أفتكين في هزيمته ببيت صاحبه «مفرج بن دغفل الطائي»، فأسره مفرج في بيته وأعلم العزيز به فأعطاه الجعل، وأحضر أفتكين فأطلقه العزيز وأطلق أصحابه وأنعم عليه وصحبه إلى مصر، وبقي بمصر معظمًا حتى مات بها. وفي سنة ٣٧٢ﻫ بعث العزيز بالله من مصر جيشًا مع بكتكين إلى الشام، فوصل فلسطين وقد استولى عليها مفرج بن الجراح، فاقتتلوا وانهزم ابن الجراح، ثم سار بكتكين إلى دمشق فقاتله قسام المتولي عليها، فغلبه بكتكين وملك دمشق وأمسك قسامًا وأرسله إلى العزيز، فاستقر بدمشق وزالت منها الفتن، وكان العزيز مولعًا بالصيد، ومات ببلبيس سنة ٣٨٦ﻫ أي سنة ٩٩٦م. وتولى بعده ابنه الحاكم، وكان جبارًا عنيدًا وشيطانًا مريدًا، لم يل مصر بعد فرعون أشر منه رام أن يدَّعي الألوهية كما ادعاها فرعون، فأمر الرعية إذا ذكر الخطيب اسمه على المنبر أن يقوموا إجلالًا لذكره واحترامًا لاسمه، فكان ذلك في سائر ممالكه حتى الحرمين الشريفين، وأراد أن يفعل الفاحشة بأخته فعملت على قتله، فركب ليلة إلى الجبل المقطم ينظر في النجوم مثل عادته، فآتاه عبدان فقتلاه بالقرب من حلوان وحملاه إلى دار أخته ليلًا فدفنته في دارها سنة ٤١١ﻫ/١٠٢١م، وهو الذي بنى الجامع المعروف الآن بجامع الحاكم بالقاهرة. وتولى بعده ابنه الظاهر لإعزاز دين الله، وكانت أفعاله جميعها تقرب من أفعال أبيه، ومات سنة ٤٢٧ﻫ أي سنة ١٠٣٦م.
(٩-٣) خلافة المنتصر بالله معد بن الظاهر
تولى بعد موت أبيه سنة ١٠٣٦م، وأقام حاكمًا مدة ستين سنة، ولم يقم هذه المدة خليفة ولا ملك في الإسلام قبله، وفي مدته قطع المعز بن باديس بالمهدية خطبة العلويين، وخطب للقائم بأمر الله العباسي فجرد عليه الجيوش، فلاقاهم ومعه ثلاثين ألف فارس، فانهزم ودخل القيروان مهزومًا، ثم استولت جيوش المستنصر على القيروان ففر هاربًا إلى المهدية ونهبوها. وفي سنة ٤٤٩ﻫ/١٠٥٧م قبض المستنصر بمصر على وزيره اليازرودي لما وجد عنده مكاتبات من بغداد، وكان قبل توليته الوزارة قاضيًا بالرملة.
وفي أيامه سار أرسلان البساسيري لإقامة الدعوة للمستنصر بالعراق، وكان طغرلبك قد ترك بغداد، واقتفى أثر أخيه إبراهيم نيال إلى همدان؛ حيث كان خرج عن طاعته مرارًا، فلما خرج عليه هذه السنة أسره طغرلبك وخنقه، فانتهز الفرصة عند غياب طغرلبك عن بغداد ودخلها البساسيري ومعه قريش بن بدران العقيلي ومعه مائتا فارس وأربعمائة غلام، وخطب للمستنصر بجامع المنصور وأذن بحي على خير العمل، وقطع من الخطبة اسم الخليفة القائم بأمر الله العباسي، ثم خطب للمستنصر أيضًا بجامع الرصافة، وجرى بينه وبين مخالفيه حروب، ثم نزل القائم بأمر الله وأمير الأمراء إلى قريش، وسارا معه باتفاق منه، فأرسل البساسيري يذكر قريشًا بما عاهده عليه من المشاركة في الأمر، ثم اتفقا على أن يتسلم البساسيري أمر الأمراء لأنه عدوه، وبقي الخليفة عند قريش، ونهبت دار الخلافة، ثم سلم قريش الخليفة لابن عمه مهاوش، فسار مهاوش والخليفة في هودج إلى حديثة عانة، فنزلا بها وسار أصحاب الخليفة إلى طغرلبك، فعاد طغرلبك مع جيشه لقتال البساسيري فهزمه وأصحابه، وقتله وبعث برأسه إلى الخليفة، وكان البساسيري مملوك بهاء الدولة بن بويه.
