خصائص عامة
بشكل عام، نجد أن الاتجاهات الأساسية في الفكر الغربي المعاصر قد تشكلت إبان القرن العشرين. والحق أن هذا القرن، وما تلاه من عقد أول في القرن الحادي والعشرين، إنما يُمثِّل مرحلة خصيبة شديدة التميُّز فعلًا في تاريخ الفكر والفلسفة، بل إن هذا التميُّز لينصب تحديدًا على مستهل هذا المرحلة، أي العام ١٩٠٠م، وسوف نرى كيف كان بدوره — وعلى نحو لافت — عامًا حاسمًا في تاريخ الفلسفة بأسره.
ولا شك أن هاجس المنهجية قد سيطر سيطرةً طاغية على الفلسفة المعاصرة بتأثير من النجاح المتوالي للعلم الحديث الذي تميز بمنهجه وبأنه علَّم البشر أن كل إجابة تكون ناجحة بقدر ما تفتح الطريق لتساؤلات أبعد؛ لأن مسار البحث العلمي متوالية من نجاح لا ينتهي أبدًا.
ويتجسد هذا التأثير للنجاح المتتالي للعلم أيضًا فيما نلاحظه من خاصية أخرى وسمْتِ معظم تيارات الفكر في القرن العشرين، وهي غلبة الميل نحو التجريبي والواقعي والعيني والحي والمعاش والفعلي والملموس والنسبي والمتغير. وهذا يعني، من ناحية أخرى، ابتعادًا مقابلًا عن المطلق والمجرد والذهني الخالص، وتقلص نفوذ الميتافيزيقا.
وبنظرة عميقة يمكن ملاحظة أن هذا التقابل بين التيارَين إنما يرتد بشكل ما إلى أن عالم الفلسفة هو مطلق عالم الإنسان، ويدور حول محورَين أساسيَّين؛ هما المعرفة والوجود، أي الذات العارفة والكون موضوع المعرفة، أو الإنسان والعالم. لا يمكن إنكار أيٍّ من هذين المحورَين، ولكن السؤال: الأسبقية لمن؟ أيهما الأصل والآخر فرع أو امتداد له؟ التيار الطبيعي المادي يرى الطبيعة والعالم المادي هو الأصل، فيبدأ من المادة … من الواقع … من التجربة الملموسة والتي تمثل محكًّا موضوعيًّا، وينتقل منها إلى الفكر. وفي المقابل يبدأ التيار المثالي من الفكرة، ليهبط منها إلى المادة والطبيعة والعالم، لتغدو الفكرة أشد حقيقية من الشيء والمقولة أكثر تمثلًا من الموجود.
قد يتطرف المذهب الطبيعي في اتجاه المادية تطرفًا ممقوتًا، فيرى عالم الفكر والروح والوعي والعاطفة والشعور والقيمة والمثال … إلخ إنما هو محض نتيجة فرعية للمادة، أو وظيفة تقوم بها نوعية معينة من أنواع المادة، وكما قيل في القرن التاسع عشر: «المخ يفرز التفكير كما يفرز الكبد الصفراء.» أجل ربما يفرز المخ التفكير، ولكن ليس البتة كما تفرز الكبد الصفراء، بل آليات أعقد ألف مرة، أو بالأحرى آليات مختلفة تمامًا.
على أية حال، فإن هذا التطرُّف الأرعن وتلك المادية الساذجة انتهت بتطورات العلم في القرن العشرين، بتأثير الفيزياء المعاصرة التي جعلت من المادة كائنًا أشد روحانية وشفافية. وباتت التجريبية المعاصرة أكثر اعتدالًا وتبصرًا، وأشد إدراكًا لدور العقل الإنساني والإبداع البشري. لقد كان العلم الحديث، الذي هو تمثيل عيني للمعرفة التجريبية، نموذجًا فريدًا لنجاح المشروع المعرفي، وليس من قبيل المبالغة القول إن العلم الحديث هو أنجح مشروع أنجزه الإنسان.
كانت المثالية طوال تاريخ الفلسفة هي الأكثر شيوعًا بل والأعلى مقامًا؛ لأنها ترفع قيمة الفكر والإنسان فتُرضي العقل والعاطفة معًا، وكان أقطابها هم أقدر الفلاسفة وأشهرهم، حتى أن النظرة العابرة من أنصاف المثقفين قد تُلقي في الروع أن المثالية هي ذاتها الفلسفة. وقد تغير هذا الوضع للمثالية في القرن العشرين والفكر المعاصر.
وقد قيل إن العام ١٩٠٠م عام حاسم لأنه شهد صدور أعمال فلسفية رائدة، وتكاثُفًا لمدٍّ فلسفي سوف يتنامى ليزيح المثالية لحساب التيار الطبيعي التجريبي والواقعي.
•••
على هذا الأساس العريض كانت المعالم المميزة لفلسفة القرن العشرين واتجاهات الفكر الغربي المعاصر، فتتمثل هذه المعالم في تقلُّص نفوذ المثالية الميتافيزيقية الخالصة، وبالتالي الالتفاف حول العيني والواقعي والعملي والحي والمعاش والمتعين … وفي هذا تبرز التجريبية كلافتة عريضة تفرض ذاتها.
وكما هو معروف، كانت النزعة الطبيعية مرتبطة بالتجريبية التي هي تمثيل عام لروح العلم.
ومن المهم ملاحظة أنه من المنظور العلمي المعاصر قد تطور مفهوم المادة — كما أشرنا — نتيجة للثورة العلمية العظمى التي اقترنت بها مطالع هذا القرن، أي الثورة التي حدثت بفعل ظهور نظرية الكوانتم كأساس لفيزياء الذرة وما دون الذرة لتنطلق من أسس إبستمولوجية وأنطولوجية مختلفة كثيرًا، وقد ظهرت نظرية الكوانتم بدورها في هذا العام الحاسم تحديدًا في ١٧ ديسمبر ١٩٠٠م، ثم كان تطورها اللافت وثورتها الثانية في العام ١٩٢٧م. لحق بنظرية الكوانتم نظرية النسبية لألبرت آينشتين التي قوضت عالم الفيزياء الكلاسيكية أي عالم نيوتن المألوف للجميع، وتحدثت عن عالم مختلف تمامًا بدا أصدق خبرًا.
مثلت نظريتَا النسبية والكوانتم أساس الفيزياء الحديثة في القرن العشرين، حيث تطور دور التجربة تطورًا كبيرًا، ولحقت به تغيرات جمة، فلم تعد المادة هي الكتلة الجامدة المصمتة، بل باتت شحنات من الكهارب وحركة دائمة. وبالتالي تطور مفهوم التجريبية ذاته.
ومن ناحية أخرى، أو بالأحرى في مرحلة لاحقة، نجد أنه حتى السبعينيات من القرن العشرين كان الأمر محسومًا لصالح الفيزياء بوصفها أنجح وأقوى ضروب المعرفة التي امتلكها الإنسان، وبات يُنظر إلى علماء الفيزياء على أنهم في عتاد الأمن القومي، ولئن شهد العقدان الأخيران من القرن العشرين رجحان كفة علوم الحاسب الآلي والمعلوماتية وثورة العلوم البيولوجية والجينات والهندسة الوراثية والنانو تكنولوجي … إلخ، فإن الفيزياء تظل طرازًا معرفيًّا رفيعًا ومرتبة عالية ارتقى إليها العقل الإنساني، وارتقى تصوره للتجريبية إلى درجة تمثل قطعًا معرفيًّا عمَّا سبق، واتضح في ضوئها الصورة الحقيقية الخلاقة للتكامل والتآزر بين العقل والحواس، أو الفرض والملاحظة، فاكتسبت السمة العلمية والتجريبية قوة توجيهية كبيرة للفكر الفلسفي في القرن العشرين. وبجانب فلسفة العلم التي غدت أبرز فروع الفلسفة، أصبحت معظم التيارات الكبرى في فلسفة القرن العشرين توصف بأنها «فلسفات علمية» ممَّا يعكس المد الكبير للتجريبية امتدادًا للتيار الطبيعي.
فلسفة العلم موضوعها ظاهرة العلم الحديث، أما الفلسفة العلمية فتبحث الموضوعات التقليدية للفلسفة، لكن بأسلوب جديد يقتبس روح العلم وطابعه، خصوصًا كما يتمثل أساسًا في تجريبية القرن العشرين المتطورة، بأبعادها الجديدة التي وسمت اتجاهات الفكر المعاصر بميسم لا تخطئه العين.
•••
هكذا نخلص إلى أن مختلف مذاهب التيار الطبيعي والفلسفة التجريبية في القرن العشرين قد التقت على خصائص عامة مقتبسة من روح العلم، باتت تميز فلسفة هذا القرن بأسرها؛ فهي جميعًا تتجه نحو عالم الظواهر والخبرة وتنصب على الواقع فتغدو وثيقة الاتصال بفرائده لا تنفصم البتة عنه، ولا قبل لها بالتحليق في سرمد الفلسفات المثالية الخالصة. وبتأثير المد التجريبي شهد القرن العشرون عزوفًا عن بناء أنساق شامخة تستوعب الوجود والمعرفة والقيم جميعًا، على غرار مذاهب كانط وفشته وهيجل والفلسفات المثالية عمومًا منذ أفلاطون. وأصبحت الفلسفة في القرن العشرين مناهج أكثر منها مذاهب، أي أسلوب للبحث وطريقة للنظر وليست مصفوفة من الحقائق أو بناءً مهيبًا من الأفكار المطلقة، وبالتالي أخذت الفلسفة من الروح العلمية التجريبية التناول الجزئي وأحيانًا التفتيتي للموضوع، فانفسح رحاب الفلسفة لطابع العلم الجمعي التعاوني، لتتآزر الجزئيات معًا نحو التصور الأكمل للموضوع والمتنامي دومًا. لم يعد المذهب الفلسفي فتحًا لعبقرية جبارة يقتصر اللاحقون على ترتيله، بل أصبح شقًّا لطريق تتوالى فيه الجهود وتتواصل.
وإذا حاولنا أن نتتبع مد التجريبية والتيار الطبيعي في فلسفة القرن العشرين، سوف نجد أنفسنا بإزاء تحديد عام لأهم مذاهب الفلسفة واتجاهات الفكر في هذا القرن الذي كان متوهجًا.