وفي سنة ٤٥٤ﻫ أي سنة ١٠٦٢م حصلت فتنة بين الأتراك والعبيد كانت سببًا في خراب الأقاليم المصرية، وسببها أن أحد الأتراك قتل عبدًا وهو سكران، فاجتمعت العبيد وقتلوه، وبلغ ذلك الأتراك فاجمعوا على مقاتلة العبيد، وتقابل الفريقان في كوم الشريك «بمديرية البحيرة»، وحصلت وقعة انهزم فيها فرقة العبيد، فشق ذلك على والدة المستنصر؛ حيث إنها قد كانت السبب في كثرة جموعهم بمصر بشرائها لهم، حتى بلغ تعدادهم نحو خمسين ألفًا، وقد أمدتهم في تلك الوقعة سرًّا، وكانت قد تحكمت في الدولة ونفذت كلمتها، وحثت على قتال الأتراك، فوقعت الفتن ثانيًا بين الطرفين آل أمرها إلى وقعة بالقرب من الجيزة، وانهزم فيها العبيد أيضًا، وفروا إلى الصعيد وذلك سنة ٤٥٩ﻫ/١٠٦٦م، فازدادت قوة الأتراك بمصر واستخف رئيسهم ناصر الدولة حفيد ناصر الدولة بن حمدان بالخليفة، وصاروا يطلبون منه أموالًا حتى نفذ جميع ما في الخزينة والتزم ببيع ما عنده، وبعد ذلك سار ناصر الدولة إلى الصعيد لقتال العبيد، فقتل منهم خلقًا كثيرًا، وعاد إلى القاهرة واستبد بسلطنة مصر، حتى دخلت سنة ٤٦١ﻫ فثقل مكانه على الأتراك فاجتمعوا جميعًا على عزله، فأمره الخليفة بالخروج من القاهرة، فخرج إلى الجيزة ثم عاد ليلًا، ودخل دار القائد تاج الملوك شادي، وترامى عليه فقام لنصرته، وحصلت وقعة عظيمة بينه وبين عسكر الخليفة، فانكسر فيها ناصر الدولة وفر إلى البحيرة، وكثر النهب واشتد الغلاء حتى أكل الناس الجيف، وقطعت الطرق، وكثر القتل فيها إلى أن دخلت سنة ٤٦٣ﻫ أي سنة ١٠٦٩م. فجهز الخليفة جيشًا لقتال ناصر الدولة، فانهزمت عسكر الخليفة واستولى ناصر الدولة على الوجه البحري وخطب باسم الخليفة القائم بأمر الله العباسي، ونهب أكثر الوجه البحري، فعظم البلاء واشتد القحط وكثرت الموتى، فاضطر الخليفة إلى مصالحة ناصر الدولة بمالٍ يحمل إليه، وبعد قليل وقع الاختلاف بينهما فأتى ناصر الدولة وحاصر القاهرة ونهبها ورجع إلى البحيرة، ومكث هذا الغلاء سبع سنين، وخربت الفسطاط والقطائع.
ولما رأى الخليفة ضعفه واستيلاء ناصر الدولة على مصر والعبيد على الصعيد كتب إلى أمير الجيوش محمود بدر الجمالي الأرمني، واستدعاه من عكا لقمع أرباب الفتن. وفي ذلك الوقت فطن لأمور ناصر الدولة حموه المدعو إيلدكوز، فاتفق هو وجماعة على قتله، وقصدوا داره فخرج إليهم مطمئنًّا بقوته، فضربوه بسيوفهم حتى قتلوه وأخذوا رأسه، وقتلوا أخاه فخر العرب، وقتلوا جميع بني حمدان بمصر، وأتى بدر الجمالي لما استنجده الخليفة من الشام إلى دمياط، وانحدر جهة الجنوب وسار حتى وصل قليوب، فأمر أمير الجيوش بدر الجمالي أمراء الترك بالقبض على «إيلدكوز» فأجابوه لطلبه، وبعد ذلك عزمهم في وليمة وقتلهم جميعًا، ومن ثم صار بدر الجمالي مهابًا محترمًا، وصارت له الكلمة النافذة على مصر، فقلده الخليفة بأمير الجيوش، وأخذ في قمع أرباب الفتن بعد أن قتل إيلدكوز، وشرع في إحياء التمدن، ونشر العلوم التي اندثرت مدة تلك الحروب الداخلية، ومنع الضرائب السنوية مدة ثلاث سنين عن سكان المدن والأرياف؛ لينصلح بذلك حال الأهالي، ولم تحصل بمصر أمور مهمة في مدته سوى إغارة أمة التركمان تحت قيادة «أتزيز» الذي استولى على القدس ودخل مصر ووصل إلى القاهرة، فقام أمير الجيوش وطردهم ومزقهم كل ممزق واقتفى أثرهم إلى أن أدخلهم أرض الشام، وهناك مات رئيسهم «أتزيز»، ومات أمير الجيوش في سن الثمانين، وحكم مصر مدة ٢٠ سنة، ونشر العلوم وأوسع نطاق التجارة والزراعة والفنون، وله آثار عظيمة باقية إلى الآن؛ منها باب زويلة وباب الفتوح وباب النصر، ومات المستنصر سنة ١٠٩٤م أي سنة ٤٨٧ﻫ، وكان ضعيف الرأي متكاسلًا، ومن ثم قاسى أهوالًا جسيمة، مع أن آخر حكمه عادت مصر لبهجتها القديمة أي لما كانت عليه زمن الفراعنة، ثم أخذت بعده دولة الفواطم في الاضمحلال شيئًا فشيئًا.
وتولى بعده ابنه أحمد، ولقب نفسه بالمستعلي، وكان الحكم في أيامه لوزيره جاهين شاه بن بدر الجمالي، ولقب نفسه بالأفضل، وفتح القدس في زمن أميرها «أورنك» وابنه «أكساك»، وبعد ذلك بقليل حصلت حرب الصليب الأول تحت قيادة «جدوفروادو بويون»، فأرسل الأفضل جيشًا مع سعد الدولة، فهزم أصحاب الصليب في عسقلان، وهو الذي بنى الجيوشي فوق المقطم، ومات المستعلي بعد ذلك بسنتين، وصار الأفضل وصيًّا على ابنه المنصور؛ حيث كان صغير السن، ولقب بالآمر بأحكام الله، وفي مدته استولى المسيحيون على أغلب المدن البحرية من الشام كعكًا وطرابلس الشام، وأرادوا التوجه والهجوم على مصر، وذلك سنة ١١٠١م سنة ٤٩٥ﻫ تحت رياسة بودوين الأول ملك القدس الشريف، وساروا حتى وصل مدينة الفرما، ونهب ما مر به من البلاد، ثم اعتراه مرض فمات بالعريش في محل يعرف باسم «رمال بودوين»، وقتل الخليفة بعد قليل وخلفه ابن عمه الحافظ لدين الله، فأخذ في اللهو وشرب الخمر وانهمك على اللذات مدة عشرين سنة، ثم نقل الخلافة إلى ابنه إسماعيل ولقب الظافر بأعداء الله، فكانت أفعاله كأفعال أبيه، ثم أهان وزيره عباسًا فقتله وولى الخلافة إلى الفائز بنصر الله فحكم ست سنين، ومات عباس الوزير، ومات الخليفة بعده بقليل، فتولى الوزارة بعد عباس طلائع بن رزيك، وتولى الخلافة العاضد سنة ١١٦٠م سنة ٥٥٥ﻫ وهو آخر خلفاء الفاطميين. وطلائع بن رزيك هو الذي نقل رأسًا من عسقلان قيل إنها رأس الحسين وبنى عليها المشهد الحسيني المشهور بالقاهرة، وزوَّج ابنته للخليفة فعظمت شوكته وتكبر وتنمرد فقتلوه أعداؤه، فاستوزر الخليفة بعده شاور، فتغلب عليه درغام فسار شاور إلى نور الدين محمود بن زنكي صاحب الموصل، فأمده نور الدين، وأعاده إلى وظيفته بالثاني؛ حيث أرسل معه جيشًا مع أسد الدين شركوه الكردي، وكان معه ابن أخيه صلاح الدين يوسف، فهُزم درغام وقُتل، وأعيدت الوزارة إلى شاور، ولخوفه من غدر نور الدين بن زنكي تعاهد مع «أموري الأول» ملك القدس، فأتى وحاصر مدينة بلبيس، فهزمه شركوه وفر أموري المذكور إلى الشام، فخلع الخليفة عليه وقلده الوزارة بدل شاور؛ حيث هو الذي أطمع الفرنج في الإسلام بعد أن قتله.
واستمر شركوه وزيرًا إلى أن مات، فخلفه صلاح الدين يوسف الكردي. وفي أيامه أراد أموري الاستيلاء على دمياط فخاب أمله بالكلية الجزئية؛ حيث تبعه صلاح الدين إلى أن أدخله أرض فلسطين وانتصر عليه بالقرب من مدينة «غزة»، وعند رجوعه من هذه الغزوة صدرت إليه أوامر نور الدين بقطع اسم العاضد الفاطمي من الخطبة، ورجوع الدعوة إلى الخليفة العباسي المستدعي بالله، وهو الخليفة الثالث والثلاثون من خلفاء بني العباس، ومات العاضد بعد ذلك بقليل، وبه انتهت الدولة الفاطمية، وذلك سنة ١١٧١م سنة ٥٦٧ﻫ.